* التعصب الديني المحلي هو انعكاس لتشابك العوامل الخارجية والمناورات السياسية للدول الغربية الكبري بالظروف الداخلية حيث لم تتمكن المنطقة من الولوج إلى حالة تنموية شاملة تؤمن الرفاه لكل الفئات الشعبية
* النظرة الموضوعية إلى وضع النخبة المسيحية تؤكد أن المسيحيين العرب لم يهمشوا اقتصاديا ولا سياسي خلافاً للشعور النفسي الذي يسود الأوساط المسيحية بأن الوجود المسيحي معرض لخطر الزوال
كثيرًا ما يُنظر إلى قضية الوجود المسيحي المتناقص في المشرق العربي على أنها قضية قائمة بذاتها، دون ربطها بتعقيدات التطورات السياسية والعسكرية التي يتميز بها تاريخ المشرق العربي الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر بشكل خاص كما سنبيّنه في هذه الدراسة.
اليوم أيضًا علينا أن نربط مصير المسيحية العربية بالتوترات المذهبية التي تعصف بالمشرق العربي، خاصة في ما بين المذاهب الإسلامية نفسها، كما هو واضح من أوضاع متأججة مختلفة في العراق وسورية والبحرين ولبنان وشرق المملكة العربية السعودية، على أثر الانتفاضات الشعبية العربية التي اجتاحت المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط.
كما لا يمكن التغاضي عمّا فعله في النفسية العربية وهوياته المختلفة زرع الكيان الصهيوني في المنطقة على أساس ديني محض وبنظام سياسي يدّعي تمثيل كل اليهود في العالم واستجلابهم إلى الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وبالتمادي في تهميش وقمع السكان العرب الأصليين من مسلمين ومسيحيين، ويجب ألا يفوتنا أن هجرة الفلسطينيين المسيحيين من فلسطين أخذت طابعًا مأساويًا في ظروف الاحتلال الصهيوني الذي يرى في التعددية الدينية والمذهبية العربية تهديدًا لنموذجها الإقصائي.
ولذلك أيًا كان العنف المتمادي الذي مارسه هذا الكيان الغاصب على مدى عقود من الزمن على الكيان اللبناني، على أمل القضاء عليه أو تقسيمه على أساس ديني. وهو الكيان الذي يتجسّد فيه التعددية الدينية والمذهبية.
لكل هذه الأسباب فإن قضية الوجود المسيحي في المشرق العربي ليست فقط قضية عربية رئيسية، إنما يجب أن نتعاطى بها على أساس الحفاظ على التعددية والمذهبية التي تميز بها المشرق العربي طوال تاريخه الطويل، بما فيها التعددية التي امتاز بها الإسلام نفسه بمذاهبه ومدارسه الفقهية التي كانت قد ازدهرت في القرون الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم.
سنرى خلال استعراضنا التاريخي هذا أن لاستمرار أوضاع الفقر مسئولية كبرى في التوتر الذي يمكن أن يحصل بين المسلمين والمسيحيين العرب في بعض المناطق.
ويجب هنا الإشارة أيضًا إلى أحداث لبنان الدموية بين 1975 و1990 التي أخذت بعدًا طائفيًا مأساويًا أثّر إلى حد بعيد على تأجيج شعور الخوف والتباعد بين المسلمين والمسيحيين، بينما عكست تلك الأحداث أوضاعًا إقليمية مأزومة، لعب فيها الكيان الصهيوني دورًا محوريًا في إثارة الفتنة بين قوى متناحرة رفعت راية الانتماءات الطائفية، مع العلم بأن سبب الخلافات كان في الجوهر سببًا سياسيًا وضعيًا (أي قضية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان) لا علاقة له في الأساس بالتوازنات الطائفية والمذهبية، هذا بالإضافة إلى هجرة العراقيين المسيحيين تحت الاحتلال الأمريكي، مع أن ما أصاب هذه الفئة من العراقيين من أعمال عنف وإرهاب لم يختلف بالجوهر عمّا أصاب الفئات العراقية الأخرى.
