مختارات من:

النهوض باللغة أم بمتكلمها؟

آزاد حموتو

قرأت الموضوع الذي طرحه الدكتور حامد طاهر (كيف ننهض باللغة العربية?) الذي نشر على صفحات مجلة (العربي) في باب قضايا أدبية (العدد رقم 540 نوفمبر 2003), والذي عبَّر فيه الكاتب عن قلقه العميق وفزعه المخيف حول وضع اللغة العربية التي وصلت إليها اليوم وأيضا عبِّر فيه عن مخاوفه من مستقبل اللغة العربية وهو يطرح في أسطره خطة مؤلفة من عدة نقاط لإنقاذها.

إن السبب الذي دفعني لكتابة هذه الأسطر ليس فقط المقال, ولكن أيضا الحديث المتواصل منذ فترة عن وضع وحال اللغة العربية, وأيضا الحديث عن سبل معالجتها وحلولها وذلك عن طريق إقامة الندوات والمؤتمرات وتشكيل اللجان المختصة لذلك, وعقد جلسات للجان الصياغة المختصة في مجامع اللغة العربية في الآونة الأخيرة. من جملة هذه النشاطات, فقط للتذكير: عقد مؤتمر اللغة العربية وثقافتها في بيروت أخيرا.

فاللغة كما نعرف وكما هي مبينة من علماء الألسنيات هي من أهم الوسائل التي يملكها الإنسان للتفاهم والترابط مع الآخرين وأيضا لتبادل ونقل الأفكار, وايضا للتعبير والتعريف, وهي جزء أساسي منه. كذلك الحقيقة العلمية التي تقول إن اللغة تتطور وتنمو مع الإنسان والعكس صحيح.

كما أن اللغة تعرف بأنها كائن حي ديناميكي متحرك متغير مثل كل الكائنات الحية. فهي تولد مثل باقي الكائنات وتبدأ أولى خطواتها بالحبو على الأيدي والأرجل, ومن ثم تبدأ بالمحاولة على الوقوف على أرجلها لكي تستطيع المشي بمفردها. بعدها تكبر وتنمو وتصبح يافعة. ثم تدخل مرحلة الشباب والعنفوان وهي مرحلة الترحال والسفر والاحتكاك مع الآخرين. ثم تأتي مرحلة الاستقرار والازدهار والتطور. بعدها تأتي فترة الشيخوخة و من ثم الوفاة. وكما هو معلوم: توجد كائنات قوية البنية والبدن تتحمل الصعاب والتغرب وهي التي لديها المناعة الكافية ضد الأمراض المعدية, وأخرى ضعيفة البنية تنهار أمام أي عدوى قد تصيبها.

هذا من جانب, من جانب آخر كل كائن حي معرض للتغيير وللضعف, من مرض وشلل وزوال, وهذه الحالات كلها تنطبق أيضا على كينونة وحال اللغة.

التأقلم والانصهار

نقطة أخرى مهمة متشابهة بين الكائنات الحية هي أنه لدى بعضها القدرة على التكيف والتأقلم والاندماج والانصهار ببيئات ومحيطات وأجواء جديدة مختلفة كل الاختلاف عن مواطنها الطبيعية. وهذا ينطبق على كل الكائنات الحية التي لديها القدرة على العيش في مناطق خارج بيئتها وموطنها الأصلي مثل الإنسان والحيوان والنبات. مثلا الإنسان الذي يعيش في مناطق جغرافية حارة لديه القدرة على أن يعيش ويتأقلم في مناطق جغرافية مختلفة عن وطنه وبيئته الطبيعية, مثلا أن يسكن ويستوطن في مناطق جغرافية باردة. أيضا بعض أنواع النباتات وأنواع معينة من الحيوانات لها القدرة على العيش والتأقلم في مناطق غير بيئتها الأصلية الطبيعية المعتادة عليها.

الكائنات التي ليس لها القدرة على التكيف والعيش تنقرض وتزول والأمثلة عليها كثيرة. والتاريخ مليء بحوادث تنقل وتأقلم الإنسان والحيوان والنبات والعكس..!

وكما يندثر شعب ويظهر شعب جديد, تندثر لغة وتظهر لغة جديدة.

فاللغة - أيضا بالمعنى المجازي - تنطبق تقريبا عليها كل هذه المواصفات المذكورة آنفا.

