أثيرت أخيرًا في بعض البلدان العربية مسألة تدريس الموسيقى في مدارسها, وهو شيء تغافلت عنه دول عربية أخرى, كان من الأمور التي تلفت النظر - على الأقل نظر الأجانب - في ميدان التعليم في العالم العربي انعدام مادة الموسيقى من المناهج الدراسية. هذا ما أشارت إليه باستغراب منظمة اليونسكو في أول تقاريرها عن التعليم عندنا. ففي الغرب تعتبر الموسيقى موضوعا أساسيا منذ أولى سنوات الدراسة حتى تخرج التلميذ في المدرسة الثانوية, حين تصبح مادة من مواد الامتحانات وتسجل في شهادة التخرج, ليس من ذلك شيء في معظم المدارس العربية, حيث لا توجد آلات موسيقية ولا معلمون للمادة ولا غرفة للعزف والتمرين. أقصى ما يحصل عليه التلميذ هو تعلم بعض الأناشيد الوطنية. يزداد هذا الموقف تشددا بالنسبة للمرأة, نعتبر قيامها بالغناء والموسيقى صنوا لسقوطها بالإثم. مرة أخرى نلمس هذا التباين في النظرة, ففي الغرب يعتبرون تعلّمها الغناء والعزف جزءا من حسن تربيتها, ولا تعتبر مهذبة تماما دون ذلك, مثلما لا يعتبر أثاث بيتها كاملا دون بيانو في الصالون. يخطر للذهن أن هذا التجاهل للموسيقى يرتبط بنظرتنا التقليدية إليها كنوع من العبث وفساد الأخلاق وحتى الكفر بالنسبة للبعض. يروي العواد العراقي سلمان شكر أن والده كان يكسر آلة العود حالما يراه يجلبها للبيت ويعنّفه ويؤنّبه. ما السر في هذه النظرة الدونية?
كنت أقرأ كتاب البروفيسور ريسي (عمل الموسيقى في العالم العربي) الذي نشرته أخيرا جامعة كمبردج واصطدمت بهذا الموضوع. وُلد ريسي في لبنان وفيها تعلم الموسيقى الشرقية, ولاسيما العزف على الناي. ثم رحل إلى أمريكا حيث واجه الموسيقى الغربية فتعلّمها أيضًا بما أهّله ليصبح أستاذًا للموسيقى الإثنية في جامعة كاليفورنيا. فهو بهذه السيرة من أقدر الباحثين على عقد المقارنة بين المدرستين وتعبئة المعلومات الدقيقة المتصلة بالموضوع.
يبدأ المؤلف بحثه بمناقشة فكرة الطرب, المفهوم العربي الذي ليس له وجود في الحياة الغربية, وبالتالي لا توجد كلمة مرادفة له في لغاتهم, ولكنه يغامر فيستريح إلى ترجمة طرب بكلمة ecstacy, ويقصد بذلك حال الانفعال النفسي التي يذوب فيها السامع بسحر الموسيقى (تشمل الغناء طبعا), ويدخل في حال نشوة, حتى يفقد تقريبًا السيطرة على نفسه. وهنا يعقد مقارنة طريفة بين المدرستين الموسيقيتين, الشرقية والغربية. كان بين من صاحب نابليون في غزو مصر ضابط حضر حفلة غنائية في القاهرة فراعه ما شاهده وسمعه فيها من حال الطرب, كيف أن المستمعين فقدوا هيبتهم وتحوّلوا إلى أناس آخرين, ففقدوا السيطرة على أجسامهم وأرواحهم وراحوا يصرخون ويشاركون المطرب في عمله. بعد سنوات قليلة, ذهب أحمد فارس الشدياق إلى مالطة حيث حضر حفلة موسيقية غربية, فعلّق عليها, وأشار إلى هذه الفروق بين ما سمعه فيها وما عرفه في بلده. لاحظ أن موسيقى الغربيين تتوقف على النوطات والانسجام (الهارموني), فيتلقاها السامع في نطاق الأشكال والصور مقابل التنوّع والمرونة الإيقاعية في الموسيقى العربية بما يثير العواطف الحادة في السامع.