إن كل هذه الأحداث المفجعة تساهم في صياغة ذاكرات جماعية حزينة تدعم الميل نحو الاغتراب عن الوطن. لذلك يجب العمل على معالجة العامل النفساني الذي يولّد موجات الهجرة، كما يجب أن تعالج ظاهرة الهجرة من منظور أوسع من الطرح التقليدي حول ضرورة حماية الأقليات، ألا وهو ضرورة الحفاظ على التعددية الدينية والمذهبية، هذه التعددية المعرضة للزوال بفعل السياسات الصهيونية وسياسات الدول الغربية المؤيدة للكيان الصهيوني إلى أبعد الحدود.
وفي هذا المضمار، لابدّ من تجدد الاهتمام المشترك بين المسلمين والمسيحيين العرب في الدفاع عن فلسطين ومقدساتهم فيها، بدلاً من الاستمرار في أوضاع التناحر والتوتر بين المذاهب الإسلامية نفسها، أو بين المسلمين والمسيحيين في بعض الأحيان.
أولاً: الهجرة..
أشار أول تقرير للتنمية البشرية في العالم العربي إلى نتائج استفتاء محدود لدى العنصر الشاب العربي، وقد كان من النتائج المفجعة أن 52 بالمائة من الشباب يودّ الاغتراب عن بلاده. إن مثل هذه النسبة المرتفعة تدل على أن الهجرة خارج الوطن أصبحت ظاهرة عامة في العالم العربي، بينما كانت محصورة في الماضي بالعنصر المسيحي.
ولابد هنا من استعراض سريع لظاهرة الهجرة وهي تمثل الخطر الأكبر بالنسبة إلى استمرار الوجود المسيحي في المشرق العربي. لقد بدأت هذه الهجرة منذ الأحداث الأليمة التي ألمّت بجبل لبنان ما بين 1840 و1860، وكذلك المذابح التي تعرض إليها المسيحيون في مدينة دمشق عام 1860. ومنذ ذلك الحين، فإن النزيف البشري مستمر في كل الدول العربية التي يعيش فيها مسيحيون من طوائف متعددة. وإذا كان تعميم ظاهرة الهجرة في العقود الأخيرة إلى المواطنين العرب من الطوائف الإسلامية يدلّ على أن لبّ المشكلة لم يعد محصورًا بأبناء الطوائف المسيحية، فإنه حريّ بنا أن نبحث عن الأسباب والدوافع الحقيقية لموجات الهجرة الجماعية التي تصيب المسيحيين والمسلمين على حد سواء، مع السعي إلى تحديد العوامل المميّزة التي تصيب أوضاع المسيحيين في بعض الدول العربية.
ولابد في هذا المضمار من الإشارة إلى أن أوضاع الديمجرافيا المسيحية لا تتحمل المزيد من الهجرة نظرًا للتناقص الحادّ لأعداد المسيحيين العرب في الشرق العربي إلى حد الانقراض في بعض الحالات، كما هو الحال في فلسطين المحتلة، ولاسيما في القدس العربية، العاصمة الروحية للمسيحيين من كل الكنائس الشرقية والغربية على السواء، أو كما هو الحال بالنسبة إلى المسيحيين العراقيين من الطوائف المختلفة، عربية كانت أم آشورية وكلدانية. فمن الضروري جدًا العمل الدءوب والمتواصل لوقف مثل هذا النزيف لكن لا يمكن القيام بهذا العمل بفاعلية إذا لم نحدد أسباب ودوافع الهجرة.
لابد هنا من استعراض كل الأسباب الكامنة وراء قرار الهجرة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية. ويصعب في بعض الأحيان التفريق بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، وكذلك التفريق بين السياسي والنفساني، وهذه ناحية قلّما يتم التعرّض إليها بشكل موضوعي وخارج إطار أدبيات أخذت بالتوسع انطلاقًا من أوربا المسيحية في إطار ما كان يسمّى بـ«المسألة الشرقية» في القرن التاسع عشرة وما كان يسمى في حينه أيضًا «حماية الأقليات المسيحية» في الشرق.
هذا ولابد أيضًا من النظر إلى البنية الاجتماعية التي تتميز بها الطوائف المسيحية وخصوصية هذه البنية بين البلدان المختلفة التي تعيش فيها، خاصة أن الأوضاع الاجتماعية متباينة تباينًا كبيرًا داخل الطوائف المسيحية. ويمكن في هذا المضمار تقسيم هذه البنية إلى ثلاث فئات رئيسية، هي: النخبة من الوجهاء والأثرياء، الفئات المتوسطة الدخل، الفئات المحدودة الدخل والفقيرة.
