مختارات من:

الحاجة مسرورة والكمبيوتر

لطيفة بطي

في الواقع عندما توجهت لزيارة الحاجة "مسرورة" كانت مشاعر شتى تخالجني، وأحاسيس متناقضة تتغشاني، فمنذ سنوات قد لا تحصى ولا تعد لم تحدثني نفسي ولو لمرة واحدة بفكرة زيارتها أو تقصي أحوالها والسؤال عنها، فالحاجة مسرورة مقيمة دائمة في منزل الأسرة الكبير، ومجرد وجودها فيه كان يعني أننا على تواصل معها وإن باعدت ما بيننا المسافات والسنوات.

بالتأكيد لم أكن خاليا عندما فكرت في زيارتها، والواقع أنني لم أفكر فقط، لكنني كنت قد قررت، فجعبتي كانت تمتلئ بتساؤلات عدة وبمشاريع كان يتوجب طرحها عليها، فأن تكتشف أن لك أخا ولم تعرفه لمرة واحدة يبدو ضرباً من الجنون، وأن يكون وجود ذلك الأخ المزعوم حائلا دون تصرفك في عقار معرض للسقوط والانهيار بسبب تقادمه يبدو ذلك ضربا آخر من الجنون ،وأن تذهب كل إفاداتك وإقراراتك إدراج الرياح أمام ورقة حصر وراثة لا تقر بسبب الإعلان عن وجود وريث لا تعرف عنه شيئا يعد أمرا لا عقلانيا فيصبح الأمر كله بعد ذلك أضربا من الجنون وليس ضربا واحدا!

عندما فتحت الحاجة مسرورة الباب لم تكلف نفسها عناء السؤال عن شخصية الطارق بكل حياء وتخوف ووجل كما كانت تفعل في عهد الصبا والشباب، كأن شيخوختها أضفت عليها صفات أخرى، أحالت حياءها إلى لامبالاة وتخوفها إلى ثقة واستوى من يطرق الباب لديها أكان قريبا أم غريبا، مسالما أم مهاجما، سائلا أم زائرا.

ـ لا تزالين جميلة يا عجوزي مسرورة!

عقدت حاجبيها ثم رفعتهما وكأنها ترفع ثقلا عن عينيها لتتيح لهما فرصة الرؤية.. من?....!

ضحكت لسرعة بديهتها وألقيت نفسي بين يديها. في الواقع كانت تعبق برائحة قديمة خلتها تنبعث من عمق التاريخ ممتزجة برائحة الوالد والوالدة المستقرين تحت تربة المقبرة القديمة القريبة.

ـ حلم أم حقيقة?

ـ شيء من الاثنين معا يا مسرورة!

ـ اليوم أنا اسم على مسمى لم أشعر بذلك منذ أعوام.

ـ ...............

تفقدت أرجاء المنزل بعيني، لم أنزعج من كل تلك التشققات والأحافير التي ارتسمت وتعمقت على جدرانه وما بين زواياه وأركانه وفي أعماق أرضيته، كان يبدو كخربة مهجورة لولا وجود مسرورة كشمعة مضيئة وسط خيوط عتمته وظلمته، كان وجودها يوحي بأن حياة تسكنه وإن امتلأ وجهها وجسدها بمثل أحافيره وأخاديده.

ـ أنت بخير?

ـ أجل.. أجبت باقتضاب، وقبل أن تسأل من جديد عاودت المتابعة: في الواقع كلنا بخير عدا "مسعود"!

ـ ولدك?

ـ لا، أخي!

ـ أخوك!... قالتها بتشكك وتيقن وراحت تفرد أصابعها تعدد أسماءنا ثم أردفت ضاحكة كاشفة عن مغارة تخلو من حواجز بيضاء: من أين جاءكم هذا الأخ?! لم أعرف أن للمرحومين ولداً بهذا الاسم، أتراكم عثرتم عليه عندما رحلتم من هنا?

ـ جئت أسألك عنه اليوم، ألا تذكرين إن كان لنا أخ بمثل ذلك الاسم?

ـ لكن المرحومين لم ينجبا سواكم أنتم الأربعة، أنت وإخوتك.

