"هناك أناس سعداء". تلك حقيقة أكدتها دراسات سيكولوجية عديدة أثبتت أن الحياة السعيدة ترتبط في الأساس بالسمات الثابتة للشخصية، فقد ظل العديد من الناس سعداء طوال عشرين عاما دون أن يرتبط ذلك بوضعهم الاجتماعي أو نوع العمل أو مكان الإقامة. فما هي تلك السمات التي تكفل للشخصية مزاجها السعيد؟
لم يحظ موضوع في علم النفس بهذا الكم الوافر من البحوث الذي حظي به موضوع النفس. وعديد من هذه البحوث أضفي أهمية خاصة للتقدير العالي للذات. وفي مجمـوعة من الدراسات أجرتها جامعة ميتشجان عن "الحياة السعيدة" في أمريكا لم يكن المؤشر الأمثل على الشعور بالرضا عن الحياة هو الرضا عن الحياة الأسرية أو الصداقة أو الدخل، بل الرضا عن النفس. فالإنسان الذي يرضى بذاته يشعر بالرضا عن الحياة بوجه عام. وربما لم يكن في ذلك جديد بالنسبة لأي مهتم بكتب علم النفس الشعبية التي تنصحنا بتقدير الذات والتركيز على الجوانب الطيبة في أنفسنا وبالإيجابية. وتقول لنا هذه الكتب: دعك من الشعور بالرثاء للذات، وكف عن حديث السلبية، ولكي تكتشف الحب عليك أن تحب نفسك أولا. والواقع أن هذه الرسالة وصلتنا، والدليل على ذلك أن استطلاعا أجراه معهد جالوب عام 1989 اتضح فيه أن 85% من الأمريكيين يرون أن (الصـورة الطيبة عن النفس" و"تقدير الإنسان لذاته" عامل مهم جدا في تحقيق السعادة.
وفي الدراسات المتعلقة بتقدير الذات نجد حتى الذين لا يكنون تقديرا كافيا لأنفسهم يستجيبون في حدود المعدل المتوسط لدرجات الاختبار- فالشخص الذي يتميز بتقدير متدني لذاته يستجيب لعبارة مثل "لدي أفكار جيدة" باستخدام إضافة مخففة مثل "إلى حد ما" أو "أحيانا".
الأوهام الإيجابية
معظم الناس يرون أنفسهم بالفعل، على أي صعيد اجتماعي أو ذاتي مقبول، أفضل من المستوى العادي. كما أننا نتذكر ونبرر كل ما فعلناه في الماضي بطرق مريحة للذات، ونملك استعدادا أسرع لتصديق الأوصاف أكثر تملقا لأنفسنا من الأوصاف البعيدة عن التملق، ونبالغ في تقييم مدى تقدير الآخرين لآرائنا ومشاركتهم لنا في تصرفاتنا الغريبة.
وبالنسبة لأغلبنا فإن هذه الأوهام "الإيجابية" تحمينا من القلق والاكتئاب. فنحن جميعا قد ينتابنا في لحظات معينة شعور بالتدني وخاصة حين نقارن أنفسنا بهؤلاء الذين صعدوا درجة أو درجتين أكثر منا في السلم الاجتماعي، أو المظهر، أو الدخل. وكلما تركنا تلك المشاعر تتعمق في أنفسنا زاد شعورنا بالتعاسة. من هنا فإننا نمارس حياة أفضل كلما قلت وتواضعت أوهامنا المريحة للذات.
وعلى ذلك فإن التقدير الصحي للذات- بالإيجابية والواقعية في آن معا. ولأن هذا التقدير للذات مبني على منجزات حقيقية لمثل عليا واقعية. وعلى شعور الإنسان بأنه مقبول كما هو، فإنه يوفر الأساس المتين لفرح دائم.
التفاؤل: (السعداء هم الممتلئون بالأمل)
هؤلاء الذين يؤيدون مقولة أنه "بالإيمان يمكن للمرء أن يحقق كل شيء" وأنه "عندما أقوم بعمل جديد فإنني أتوقع النجاح"، هؤلاء الناس قد يبدون خياليين. لكن إذا نظرنا للنصف الممتلئ من كأس الحياة. بدلا من النصف الفارغ فسنجد أنهم سعداء عادة.
والمتفائلون أيضا أكثر سوية. وقد كشفت دراسات عديدة أن الأسلوب المتشائم في تفسير الأحداث السيئة يجعلنا أكثر تعرضا للمرض النفسي. فطلاب جامعة هارفارد الذين أعربوا عن آراء متشائمة عندما أجريت معهم مقابلات عام 1964 كانت حالتهم الصحية أسوأ عندما أعيدت دراسة حالتهـم النفسية عام 1980. وطلاب معهد فرجينيا للتكنولوجيا الذين استجابوا بطريقة متشائمة للأحداث السيئة عانوا نزلات أكثر من البرد والتهاب الحلق والانفلونزا في السنة التالية. وبوجه عام يمكن القول إن المتفائلين أقل تضررا من الأمراض المختلفة ويتعافون بصورة أفضل من السرطان والجراحة.