ثانيًا: النخبة المسيحية من الوجهاء الأثرياء
إن أعضاء هذه النخبة يتمتعون بشبكة علاقات مكثفة مع الحكام المحليين من المسلمين وأيضًا مع حكام الدول الأجنبية المؤثرة في المنطقة. وهذه الفئة تتأثر أقل بكثير من الفئتين الأخيرتين بالعوامل التي يمكن أن تؤدي إلى قرار الهجرة نظرًا لما تتمتع به تلك النخبة من ممتلكات ونفوذ سياسي واجتماعي واسع.
* إجراءات التأميم وتأثيرها على النخبة المسيحية
لكن لابد من التذكير هنا بأن هذه الفئة قد تضررت في بعض الظروف السياسية في الستينيات من القرن الماضي عندما أقدمت بعض الدول العربية على تطبيق مبادئ الاشتراكية وتأميم بعض المنشآت الاقتصادية العائدة إلى مجموعات عائلية غنية للغاية. وقد تأثرت كثيرًا الطوائف المسيحية بالجو الاقتصادي، ومالت في كثير من الأحيان إلى أن ترى في إجراءات التأميم عملاً عدائيًا تجاه المسيحيين وممتلكاتهم، دون أن ترى بأن الإجراءات الاشتراكية قد نالت من أوضاع وثروات الوجهاء والأغنياء المسلمين بنفس الحدة، وأنه لم يكن في مثل هذه القرارات أي نيّة للاضطهاد أو المضايقة المبنيين على اعتبارات دينية.
لكن جو العداء العام للأنظمة العربية التي طبقت هذه الإجراءات والتي كانت في خط المواجهة مع المشاريع الغربية في المنطقة، وكذلك سعيها إلى التصدي لتوسع دولة الكيان الصهيوني، جعل الكثير من الإعلاميين يركزون على ما يصيب الأقليات المسيحية في تلك الدول من جراء تطبيق سياسات اقتصادية اشتراكية الطابع. وهذا في الحقيقة، كما أشرنا إليه سابقًا، من أساليب الدعاية الغربية لتسويق سياساتها في الشرق الأوسط، وذلك منذ القرن التاسع عشر واحتدام الصراع مع السلطنة العثمانية، وهي كانت إمبراطورية متعددة الأعراق والأديان. وقد كانت الدول الأوربية الاستعمارية تدّعي حماية الطوائف الدينية والأقليات العرقية من هيمنة العنصر التركي المسلم.
* ذاكرة المذابح ضد الأرمن واليونان في السلطنة العثمانية وكذلك مذابح جبل لبنان ودمشق
وإذا نظر المرء بشكل موضوعي إلى أداء السلطنة العثمانية في إدارة هذه التعددية، فإنه لا يمكن أن يفوته ما كانت تتمتع به هذه الأقليات الكبيرة العدد (يونانيون - أرمن - آشوريون - مسيحيون عرب من كنائس شرقية مختلفة) من أوضاع مستقرة ومراكز اقتصادية مرموقة لدى فئة الأعيان والوجهاء، خاصة بالنسبة إلى قطاع التجارة مع الدول الغربية، ما أمّن لهم ازدهارًا كبيرًا. أما تدهور الأوضاع، فقد أتى نتيجة سياسات الدول الأوربية تجاه السلطنة العثمانية والتنافس والتناقض فيما بينها واستخدامها ذريعة حماية الأقليات لتعميق نفوذها وهيمنتها المتصاعدة على مقاليد الأمور في كل من السلطنة العثمانية ومصر التي أصبحت تستقل عن الأستانة منذ عهد محمد علي.
* أثر الانفتاح المتزايد على الدول الغربية في العلاقات مع المسلمين
إن هذا الانفتاح المتزايد على بيئة الدول الغربية الغنية قد ساهم إلى حد ما في نشوء شعور بالتمايز عن العائلات المسلمة الغنية التي لم تكن على نفس درجة الانفتاح والاطلاع على الثقافة في الغرب، وربما أعطى لبنان المثال الأكثر وضوحًا عن هذا التمايز المصطنع بين المسيحيين والمسلمين، مع الإشارة إلى أن هذا التمايز أخذ بالتراجع في العقود الأخيرة، حيث أصبحت العائلات المسلمة الغنية تتفتح أكثر وأكثر على البيئة والثقافة الغربية، وترسل بدورها أولادها إلى الدول الغربية للدراسة فيها.
