مختارات من:

لا عن غزة ولا أريحا.. ولكن عن الحلم الضائع

محمد الرميحي

هناك موضوعات الكتابة فيها أشبه بالسير علي الرمال المتحركة، والقضية الفلسطينية الآن قد أصبحت موضوعا متحركاً بل شديد التحرك. هناك مخاطرة تتمثل في أن الوقت الطويل نسبيا - الذي يمضي - بين الكتابة والنشر، في نفس الوقت فالعجلة السياسية تدور دون أن تتوقف تفاعلات الأحداث وتداعياتها مما قد يفوت على الكاتب بعض التفاصيل في الصورة. وأعترف أن القضية التي كانت تقليدية في أحداثها طوال السنوات الماضية قد أصبحت حافلة بالمفاجآت والتغيرات، في زمن قصير. ففي مثل هذا الشهر من كل عام كنا نتذكر وعد بلفور ونأخذ في تدبيج المقالات في وصف صلف هذا الوعد وخلوه من العدالة حتى غدت فكرة "لقد أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق" تكاد أن تكون مقولة متكررة نبدأ بها مقالاتنا المتكررة في تأبين الحدث لنصل بها إلى نفس النتائج المتكررة.

إلا أن رياح التطورات السياسية تقاذفت الموضوع بين مد وجزر حتى كادت أن ترسو به أخيراً في ميناء الاتفاق الأخير بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. والتعليق على هذا الموضوع شائك ومتشعب ومليء بالانفعالات العاطفية، فجيلنا لا يمكن أن يمحو صورة اللاجئ المشرد في الخيام والمنافي من خياله، يعاني من الجوع والغربة والاغتيال اليومي، كما أنه لا يمكننا أن نتجاوز صلة الدم والعروبة والإسلام التي تربط العرب والمسلمين ببعضهم، كما لا يمكن أن تحمل جريرة البعض على الكل. ومعضلة الكتابة في مثل هذا الموضوع متشعبة فالتاريخ القريب يشدك إلى وقائع مذهلة لا يستطيع حتى من ادعى الحياد أن يصرفها عن ذهنه وقوى الواقع تفرض مسيرة صعبة ومتعرجة.

فأنت بين ألم الماضي وأمل المستقبل وبينهما وقائع قام بها أشخاص وحوادث استقرت في العقول.

بين هذا كله تكاد بوصلة التوجه والتحليل أن تتذبذب بين اتجاهات كلها متناقضة.

إنه تاريخ العرب الحديث بعد الحرب العالمية الثانية! أي ما يقارب نصف قرن من الآمال والآلام والفرص المتاحة والفرص الضائعة وتاريخ أكثر من جيل انغمس حتى أذنيه في الصراع والشقاق، فضيع على نفسه فرصاً وعلى أبنائه إمكانات. تاريخ الآلاف من القتلى والمعتقلين والمشردين وآلاف الأرامل والأيتام. كم تبدلت التحالفات وزاغت الأبصار. إنه تاريخ اتسم بالعنف والانقلابات والتصفيات. وكان أساسه وعد بلفور وحلم الآخرين في أولاً تكوين أمة وثانياً تحرير فلسطين وربما تأتي ثانياً قبل أولاً، وربما جاء الاثنان - لدى البعض - في نفس الدرجة من الأهمية.

القومية العربية.. حلم مبدد

قبل بداية الحرب الأولى كانت هناك بؤرة فكرية نمت حتى سميت بـ "القومية العربية" ولقد كتب فيها ونظر إليها مجموعة لا بأس بها من المفكرين كما تبنتها أحزاب وحركات سياسية، وتلونت هذه الفكرة في كل مرة بلون الحزب أو الحركة السياسية التي تبنتها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية واستقلال معظم الدول العربية عن الاستعمار المباشر.

ولقد ازدادت الفكرة القومية تجذيرا (بنكبة) فلسطين والتي كانت في البداية أن شعباً ليس له حق قد اقتلع شعباً عربياً وأزاحه إلى المخيمات واغتصب أرضه من (النهر إلى البحر) وتداخلت مصالح وقوى وأهواء، تعارضت وتوافقت باسم (القومية) وباسم المساعدة على تحرير فلسطين، من السهل الآن إلقاء اللوم على هذه الفئة أو تلك - وإن فعلنا ذلك فإننا لم نتقدم خطوة على (الحرس القديم) - إنما المراد في هذا الحديث هو سبر الأغوار الفكرية والتماس الدوافع الموضوعية وبيان الحقائق كما هي على الأرض، التي قد تفسر هذا التذبذب وهذا الصراع الذي كان في بعضه صراعاً عبثياً ومدمراً.

