«إن وقتكم محدود, لذا لا تهدروه بأن تحيوا حيوات الآخرين. لا تقعوا في شرك المبادئ الجاهزة، أي العيش مع نتائج أفكار الآخرين. لا تدعوا ضوضاء آراء الآخرين تحجب أصواتكم الداخلية. والأهم من هذا كله, تحلوا بالشجاعة لملاحقة ما تفضي به قلوبكم وبدائهكم. فالقلب والبديهة يحيطان بالفعل بما تودون القيام به حقاً. وكل ما هو غير ذلك ثانوي».
من هذه الكلمات الملهمة ربما اتخذ المخترع الأمريكي ستيف جوبز الذي رحل عن عالمنا في أكتوبر الماضي (24 فبراير 1955- 5 أكتوبر 2011) شعارًا حقق به نجاحه الكبير كمصمم ومخترع لجهاز الكمبيوتر الأشهر «أبل ماكنتوش»، صاحب الشعار الشهير «التفاحة المقضومة» والذي تحول إلى ثورة في عالمي التكنولوجيا الرقمية والاتصالات الحديثة في غضون عدة عقود.
الصفحات الأولى من الصحف العالمية تقريبا كانت تحتل خبر وفاة جوبز، وكبار الشخصيات في العالم مثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما والمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج وغيرهما أبّنوه بوصف وفاته خسارة كبيرة للبشرية، مما يمنح الدلالات الموحية حجم التأثير الذي حققه جوبز في العالم، حتى لو لم يكن بالضرورة تأثيراً إيجابياً.
وفي سيرة جوبز الكثير من التناقضات، وكثير من المحطات المهمة التي تجعل سيرته وحدها كافية لإلهام الكثيرين، وبشكل شخصي أظن أن سيرة جوبز فيها الكثير مما ينبغي الالتفات إليه من الشباب العرب الذين ينعشون اليوم موجة التمرد المعروفة بالربيع العربي والتي أبهرت العالم ولاتزال.
عاش جوبز مع أبوين بالتبني بعد أن تخلى أبواه عنه، ولم يتلق تعليما جيدا، وكافح خلال سنوات دراسته التي لم يستكملها للدرجة التي كانت تجعله يجمع زجاجات الكوكاكولا الفارغة مقابل 5 سنتات ليحصل على طعامه. وعانى طويلا في محاولة لفهم رغباته الحقيقية وما يريد أن يفعله في الحياة.
ولم يجد نفسه إلا بعد أن خاض مجال التكنولوجيا، ونبغ فيه عبر مشروع فردي بدأه مع صديقين من أصدقائه، هما ستيف وزنياك، ومايك ماركولا، حيث أسسوا معا شركة «أبل» التي تطورت من شركة صغيرة تتكون من عاملين اثنين فقط داخل مرآب إلى شركة تقدر بـ 2 مليار دولار وتوظف ما يفوق 4000 موظف.
دوائر الحياة
في قمة مجده استقال أو أقيل من «أبل»، ليجد نفسه فجأة في الشارع، لكنه عاد أكثر قوة بعد أن أسس شركة بيكسار Pixar، التي اختصت بأجهزة الحواسب المتخصصة في تصميم الجرافيك، وعمل في عدد من أفلام الرسوم المتحركة Animation movies، وأنتج أول فيلم من هذا النوع بعنوان «Toy Story» قبل أن يعود مرة أخرى إداريا ومستشارا للإنتاج في «أبل» مستفيدا من الخبرة الجديدة التي حققها في مجال التصوير والجرافيك والرسوم المتحركة، حتى وفاته متأثرا بسرطان البنكرياس الذي لاحقه طويلا وأنهكه في السنوات الأخيرة من حياته.
في شهادته التي ألقاها أمام خريجي جامعة ستانفورد عام 2005، والتي ترجمتها هالة صلاح الدين ونشرت في مجلة «وجهات نظر» قبل فترة يقول جوبز: حينما بلغت السابعة عشرة, طالعت استشهاداً كان كالتالي: «لو عشتَ كل يوم وكأنه يومك الأخير, لا شك أنك ستمسي يوماً على حق». أوقع في نفسي عظيم الأثر, ومنذ يومها, خلال الثلاثة والثلاثين عاماً السابقة, رنوت إلى المرآة كل صباح لأسأل نفسي: «لو أن اليوم هو آخر أيام حياتي, هل سأرغب في فعل ما أوشك على فعله اليوم؟» وعندما أجيب «بلا» خلال عدة أيام متواصلة, أعلم عندئذ أنني في حاجة إلى تبديل شيء ما».
وهو بهذه الكلمات يقدم شهادة بالغة الأهمية في إلهام الطموحين في الكيفية التي يمكن بها أن يحققوا إنجازا فريدا، عبر التقدير البالغ لعامل الوقت من جهة، والبحث عن التغيير المستمر، تأكيدا لفكرة الإبداع الإنساني.