* فرص الاغتناء في الدول العربية المصدرة للنفط
وقبل ختام هذه الملاحظة الأولية لابد من الإشارة إلى الفرق الكبير بين الأوضاع التي سادت خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والأوضاع الحالية حيث فُتحت أمام العنصر المسيحي مجالات واسعة للإثراء السريع ولكسب النفوذ والوجاهة عبر الهجرة إلى دول عربية إسلامية مصدّرة للنفط. وهنا يتأكد مرة أخرى بأن المسلمين العرب لا يمانعون بتاتًا في زيادة النفوذ الاقتصادي للمسيحيين واغتنائهم، بل في كثير من الأحيان نرى العديد من رجال الأعمال المسيحيين الناجحين في دول الخليج العربي يصبحون مقرّبين من الحكّام وأهل القرار فيها. ولابد أيضًا في هذا المضمار من الإشارة إلى النجاح الباهر الذي حققه المصري نجيب ساويرس المنتمي إلى الطائفة القبطية في مجال شبكات الهاتف النقال وغيرها، وقد أصبح من كبار رجال الأعمال في مصر وخارجها.
إنما تبقى المشكلة اليوم في مدى النفوذ السياسي المباشر الذي يمكن أن تتمتع به شخصية مسيحية، خاصة في أجواء التشنّج الديني الذي تعيشه المنطقة لأسباب مختلفة، وصعود أنواع مختلفة من السلفية الدينية التي تصيب أيضًا الكنائس الغربية واليهودية، فهذا تيار عالمي. وفي هذا الشأن، لابد من التذكير ببعض الشخصيات المسيحية التي كان لها نفوذ سياسي واسع في المشرق العربي، ونذكر بشكل خاص كلًا من فارس الخوري في سورية، وبشارة الخوري في لبنان، بالإضافة إلى شخصيات سياسية أدبية مثل الكاتب أمين الريحاني أو رؤساء أحزاب راديكالية الطابع، مثل ميشال عفلق وأنطون سعادة وجورج حبش.
لذلك فإن النظرة الموضوعية إلى وضع النخبة المسيحية من رجال أعمال وفكر وأدب وسياسة تؤكد أن المسيحيين العرب لم يهمّشوا لا اقتصاديًا ولا سياسيًا، خلافًا للشعور النفسي الذي يسود في الأوساط المسيحية بأن الوجود المسيحي معرّض لخطر الزوال. وهذا الشعور بالإضافة إلى مصدره التاريخي في المذابح الكبرى في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ينبع من التناقص في الأعداد، وهذا التناقص يصيب بالدرجة الأولى الفئات الوسطى والفئات المحدودة الدخل.
ثالثًا: الفئات الوسطى المسيحية
* لماذا تطورت الطبقة الوسطى المسيحية قبل المسلمة في لبنان وسورية والعراق؟
تطورت وتوسعت في البلدان العربية طبقة وسطى مسيحية بشكل أسرع من الفئات الوسطى المسلمة ولأسباب تاريخية عدة، نذكر منها أعمال الكنائس الشرقية والمبشرين من الدول الغربية في مجال التربية والتعليم لأبناء الطوائف المسيحية والمساعدات التي كانت تتلقاها الكنائس الشرقية المختلفة من الدول والكنائس الأوربية، ومنها بشكل خاص فرنسا وإيطاليا بالنسبة للطوائف الكاثوليكية، وروسيا القيصرية بالنسبة إلى طائفة الروم الأرثوذكس. إن هذا التقدم المسبق في البنية الاجتماعية للطوائف المسيحية قد ساهم أيضًا في خلق شعور التمايز عند الطوائف المسيحية عن محيطها الإسلامي. وقد ولّد هذا الوضع المتمايز في بعض الحالات والأوضاع، شعورًا بالغبن لدى المسلمين كما حصل في لبنان بشكل واضح في السبعينيات من القرن الماضي.