اللغة كمثل بعض المخلوقات تهاجر وتتأقلم وتنصهر بلغات أخرى وتنتشر وتتوزع وتعيش وتستوطن بمناطق غير موطنها الأصلي الطبيعي وذلك إما عن طريق القوة والسيطرة والتحكم والتبشير بفكرة ما, وإما عن طريق التقنية الضرورية للحياة اليومية كالتكنولوجيا أو عن طريق التجارة أو عن طريق السياحة بأنواعها المختلفة.

أنني لا أوافق كاتب المقال بدقه ناقوس الخطر حول وضع اللغة العربية الذي وصل برأيه إلى حافة الانهيار والتدهور المخيف, الذي بات برأيه يهدد كيان ووجود اللغة العربية. وأيضا لا أشاركه خوفه غير المبرر حول احتمال فقدانه لهويته. يكفي أن نقرأ مقال الدكتور محمد جابر الأنصاري (المقال منشور بالعدد نفسه من مجلة (العربي), باب قضايا لغوية) ونرى تفاؤله ونظرته الإيجابية حول وضع ومستقبل اللغة العربية في الوقت الراهن لكي يتبدد عنا كل ضباب وغيم عن حال اللغة العربية. مثال تاريخي معروف للكل وبسيط حول هذه النقطة: الأخوة في المغرب العربي- بالأخص الجزائر- رغم حضور استعماري مكثف وبمدة جاوزت عدة أجيال ومع سياسة صهر ودمج مركزة وقوية لم تفلح بطمس هوية الجزائر وانتمائها للقومية العربية والأمازيغية, علما بأن عددًا كبيرًا من الجزائريين نسوا لغتهم الأصلية, ومنهم من يعيش منذ أمد طويل حتى في بلد المستعمر القديم.

ولكن أؤيده كل التأييد في أن اللغة هي مفتاح التراث, واللغة العربية المستعملة في بعض المجالات الحيوية والمهمة -كالمواعظ- اليوم أصبحت تقليدية لا تعبر بشكل واضح ومفهوم عن جميع شرائح المجتمع بالزمن الحاضر, ويلزمها تطوير وتحديث لكي تتواصل وتفهم من الجميع.

وباعتقادي اللغة العربية بحالة جيدة, وهي بتطور مستمر, ولكن قد يكون تطورا بطيئا بعض الشيء. كدليل بسيط على هذا الاعتقاد: لم ننس بعد ولادة وظهور أدب الحداثة في منتصف القرن الفائت والذي هو نوع أدبي جديد يضاف إلى أنواع الأدب العربي الكثيرة. وهذا يسمى تطورا وتقدما وليس جمودا وتخلفا!

ولكن كل هذا لا يعني أن اللغة العربية الآن هي بصحة ممتازة أو جيدة. بل هي مريضة وأيضا في محنة وتمر بمرحلة عصيبة, ويجب ألا ننسى أن الإنسان العربي أيضا في محنة ويمر بمرحلة عصيبة لا يحسد عليها, فكيف بلغته التي هي جزء أساسي منه?!!

فاللغة لا يمكن النهوض بها ما لم ينُهض بوضع وحالة المتكلم بها وذلك من كل الجوانب الأساسية لنمو وتطور وتقدم الإنسان مثل الجانب الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي, ومن ثم الثقافي الفكري له.

فاللغة تحتاج- كما الإنسان- إلى من يرعاها ويحضنها ويحميها من جميع الأمراض, التي قد تؤثر عليها وتؤذيها, ويحافظ عليها من الأفول و الانقراض, كذلك لمن ينميها ويطورها ويدفعها إلى الأمام. في حالة الإنسان, القائمون على هذه المهمة هم الأبوان والأهل كخلية ووحدة صغيرة راعية ومنظمة لحياته, ومن ثم المجتمع كخلية ووحدة أكبر ومن ثم يأتي دور الهياكل و المؤسسات والهيئات الإدارية كخلايا ووحدات أكبر, والراعي الأكبر الذي لديه المقدرة والاستطاعة لحماية ورعاية كل هذه الخلايا مجتمعة هو ما يعرف اليوم باسم مؤسسة الدولة بمعناها الشمولي العام. قوة ونظم مؤسسة الدولة هي الوحيدة القادرة على توحيد وتنظيم وربط كل هذه الخلايا والوحدات وتأهيلها للتطور والازدهار, وأيضا حمايتها من التشرذم والتمزق والانهيار. لكن ضعفها يؤدي تماما إلى النتيجة العكسية. والمؤسسة الواحدة المترابطة هي التي تخلق لغة واحدة مفهومة من الجميع, وتربط كل هذه الخلايا والوحدات بعضها بعضا!.

آزاد حموتو مجلة العربي مايو 2004

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016