لقد رفعت شعارات الهدف منها هو كما قيل (تعبئة الجماهير) وراء شعار التحرير وحرب العدو، وباسم هذه الشعارات هدمت دول وأطيح بمؤسسات وشتتت قوى (الأمة) وأزيح مفكرون ومثقفون، وهم خلاصة المواهب المتوافرة في بلدانهم، كل ذلك باسم التحرير، وقد سارت الجماهير - نتيجة لغياب الوعي أو نقصه أو قلة المعلومات - تبارك هذه الخطوات حتى لو كانت متناقضة ومتعثرة، ومن يقرأ بيانات وأدبيات السياسة العربية في الستينيات والسبعينيات يجد هذا التناقض واضحاً. وإن كان المثل ورادا فإن قارئ بيانات الوحدة والانفصال السورية/ المصرية في الستينيات يتعرف على حقيقة متناقضة وهي أن كلتا العمليتين قد تمت (للدفاع عن القومية العربية) وأيضاً تحرير فلسطين!!.

ولم يخل بيان سياسي في تلك الفترة عن وضع اللوم كله أو معظمه على إسرائيل تبريراً للإخفاقات العظيمة التي منيت بها دول عربية.

في السياسة النتائج هي التي تحسب وليس الشعارات، لقد امتهن استخدام شعارات القومية العربية، بل وأسيء استخدامها مراراً وتكراراً حتى عانت من جراء ذلك (الأيديولوجيا) واكتشف الناس أن تلك الشعارات استخدمت فقط - في أحسن أحوالها - لإبقاء هذه الفئة أو تلك أو ذاك الحزب في السلطة لا أكثر ولا أقل.

الفلسطينيون الذين شردوا من ديارهم واقتلعوا من أرضهم، كانت لهم قضية واضحة وعادلة، وقد حرموا لفترة من أن يمثلوا أنفسهم حتى بداية السبعينيات. لقد عانوا ما عانوه من ظلم واضطهاد وحرمان وشتات.

وكان من المفروض أن يأخذوا على عاتقهم أولاً التصدي لهذا الظلم وتم بالفعل قيام منظمة التحرير وأصبحت منذ الثلث الأول من السبعينيات (الممثل الشرعي الوحيد) للشعب الفلسطيني، كان من المفروض أن يكونوا هم أول من وعى الدرس واستفاد منه، إلا أن ذلك لم يتم في معظم الوقت، فلقد ظن أو تخيل البعض في قيادة المنظمة أنه أصبح دولة ودخل في مناورات وصراعات دول المنطقة يقفزون من النقيض إلى النقيض ظناً منهم - وهو ظن خاطئ - أن ذلك يصب في مصالحهم "وثورتهم" والتي كانت ترفع شعارات "ثورة حتى النصر". وخلفوا وراءهم في الأردن ولبنان وأماكن أخرى شريطا من الألم والحسرة، والمرارة أيضا، وكذلك حدث في الكويت.

التناقض أن وجود المنظمة كممثل للشعب الفلسطيني بحد ذاته، اعتراف بالدول والأقاليم العربية، ونقيض لفكرة الوحدة العربية، وظهور (دولة) إن شئت على حساب الدولة (الأردنية). إلا أن كل هذه الحقائق قد تم تجاوزها على طريقة تسمية الشيء ونقيضه بنفس الاسم. واستخدم قادة المنظمة - متى ما يحلو لهم - الغطاء العربي في آن والإقليم الفلسطيني في آن آخر وبرروا كلا التناقضين بوهن (الدعم العربي)!.