كذلك يتمتع المتفائلون بنجاحات أكبر. فهم بدلا من أن يروا في نكساتهم علامات على عجزهم ينظرون إليها بوصفها مجرد سوء حظ أو على أنها دلالة على الحاجة لأسلوب جديد. فالإنسان الذي يواجه الحياة بموقف يتلخص كلمة "نعم" للناس والإمكانات يعيش بقدر أكبر من الفرح والقدرة على المغامرة ممن يقولون لكل شيء "لا" .
ويمكن أن نذكر أيضا، بصدد تأكيد الحقيقة الكبرى المتعلقة بالتفاؤل، الحقيقة المكملة القائلة إن المتفائلين غير الواقعيين يمكن أن يخفقوا في اتخاذ الاحتياطات المناسبة، وبالتالي يمكن أن يواجهوا الإحساس بالخجل والإحباط نتيجة للأمنيات المحطمة.
في مثل تلك اللحظات، لا نجد شيئا نلومه إلا أنفسنا. وعندما تسقط الأحلام تكون سقطة الحالمين الكبار أكثر دويا. فالتفاؤل غير المحدود يولد إحباطات بلا نهاية.
وعلى ذلك فالوصفة الطبية للسعادة لا تتطلب التفكير الإيجابي وحده أو السلبي وحده، بل تستلزم مزيجا من التفاؤل الوافر للتزود بالأمل، وقدرا ضئيلا من التشاؤم لتفادي التواكل، وواقعية كافية للتمييز بين ما يمكن أن نتحكم فيه وما لا نستطيع السيطرة عليه.
الانبساطيون: (السعداء هم الودودون)
أوضحت الدراسات النفسية المتعاقبة، أن الانبساطيين- أى الودودين ذوي الحس الاجتماعي- هم أكثر سعادة وإحساسا بالرضا. وتبدو التفسيرات متسمة بالمزاجية إلى حد ما. يقول بول كرستا وروبرت ماكراي من المعهد القومي للشيخوخة إن الانبساطيين هم "ببساطة أناس أكثر مرحا وأكثر شجاعة"، إنهم الواثقون من أنفسهم الذين يمشون في غرفة مليئة بالغرباء ويقدمون أنفسهم لهم بحرارة ربما يكونون أيضا أكثر قبولا لأنفسهم. إن قبولهم لأنفسهم يجعلهم واثقين من أن الآخرين سيقبلونهم أيضا.
إن الانبساطيين يندمجون أكثر مع الناس، ويملكون دائرة أوسع من الأصدقاء وينخرطون أكثر في أنشطة اجتماعية مجزية، وهم يخوضون تجارب أكثر غنى من الناحية للعاطفية ويحظون بقدر أكبر من التأييد الاجتماعي.. وهو ما يشكل عاملا مساعدا على تحقيق السعادة.
ويقول الباحث الأمريكي أبخوس كامبل، ملخصا استطلاعات قامت بها جامعة ميتشجان على المستوى القومي، إن "وجود شعور قوي عند المرء بالسيطرة على مقدرات حياته هو مؤشر يعول عليه بالنسبة للمشاعر الإيجابية بالحيلة السعيدة أكثر من أي شروط موضوعية أخرى للحياة قمنا بدراستها"، فقد وجدنا أن نسبة 15% من الأمريكيين الذين يشعرون بسيطرتهم على أمور حياتهم ويشعرون بالرضا عن أنفسهم لديهم "مشاعر إيجابية غير عادية بالسعادة".
والسعداء أيضا، هم هؤلاء الذين اكتسبوا ذلك الشعور بالسيطرة على النفس الذي يسفر عن إدارة فعالة لوقت المرء. فوقت الفراغ، خصوصا عند المتقاعدين الذين لا يستطيعون استغلال وقتهم، يجلب الاكتئاب والنوم المتأخر، والتسكع هنا وهناك، ومشاهدة التلفزيون، تخلف الشعور بالفراغ. أما بالنسبة للسعداء من الناس فنجد الوقت ممتلئا ومستغلا فهم يتعاملون معه بدقة وفعالية على حد قول مايكل أرجيل أستاذ علم النفس بجامعة أكسفورد الذي يضيف قوله: "أما بالنسبة للتعساء، فالوقت فارغ، ومفتوح، وغير مرتبط بشيء، إنهم يرجئون كل شيء ويفتقرون إلى الفعالية".