إذن فالأولى تطرق العقل والتصور الذهني, والثانية تطرق القلب والانفعال العاطفي. السر في ذلك أن الموسيقى الغربية تعتمد على الآلات, وبالتالي أميل إلى التجريد. فالصيغ الرئيسية فيها كالسيمفونية والكونسرتو والسوناتا وموسيقى الصالونات لا يوجد فيها غناء, في حين أن الموسيقى العربية القليلة الآلات تعتمد على سحر الكلمة. نحن نواجه هنا أيضا التفوّق الغربي في التكنولوجيا, مكّنهم ذلك من تطوير عشرات النماذج من الآلات الموسيقية بما أغناهم عن حنجرة الإنسان. في مقابل ذلك, اضطررنا نحن إلى الاعتماد على حناجرنا بالغناء, وبالتالي على الكلمات والشعر, وهذا يزيد من اتكالنا على العواطف والتفاعل المباشر مع المستمع. وبالتركيز على الكلمات, جرى التركيز على الحسيّات والجسديات, وصف المرأة, والتغني بها, وأيضًا على ذكريات الليالي الملاح ومغامراتها والحنين لها, وعلى الهيام والغرام والغرائز عمومًا.
بهذا التركيز على العاطفة والغريزة, تحوّلت الموسيقى إلى باب من أبواب الضعف الإنساني والتخدير من ناحية, والإثارة من ناحية أخرى. طالما قيل إن أم كلثوم كانت من أسباب هزيمة 1967, هذا من الأسباب التي تجعلني أتحاشى سماع الأغاني العربية. كان من آخر ما سمعت أغنية نجاة الصغيرة (القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب), أثارت في نفسي من ذكريات الهوى والحنين والوجد ما أغرق وجهي بالدموع إلى الحد الذي جعلني أبعد الكاسيت من سيارتي وأقفل عليها الدولاب في البيت. أصبحت خطرًا يهدد سلامة السيارة, الأغاني العربية تهاجم الإنسان في أضعف نقاطه.
بانفصال الرجال عن النساء في مجتمعنا, أصبحت مجالس الطرب مجالس ذكورية صرفة, فتحرر الموسيقيون كليا من الروادع الاجتماعية والدينية. تحوّل الكثير من مجالس الطرب إلى بؤرللانفلات. تعمّقت الفكرة السلبية نحو الموسيقى, يروي المؤلف -البروفيسور ريسي- كيف أن والد أم كلثوم كان يشترط عليها أن تغني بالحجاب والعباءة, وكان يمنع ظهور صورتها في الإعلانات عن حفلاتها, وكانت تلبس ملابس الرجال ليبعد فكرة الأنوثة عنها.
أصبح هذا التركيز على العواطف والأحاسيس والغرائز من أسباب النظرة الدونية إلى الموسيقى, بما أدى إلى استبعادها من التعليم والتربية, وحتى الثقافة عمومًا. قلما نجد بين مفكّرينا وأدبائنا من يحسن العزف على شيء أو يعرف الكثير عن الموسيقى. وهذا شيء يختلف كليا عن وضع الموسيقى في المجتمع الغربي. فبإبعادها عن الحسيّات والغرائز (وأنا هنا لا أتكلم عن أغاني البوب) أصبحت عندهم جزءا من عالم التكنولوجيا والرياضيات والعلم والفكر عموما.
أشعر بأن هوس شبابنا حاليا بالأغاني الحسيّة والعاطفية الرخيصة وانتشارها بفضل الأجهزة الإلكترونية الشائعة أصبح خطرا يهدد أخلاقيات الجيل الجديد وينخر في قيمنا وسلوكنا. هذه مسألة طويلة ولكنني أعتقد أن تدريس الموسيقى في البيت والمدارس سيساعد على تصحيح هذا المسار.
ولم لا نبدأ بترجمة هذا الكتاب القيّم إلى العربية رغم توجهه للقارئ الغربي, واقتصاره على الشام ومصر وعلى تقاليد الطرب دون جوهر الموسيقى العربية وأسسها?! فالكتاب لا يتعمّق في أصول الموسيقى العربية ولا في نظريات الفلاسفة العرب في شأنها, ولكنه يعطينا صورا مفيدة عن تعامل المطربين والموسيقيين العرب مع هذا الفن.