ولا شك في أن منجزات «أبل» والكيفية التي تطورت بها تكفي أنه للتدليل على صدق ما قاله جوبز، خصوصا أننا اليوم فيما نرثيه كان الكثير منا يتابع الخبر مبثوثاً على شاشات «الآي فون» الجديدة، بأجيالها المتعاقبة، أو على شاشات أجهزة «الآي باد»، وغيرها من التقنيات الجديدة التي كان يقف جوبز وفريق التصميم الذي يعمل به في «أبل» خلفها.
لا يستحق الرحمة!
من بين اللافت على بعض صفحات «فيس بوك» و«تويتر» تعليقا على من نشروا خبر وفاة جوبز وسيرته قول البعض إن جوبز لا يستحق الرحمة لمجرد أنه ليس مسلما، وهي أقوال تكشف مدى التخلف البشع الذي نحياه والذي تتطاير سمومه في هواء الربيع العربي وتحاول أن تسممه ليصبح خانقًا، بدلا من أن يكون ربيعا للحرية والانطلاق للمستقبل، بينما تحفظ آخرون باعتبار أنهم لا تستهويهم السير الذاتية للرأسماليين.
والحقيقة أن هذا الانطباع أيضا لا يبتعد كثيرا عن ذهنية المتشددين دينيًا، المنغلقة والمحصورة في ثنائية فقيرة تأسست على مفهوم خاطئ قوامه الحلال والحرام، وهي ثنائية تتخذ أشكالا وأقنعة شتى يستخدمها حتى بعض المحسوبين على الثقافة، عبر التفكير في ثنائيتين لا ثالث لهما أيا كان الموضوع، وهي تتسبب في شيوع ثقافة عامة في المجتمع تميل لتخوين من يخالفها الرأي.
صحيح أن جوبز هو أحد نماذج الرأسمالية، وحقق ثروات طائلة من حقوق الاختراع لتصميمات أجهزة «أبل»، بلغت نحو 8 مليارات دولار ونصف المليار العام الماضي، وهي الثروة التي جعلته يحتل الرقم 42 في قائمة أثرياء الولايات المتحدة، وهذا بديهي، ولكن لنتأمل صوره على «جوجل» أو أي موقع لنرى أنه عادة لا يرتدي سوى الجينز وقميص عادي وحذاء رياضي، بلا أي ميل لأناقة مبالغ فيها، وفي سيرته الشخصية ميل للنزعة الروحية التي وجد غايته فيها عبر ديانات شرق آسيا، وهو كثيرا ما يردد صيحته الشهيرة «ابقوا جياعا..ابقوا حمقى»، وهي واحدة من الجمل التي يعتبرها من ملهماته أيضا، والتي تحمل العديد من الدلالات لمن يرغب في العمل والتحقق من أنه لا يشعر بأي من مظاهر الثراء والدعة التي تجعله يسترخي، حتى لو أثرى، أو امتلك ثروات طائلة، لأن الإبداع هو غايته الحقيقية.
من جهة أخرى فإن ستيف جوبز لطالما أكد على ضرورة أن يبحث كل شخص عن صوته الخاص وألا يضيع حياته في تتبع آراء الآخرين، بما يعني تأكيده على ضرورة الإبداع، والبحث عن التميز عبر الصوت الخاص والإلهام الباطني، ولديه في أحاديثه تلك الصور التي تكشف عن ذهنية إنسانية نبيلة.
وهو أيضا من القلائل الذين تحدثوا عن الموت باعتباره الضرورة التي لا يمكن لأحد أن يقاومها، فهو الحقيقة الوحيدة التي ضمن أهميتها أنها تتيح للأجيال أن تتعاقب وللأفكار أن تتجدد، ومصداقية هذا الكلام أنه كان قد أعلن عن استقالته من «أبل» حينما لم يجد أن لديه جديداً ليقدمه وهو على يقين من أن الآخرين سيبدعون وسيكملون مسيرته، وفي هذا الموقف وحده ما ينبغي أن نتعلم منه في عالمنا العربي نحن المصابين بعقد التفرد والبقاء على الكراسي مدى الحياة.
وليس هذا دفاعا عن جوبز فهو مثل أي شخص له إيجابياته وسلبياته، ولكن نحن هنا نتحدث عن إنجازه الذي يعد ثورة في مجال التكنولوجيا، ولا نقول أيضا إنها تكنولوجيا مفيدة بامتياز، فعلى الصفحات التالية ننشر موضوعا للمترجمة والكاتبة هالة صلاح الدين تقدم فيه رؤية مخالفة لتقنية «الآي باد» وترى أنه لا يحض على الإبداع، نتفق أو نختلف معها، لكن لنر المبررات التي توثق بها فكرتها في هذا المقال.