* تآكل دور الطبقة الوسطى المسيحية بسبب التطورات التربوية العامة
وقد أصبحت الفئات الوسطى المسيحية لا تطمئن بدورها إلى مستقبلها ومستقبل أولادها خاصة بعدما حصل تراجع كبير في نفوذ الطبقة الوسطى القبطية في مصر، التي كانت مسنودة من قبل الحكم البريطاني الاستعماري الطابع، وذلك على أثر الثورة المصرية بقيادة جمال عبدالناصر. إن النمط الثوري في كل من مصر وسورية والعراق وتعميم التعليم لكل الطوائف عبر التوسع في إقامة نظام تربوي يستوعب أبناء كل الفئات الاجتماعية من كل الطوائف قد فتح المجال للمسلمين بأن يتبوأوا مراكز مهنية راقية بكل المجالات مما انتقص من الصدارة التي كانت تتمتع بها الفئات الوسطى المسيحية, نظرًا لانفتاحها على التعليم الحديث قبل مثيلتها في الطوائف الإسلامية.
وإذا دخل بعض أبناء الطوائف المسيحية في الأحزاب القومية والراديكالية الطابع ولعبوا دورًا رياديا فيها كما ذكرنا سالفًا، فإن الشعور النفساني بمفاقمة الخطر على الوجود المسيحي قد تعمق وأصبحت الفئات الوسطى بدورها ترسل أبناءها إلى الخارج تحسّبًا للمستقبل أو تهاجر هي نفسها لكي تعيش في بيئة متطورة مهنيًا وأقرب إلى الثقافة الحديثة التي تلقتها في مدارس الإرساليات أو مدارس الكنائس الشرقية المتصلة بالكنائس في أوربا.
* وجود المدارس والجامعات الأجنبية قد سهّل عملية الهجرة
ولابد هنا من إشارة سريعة إلى الدور الكبير للإرساليات البروتستانتية في مجال التربية والتعليم التي استقطبت أيضًا عددًا كبيرًا من أبناء الطوائف المسيحية إلى جانب أبناء الأعيان والوجهاء من الطوائف الإسلامية.
إن وجود جامعات تدرّس على النمط الفرنسي أو الأمريكي في المنطقة قد سهّل إلى حد بعيد موجات الهجرة من شباب الفئات الميسورة والفئات الوسطى, ما زاد من شعور القلق بشكل عام لدى المسيحيين المشرقيين على مصير وجودهم في المنطقة.
رابعًا: الفئات المحدودة الدخل والفقيرة ... القاعدة الديمجرافية الأساسية
* سهولة انخراط هذه الفئات في الأعمال العسكرية
* الصراع على الموارد المادية المحدودة مع الفئات الفقيرة المسلمة.
ولابد هنا من التذكير بما فعله الجيش البريطاني في العراق بعد الحرب العالمية الأولى عندما استجلب العديد من أبناء الكنيسة الآشورية إلى صفوف الجيش البريطاني لقمع انتفاضة القبائل العربية ضد الاحتلال البريطاني. ومما لا شك فيه أيضًا أن ما شهدته الساحة اللبنانية بين 1975 و1990 من أعمال السرقة والنهب على أيدي الميليشيات المسلحة هي أيضًا تخضع لهذا النمط من التناقضات النابعة من الموارد المادية المحدودة جدًا للفئات الفقيرة ومعظمها لها أصول ريفية، وقد تركت مناطقها وهجرتها إلى المدن الكبرى بحثًا عن لقمة العيش دون أن يتحسن فعليًا مستوى المعيشة لدى تلك الفئات سواء أكانت مسلمة أم مسيحية، ولذلك فإن التوتر يسود بطريقة أسهل العلاقات بين المسيحيين والمسلمين عندما يعيشون في بيئة فقيرة حيث تنقص الخدمات الأساسية وفرص العمل وكسب العيش بطرق شرعية.
* النقص الديمجرافي المزدوج: تضاؤل حجم العائلة ونزيف الهجرة
ولذلك فإن النزيف الأكبر هو الذي يصيب تلك الفئات التي أصبحت تهاجر بأعداد متزايدة إلى دول الاغتراب البعيدة بدءًا من أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر والقرن الماضي بالنسبة إلى اللبنانيين والسوريين، وإلى كندا أو أستراليا في العقود الأخيرة، حيث أصبح المسيحيون الأقباط والعراقيون والفلسطينيون واللبنانيون يهاجرون بأعداد متزايدة، مما يزيد من النقص الديمجرافي الذي تعانيه الطوائف المسيحية لسببين أساسيين: الهبوط الحاد في حجم العائلات من جهة، ونزيف الهجرة من جهة أخرى.