من السهولة بمكان القول إن السعادة تتحقق من خلال التقدير الإيجابي للذات والشعور بأننا نسيطر على أمور حياتنا، والإحساس بالتفاؤل، والمزاج الودي في التعامل مع الآخرين.. لكن كيف يمكننا تعزيز مثل هذه السمات؟ وإذا أردنا أن نكون أكثر سعادة فهل يمكننا بطريقة ما أن نصبح أكثر إيجابية، والتزاما بمشاعرنا الداخلية، وواثقين من أنفسنا، وانبساطيي النزعة؟
لنكن أكثر وداً
إن النصيحة الذهبية بأن نكون "أكثر ودا" أو أن "ننظر بتفاؤل أكثر إلى العالم، يمكن أن تثقل كاهلنا بمسئولية اختيار مزاجنا أو طبعنا الأساسي. فنحن نجلب معنا طباعنا إلى العالم، وعلى نحو يفوق بكثير ما يتخيله مقدمو تلك النصيحة.
فالدراسات تلو الدراسات توضح أن السمات الأساسية لشخصيتنا تستمر، وخاصة بعد فترة الطفولة وبالرغم من اندهاش المتخصصين في علم نفس النمو من أن العديد من الأطفال المضطربين وغير السعداء يصبحون في سن النضج بالغين متمكنين ناجحين، فإن هناك رغم ذلك اتساقا أساسيا في سمات الشخصية بعد نهاية السنوات العشر الأولى من عمر الإنسان، وسمات مثل الود والاستقرار العاطفي والانفتاح على الآخرين وروح التوافق ويقظة الضمير تدوم في سنوات البلوغ.
لكن من الصحيح أيضا أننا نملك في داخلنا القدرة على التأثير في مصائرنا الخاصة، وذلك لأننا خالقون مثلما نحن مخلوقات لعوالمنا الاجتماعية. وربما نكون نتاجات لماضينا، لكننا أيضا مهندسو مستقبلنا. إن الشخصية الإنسانية ليست شيئا مبرمجا مثل لون العين. وطباعنا المسبقة التكوين التي نجلبها معنا إلى العالم تترك المجال لتأثير التربية، ولجهودنا الخاصة أيضا. فما نفعله اليوم يشكل عالمنا وأنفسنا غدا.
وإذا كان المتخصصون في علم النفس الاجتماعي قد أثبتوا أي شيء في الأعوام الثلاثين الماضية، فإنهم أثبتوا أن أفعالنا تترك أثرا بداخلنا. ففي كل مرة نقدم على الفعل، نكبر الفكرة الأساسية أو النزوع الأساسي الكامن وراءه. إن معظم الناس يفترضون العكس، أي أن طباعنا ومواقفنا تؤثر في سلوكنا. وفي حين أن ذلك صحيح إلى درجة معينة (وإن كان على نحو أقل من المفترض عادة)، فإنه من الصحيح أيضا أن طباعنا ومواقفنا "تتبع" سلوكنا. فقدرتنا على أن "نفعل" لأنفسنا طريقة جديدة للتفكير لا تقل عن قدرتنا على أن "نفكر" لأنفسنا في طريقة جديدة للفعل.
هناك مبدأ أخلاقي يخصنا جميعا: هل نرغب في أن نغير أنفسنا تغييرا مؤثرا بصورة ما؟ وفي أن نرتفع بتقديرنا لذواتنا؟ وأن نصبح أكثر تفاؤلا وأكثر التزاما بمحيطنا الاجتماعي؟ حسنا، إن الاستراتيجية الفعالة لذلك هي أن ننهض ونبدأ فعل هذا الشيء بالذات، ولا يقلقك أنك لا تشعر بميل نحوه، تحايل على الأمر، تظاهر بتقدير الذات، تصنع التفاؤل، تقمص روح الود والانفتاح على الآخرين.
الشرارة التي تقودنا إلى السعادة
إن المغزى هو: "مواصلة الحركة يمكن أن تطلق شرارة العواطف" فأنت تشعر أنك في حالة مزاجية قلقة وعصبية، لكن عندما يدق جرس الهاتف فإنك تتصنع المرح وأنت تتكلم مع صديقك. والشيء الغريب أنك بعد أن تضع السماعة لا تعود تشعر بأنك ضيق الصدر. وتلك هي قيمة المناسبات الاجتماعية، فهي تدفعنا لأن نتصرف كما لو كنا سعداء. وهو ما يؤدي في واقع الأمر إلى تحريرنا من الشعور بالتعاسة.
إن من المسلم به أننا لا نستطيع أن نتوقع من أنفسنا أن تصبح أكثر تفاؤلية وأكثر ثقة من الوجهة الاجتماعية في ليلة وضحاها. لكن بدلا من أن نسلم أنفسنا برخاوة لطباعنا وعواطفنا الراهنة، فإن بإمكاننا أنه نتجاوز أنفسنا خطوة بخطوة. وبدلا من الانتظار حتى نشعر بأننا نرغب في إجراء تلك المكالمات، أو الوصول إلى ذلك الشخص، يمكننا أن نبدأ على الفور. وإذا كنا بالغي القلق، أو التواضع، أو عدم الاكتراث، فإن بإمكاننا أن نتظاهر واثقين من أن التظاهر سيتلاشى ما أن تبدأ أفعالنا في توليد الشرارة بداخلنا، الشرارة التي ستقودنا إلى السعادة.