ـ ربما كان سابقاً على وجودنا وكنا صغاراً في ذلك الوقت وتطاول الزمان علينا فنسيناه!

أعملت مسرورة ذهنها من جديد وأصرت على رأيها: لم يكن سواكم أنتم الأربعة.. وأطرقت قليلا ثم قالت وكأنها تنبهت لشيء غفلت عنه...: إلا إذا كان المرحوم قد تورط بشيء من ذلك من خلف ظهر المرحومة!

أجبتها مسارعا: لا لا، إنه أخ شقيق من ذات الصلب ومن ذات الرحم.

ـ لكن ذلك لم يحدث، لا سواكم أنتم الأربعة، لم يتركا سواكم وهذا البيت العتيق وبعض المال وأرض صغيرة درت معايشكم.

علقت ضاحكا: ومسرورة!

ناولتني كوبا من الشاي المحضر سابقا بعد أن غلى على موقد النار لفترة طويلة فامتزج ماؤه بأوراقه مكونا سائلا ثقيلا قاتما تشوبه المرارة.

ـ مسرورة، تذكري جيدا، هذا أمر مهم.

ـ الأموات لا يكذبون!

ـ ماذا تعنين?

ـ أعني ما فتئ المرحـومان يحضـراني فـي منامي لا يحملان لي سوى توصية واحدة، يا مسرورة الله الله بالأولاد، وفي كل مرة كنت أطمئنهما عليكم جميعا، لم يذكرا لي أبدا سواكم أنتم الأربعة. ثم أردفت ضاحكة: في آخر مرة رأيتهما أخبرتهما أنني أنا في الحق التي بحاجة لتوصية يقدمانها للأولاد رحمة بأشواقي، فأومآ إيجابا، وأظنني الآن فهمت.. وأتبعت كلماتها بضحكات وسعال مجهد.

عاودت تفقد المنزل بعيني من جديد وأنا أرثي لحال مسرورة وأنها بعد لحظات قد تلعن التوصية التي أدلت بها إلى المرحومين، تمتمت: لكن الكمبيوتر يقول ذلك.

لم تسمعني جيدا وربما ظنت أنني فقط كنت أهمس لنفسي فشاركتني من جديد: ما الأمر بالضبط? من أين أتت فكرة هذا الأخ الذي لم يظهر سوى هذه الأيام?!

ـ الحق يا مسرورة أن الأمر معقد قليلا، والكمبيوتر يقول بأن لنا أخا شقيقا.

ـ من هذا الذي يقول?

ـ الكمبيوتر!

ـ ....

عجزت مسرورة عن لفظ الكلمة لكنها أردفت: أيا ما كان اسمه، واجهني به، لعله يخبئ أمرا ما!

ـ لكن الكمبيوتر لا يخبئ شيئا غير موجود، الحق أنه يخبأ به ولا يخبئ!

مرة أخرى عجزت مسرورة عن لفظ الكلمة وأردفت ساخرة: ومن أين له أن يعرف، ولماذا لم يحضر قبل الآن ويخبرنا بالأمر?

ـ يا مسرورة الكمبيوتر هذا ليس ببشر، إنه مجرد...

ـ إذن هذا من تلبيس الجان والشيطان، دعك منه ومن وساوسه، لم يكن سواكم هذا أمر مفروغ منه.

ـ يا مسرورة، الكمبيوتر هذا جهاز، أقصد أنه آلة تجمع بها بيانات الأفراد، أسماؤهم، أعمارهم، مهنهم، عناوينهم، أحوالهم الاجتماعية وخلافها من المعلومات.

ـ أهو نسابة?!

استلقيت على قفاي مقهقها، وعذرت لها براءتها الفطرية وسذاجتها وعندما اعتدلت قلت لها: الحق أنه نسابة لكن لهذا العصر والزمان! أيا ما كان اسمه، عقل آلي، حاسوب.

زمزمت مسرورة شفتيها وحدجتني: نسابتكم مثلكم، زائف مثلكم في كل شيء ـ وتهدج صوتها بعد حين ـ كنت أظن حضورك هذا من أجل تفقد شأني، شوقا لي ولأيامي، لكنه الآن حضور زائف من أجل سؤال زائف!