وإذا كان المحيط الإسلامي يتعرض اليوم إلى الظواهر نفسها، فإن حجم الطوائف الإسلامية من ناحية العدد لا يولّد هذا الشعور الحاد نفسه بإمكانية الزوال، خاصة عندما لا يؤمن العامل الديمجرافي الحفاظ على الحجم الديمجرافي للطوائف المسيحية. ولذلك فقد أصبحت تلك الطوائف في حلقة مفرغة، إذ إن تشابك وتراكم العوامل النفسانية والاقتصادية والديمجرافية يؤدي باستمرار إلى مزيد من الهجرة ومزيد من الخوف، وبالتالي مزيد من التقلص الديمجرافي إلى درجة الزوال الفعلي في بعض الأمكنة كفلسطين المحتلة والعراق.
الاستنتاجات والتوصيات
بناء على هذا التحليل السريع يظهر جليًا ضرورة استنفار جهود الكنائس الشرقية لاتخاذ الإجراءات المختلفة الكفيلة بتخفيف سرعة تنامي ظاهرة الهجرة لدى المسيحيين الشرقيين. وهذا ما يتطلب العمل على مستويات عدة تناسب أوضاع الفئات الاجتماعية الثلاث التي وصفناها سابقًا، مع الإشارة إلى ضرورة معالجة العامل النفسي الذي يشجع على الهجرة، وإن كان يصعب التغلب عليه نظرًا لعدم استقرار الأوضاع بشكل إجمالي بالشرق الأوسط. وسنبدأ من هذه القضية أي الخوف من المستقبل.
1- معالجة العامل النفساني:
إن العامل النفسي مهم للغاية، وعلى السلطات الكنسية أن تقوم بحملات توعية حول هذا العامل، خاصة لدى الفئات المسيحية التي لا تتعرض إلى مضايقات طائفية الطابع. وفي نظرنا أن التوعية حول المصير المشترك لكل من المسيحيين والمسلمين العرب في المنطقة أمر ضروري جدًا لنزع الشعور بأن المسيحيين هم دائمًا مستهدفون من الأغلبية المسلمة، بينما يدل الواقع التاريخي على أن زعزعة الاستقرار العام في المجتمعات العربية وتدخّل القوى الخارجية تحت الذرائع المختلفة هما العنصران الأساسيان في تهيئة البيئة والأجواء أمام انفجار فتن طائفية بين مسيحيين ومسلمين. وهنا لابد من الإشارة إلى المؤلفات العديدة للمغفور له الأب يواكيم مبارك حول الحوار المسلم. المسيحي وحول وضع الكنائس الشرقية الدقيق في إطار الصراعات على المنطقة منذ قديم الزمان.
وانطلاقًا من هذه المعاينة فلابد للسلطات الكنسية بأن تجدد روح الوجود المسيحي في المشرق العربي والمصير المشترك بين المسيحيين والمسلمين في التصدي للتحديات الكبرى. هذا مع الإشارة إلى ضرورة تحرّك هذه الكنائس جماعيًا لإنقاذ الوجود المسيحي في فلسطين وبشكل خاص في مدينة القدس التي تشهد الهجمة الصهيونية الأكثر شراسة لتهويد المدينة والتي تطال على حدّ سواء المسلمين والمسيحيين وأماكنهم المقدسة. ومثل هذه الحملات قد تزيد من عزم المسيحيين المشرقيين وتحثّهم على البقاء في الوطن ونبذ شعور الخوف من النفوس.
ولابد أيضًا للمراجع الدينية الإسلامية من أن تنشر جو الطمأنينة لدى الطوائف المسيحية بأنها شريكة أساسية في المجتمعات العربية التي يعيشون فيها بغض النظر عن عدد أفرادها. كما على تلك المراجع أن تؤكد أن القرآن الكريم ينص على الحفاظ على التعددية الدينية، خاصة في ما بين المسلمين وأهل الكتاب، إذ إن القاعدة الأساسية المشتركة بين الديانات الثلاث التوحيدية هي الرسالات الإلهية المتتالية منذ إبراهيم.
2- معالجة العامل الاقتصادي والاجتماعي:
* أهمية أعمال المجمع الماروني وتوصياته في الشأن الاجتماعي والاقتصادي
إن المداولات التي تمت خلال جلسات المجمع الماروني المخصصة لدراسة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والكنسية قد أظهرت بما لا لبس يه سيطرة الهمّ الاقتصادي والاجتماعي على أبناء الطائفة المارونية ومطالبتهم الكنيسة بتفعيل دورها في هذا المجال عبر العمل الدءوب للحدّ من العوامل الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي تؤدي إلى نزيف الهجرة.
وعلى الكنائس أيضًا أن تعمل في المناطق المختلطة على إقامة مشاريع يستفيد منها أيضًا المسلمون القاطنون في البلدات أو الأحياء نفسها، ذلك أن المضايقات التي يتعرض إليها المسيحيون في المناطق الفقيرة، خاصة في الأرياف المصرية، تنبع من حالة الفقر والحرمان المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
* الكنائس والمراجع الدينية الإسلامية كقوى ضاغطة
كما أن على المراجع الدينية الإسلامية والسلطات الكنسية في هذا الخصوص أن تعمل كقوى ضاغطة على الحكومات المركزية والهيئات المحلية من بلديات ومحافظات لكي تتحرك هي أيضًا لمعالجة أوضاع الفقر الشديد، لأنه فقط من خلال المعالجة الجدية لمثل هذه الأوضاع يمكن تجنيب المسيحيين من الفئات الفقيرة المضايقات والاغتيالات والفتن.
كما أن على الكنائس الشرقية أيضًا أن تضغط على الفعاليات الاقتصادية المسيحية الثرية لكي تقوم بدورها بإقامة المشاريع الإنتاجية في تلك المناطق القيرة والمحرومة. ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأعمال الخيرية بمفردها مهما كثرت وتعددت فهي مثل المسكّن الذي يخفف من آلام المرض دون علاج أسبابه.
* العمل على تكييف دور القطاع التعليمي من أجل المساعدة على البقاء في الوطن
أما في ما يختص بالقطاع التعليمي والتربوي والجامعي، حيث تلعب الكنائس الشرقية والغربية دورًا كبيرًا في بلدان المشرق العربي، فلابد من التأثير على إدارة المؤسسات المعنية لكي تهتم أيضًا بمساعدة الطلاب على إيجاد فرص العمل اللائقة لأبناء الطوائف المسيحية بدلاً من تهيئة الطلاب إلى الهجرة عبر الاهتمام شبه الحصري بالاختصاصات المطلوبة من دول الاغتراب، وتوجيه الطلاب توجيهًا يسمح لهم بالتكيّف مع حياة الاغتراب.
ومن أجل القيام بمثل هذا التغيير فلابد لإدارات الجامعات والمعاهد التقنية من إقامة الاتصالات المستمرة والعضوية مع شركات القطاع الخاص المحلي، والشركات الأجنبية التي تحتاج إلى إجراء عمليات تحويل بعض النشاطات إلى الدول ذات الأكلاف المنخفضة والتي تتمتع بكفاءات بشرية متميزة (عمليات الـ Off shoring-Outsourcing)، خاصة في مجال الأبحاث التكنولوجية والطبية والمعلوماتية، وكذلك في أعمال المحاسبة والتحليل المالي أو الطباعة أو مراكز المعلومات الهاتفية أو عبر الإنترنت.. إلخ. وهناك بعض الأمثلة الناجحة في لبنان وإن كانت متواضعة الحجم إلى اليوم.
* ضرورة العمل الكنسي المشرقي لدى الدول الغربية لتغيير سياساتها تجاه المنطقة
هذه هي الاتجاهات التي يمكن العمل بها مستقبلاً لوقف نزيف الهجرة، ويبقى على الكنائس الشرقية عبر الاتصال بمختلف الكنائس الغربية أن تلعب دورًا أكثر فاعلية في المجال السياسي لأن مصير المسيحيين المشرقيين يتطلب أن تهدأ الصراعات الجيوبوليتيكية التي تعصف بهذه المنطقة منذ أكثر من 200 سنة. فإذا لم تهدأ الدول الغربية وتكفّ عن التدخل المكثف في شئون المنطقة وعن احتلال العراق ودعم التوسع الاستيطاني لدولة الكيان الصهيوني في ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، فإن المنطقة ستبقى في حالة غليان، والأقليات المسيحية ستتعرض إلى المزيد من الخوف والهجرة واندثار الوجود التاريخي.