تأثرت لكلمات مسرورة ولم يخيل لي أبدا أنها تشعر بأن هذا الزمن زائف كما نشعر ونحس تجاهه، كنت أظنها من جيل مضى لكنه لايزال منطويا على مشاعره البكر الأولى خاصة أنها لم تطرق أبواب المدينة ولم تعايشها، كانت مسرورة شيئا من رائحة الماضي فقط، شيئاً معتقاً ونفيساً لكن قيمته لا تتجلى إلا بعد ذهابه واختفائه، أشفقت أن أخبرها أنني ما أتيت إلا من أجل بيع هذا المنزل العتيق الذي آوته بعمرها قبل أن يأويها بجدرانه لولا حكاية هذا الأخ المزعوم وإيقافها مجريات الأمور.

ـ لكن الكمبيوتر لا يكذب يا مسـرورة، إنه جـهاز لا يعرف الكذب..!

ـ حسن ومن صاحب هذا.. الذي لا يكذب إئتني به وليدل إلي بما عنده وسأحجه بصدقي وكذبه..

ـ صعب يا مسرورة أن آتيك به ومستحيل، إنه كمبيوتر الحكومة!

ـ لكن الحكومة لا تعرف عنكم قدر معرفتي!

ـ يا مسرورة تذكري جيدا، الفرق في أيام قليلة فقط ما بين مولدي ومولده، هل من توأم لي يا مسرورة? لكن حتى لو كان ذلك صحيحا فمن غير المعقول أن تحتفظ به المرحومة لأيام عدة لتضعه بعد ذلك متمهلة!

ـ لم يكن لك من توأم، كنت وحدك وبدوت يومها كجرذ صغير يريد التشبث لآخر لحظة في الحقل الذي تخلق منه!

تبسمت لتشبيه مسرورة ولم يكن ليزعجني وعلقت: كل لا بد عائد إلى حقله يوما ما.. لكن تذكري جيدا، أيعقل أن يكون لي أخ يقاربني ميلادا وفي نفس الوقت لا وجود له، فيما كل القرائن الكمبيوترية تدل على عكس ذلك، ليس صدفة، ليس تشابه أسماء!

احتارت مسرورة ولم تحر جوابا وتابعت صمتي أرتشف بصعوبة بالغة بعض الشاي.

ـ كيف ظهر مثل هذا الأمر? لماذا ليس قبل الآن? كانت الحكومة وممثلوها أقرب إلينا ولم تظهر مثل هذه الأمور الزائفة لكنها الآن بعيدة، الوضع على ما هو عليه، منذ خمسين عاما لم يتغير شيء، لم يطرأ شيء، لا يزال كل شيء يسبح في مياه ميلاده الأولى!

ـ لكن كل شيء تغير هناك يا مسرورة، خدمات جديدة أضيفت واستحدثت، ما رأيك أن أصطحبك معي هذه المرة?

هزت مسرورة رأسها رافضة وكأنني أعرض عليها أمرا هو ضرب من المستحيل، وغمزتني ضاحكة بعد حين: قد يظهر لي نسابة الحكومة بزوج لم أرتبط به أبدا، فضيحة، مسرورة مرتبطة بزوج لا تعرف عنه شيئا!

ضحكت لغمزتها وعلقت: ليس الأمر كما تتصورين يا مسرورة!.

ـ لم يبق في العمر الكثير لنرى المزيد من الغرائب والعجائب، الدنيا كجراب الحاوي، نظهر الدهشة والعجب لما فيه، ثم تتطاول أعمارنا فنزدريه لكنه لا يعدم متفرجين سوانا تتغير الوجوه والمسوح، لكنه أبدا منطو على ما فيه.. لم يكن سواكم أنتم الأربعة هذا ما تقوله مسرورة وهي صادقة رغم أنف وجراب "..." الحكومة!

ـ نعم يا مسرورة، قد يكون الأمر هكذا، لذا ترفض شهادتك، وتقبل شهادته، إنها نكتة من الكمبيوتر ولا شك!

لطيفة بطي مجلة العربي فبراير 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016