3- معالجة التوترات المذهبية في المنطقة العربية من أجل الحفاظ على التعددية الدينية في المشرق العربي:
إن الجو العام من التوترات المذهبية بين المسلمين أنفسهم في المشرق العربي يهدد استمرار التعددية الدينية في المنطقة ويزيد من قلاقل الطوائف المسيحية نظرًا للتصعيد في نشر العقائد الدينية المتشددة، هذا مع العلم بأن العلاقات المذهبية في ما بين الطوائف الإسلامية العربية نفسها كانت أكثر هدوءًا بكثير عندما كانت القومية العربية هي السائدة في الثقافة السياسية. وعلى أثر حرب 1967 والانكسار العسكري المدوّي للجيوش العربية انتكست القومية العربية المبنية على وحدة التاريخ واللغة، وإلى حد بعيد الدين والتي كانت منفتحة على الثقافات الأخرى وعلى حركة التطور العالمي بشكل خاص في ظل تضامن العالم الثالث الذي كان قد تجسّد في تأسيس حركة عدم الانحياز. وقد كان في حينه الخطاب السياسي خاليًا من الإشارة إلى الدين أو من أي نوع من المرجعية الدينية والمذهبية. ولذلك كان الإسلام والمسيحية العربية يتعايشان بشكل طبيعي دون أية صعوبة، كما كانت المذاهب الإسلامية والعربية تتعايش دون توتر يذكر.
أما اليوم، فإن شحن الجو الديني والمذهبي وارتباط الخطاب السياسي الوثيق مع الدين ومذاهبه هما عاملان يهددان السلم الأهلي في أكثر من بلد عربي. ولذلك يتعين العمل من أجل إرساء مناخ جديد يعيد الهدوء إلى النفسيات المشحونة بالترتر الديني والمذهبي. ومن أجل تحقيق ذلك لابد من التأكيد على حرية الاجتهاد في الأمور الدينية، كما كان سائدًا في القرون الأولى المجيدة من انتشار الديانة الإسلامية وهو انتشار حرّر الكنائس العربية المشرقية من هيمنة الكنيسة البيزنطية واضطهادها للكنائس العربية وللكنيسة المصرية، ولابد من التأكيد على ضرورة إنهاء المأساة الفلسطينية وتضافر كل الجهود العربية، مشرقًا ومغربًا، من أجل هذه القضية الرئيسية والمحورية في الوعي الجماعي العربي. وهذا يقتضي من الثقافة العربية بأن تعتمد بشكل نهائي لا رجعة عنه مبدأ التعددية الدينية كنقيض للنموذج الصهيوني الإقصائي لكل ما هو غير يهودي.
إن مصير الشعوب العربية متعلق إلى أبعد الحدود بإبعاد شبح التفكير الإقصائي الذي استولى على أجزاء واسعة من الرأي العام العربي، وبالتالي العودة إلى ركائز النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين التي تميزت بالإصلاح الديني والنهضة اللغوية والثقافية والفنية العربية، وذلك بالانفتاح على كل تيارات الحداثة التي انطلقت من النهضة الأوربية، ثم دارت في كل أجزاء العالم بعد انفجار الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. أما الاستمرار في التوترات الدينية والمذهبية وانحسار القومية العربية في نوع من القومية الإسلامية التي تطمح إلى ممارسة الممانعة أمام الغزو الثقافي الغربي وتغض النظر عمّا يحصل في فلسطين منذ عقود، فهو طريق الهلاك الحتمي، يجب أن نحيد عنه بسرعة لنعيد بناء مناخ رحب، لا يقبل بالتعددية الدينية والمذهبية فقط، بل يكون هدفه الرئيسي القضاء على النموذج الصهيوني الإقصائي والقمعي، وذلك عبر إعادة التعددية بكل أبعادها في المشرق العربي، وهي تعددية ستحافظ على ما تبقى من الوجود العربي المسيحي، كما ستحافظ على كل المذاهب الإسلامية معززة مكرّمة، وليس كما هو الحال الآن متوجسة وخائفة ومتوترة.
* مفكر ومؤرخ من لبنان.