نعم للوحدة.. لا للموظفين

حقيقة الأمر أن معظم السنوات الخمسين عاشتها السياسة العربية في ديماجوجية هي انعكاس لعوامل هيكلية داخلية في المحيطات العربية مثل نقص التعليم وضيق الحرية السياسية والأحادية في التعبير السياسي، كما هي نتيجة بعض العوامل الخارجية ومنها بالطبع آثار الحرب الباردة. وقد أثرت الحرب الباردة بشكل أكثر قسوة في منطقتنا العربية لأن تكتيكاتها وجدت تربة خصبة في العامل السياسي المحلي وهي محاولة الاستفادة من طرف على حساب طرف آخر دون - أو هكذا كان المقصود - أن تقدم دعما حقيقيا للطرف المعاضد! ولم يكن ذلك كله يخفى على جميع الأطراف!.

لم نستطع - حتى فترة متأخرة - أن نتبين المصالح المتباينة والشرعية أيضاً بين الأطراف العربية، كنا نمارسها نعم ولكن لم نعترف بها علناً فكنا والحال كذلك نعيش شخصية مزدوجة، وهي بالمناسبة ليست جديدة على سلوكنا السياسي، فساطع الحصري - السوري، اليمني المولد - عندما تولى وزارة التربية في العشرينيات في العراق وأراد أن يوظف مجموعة من الأساتذة السوريين في مدارس العراق خرجت مظاهرة (كما يقول في مذكراته) تهتف نعم للوحدة.. لا للتوظيف!!.

ومثال جديد وحديث فالمحادثات السورية/ العراقية للوحدة في بداية السبعينيات كانت تسير حثيثة وعندما ذكر السوريون الثروة النفطية تباطأ العراقيون ثم اخترعوا (العقبات) لوقف المحادثات. أما في نهاية السبعينيات فإن (الاختراع) كان الإطاحة بمجموعة من رءوس النظام العراقي علي أنهم مناوئون، بل خونة! بعد محادثات سورية عراقية "وحدوية ". وهكذا تحولت القومية العربية عند كتابها التقليديين إلى "دوجما" سياسية ذات اتجاه واحد، تركز على العوامل المتشابهة وتنفي الاختلافات النوعية بين الأقطار، تعتمد على المتتاليات وليس تفاعلات البنى الاجتماعية والاقتصادية. كما تحولت عند الممارسة السياسية إلى شعار لإلهاء الجمهور والتنصل من تبعاتها في أول فرصة، وأصبحت الجماهير العربية حائرة بين الثقافة القومية السائدة التي تؤكد أن كل شيء متشابه إلى درجة التطابق وبين الاختلاف النوعي المعيش في الواقع في قضاياها وتطلعاتها. ورغم اختفاء هذا النوع "التوتالاري" اليوم من التفكير من العالم كله إلا أن بعض الجماعات المتشددة والداعية للأيديولوجية الشاملة تحاول أن تعيد نهج التفكير ذاته ولكن بطرق مختلفة وتحت مسميات جديدة.

الحلم يتضاءل

وبانتهاء قضية فلسطين إلى هذا الاتفاق الثنائي الأخير فإنني أعتقد أن آخر أحلام القومية العربية آخذ في التضاؤل هو الآخر. ذلك الحلم باستعادة فلسطين وطنا لكل الفلسطينيين.

ويبدو أن الهزيمة التي تم تأخير إعلانها طويلا منذ أعوام 48 و 67 قد حان وقت إعلانها الآن وسط ضباب مليء بحبر المعاهدات والوعود الغامضة. فهل كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي حقاً الممثل الوحيد والشرعي والممكن للشعب الفلسطيني، وهل كان ياسر عرفات هو رمزها وقائدها عندما كان يقول قريبا جداً في عام 1989: إن منظمة التحرير الفلسطينية عندما تعرض السلام لا تعرضه من موقف ضعف.. ولكنها تعرض سلام صلاح الدين.. "وليس أقل من ذلك" فأي سلام هذا الذي عرضه وأي سلام هذا الذي قبله؟.

يبدو أنه كان غامضا مثل غموض معاهدة السلام التي وقعها.. يروي الكاتب الفلسطيني الشهير إدوار سعيد أن عرفات كان يخطب وسط جماهيره الفلسطينية المحتشدة وكان كعادته يصيح ويشير ويبكي أحياناً من شدة الانفعال وعندما سأله واحد منهم عن الصورة التي سوف تكون عليها شكل الدولة الفلسطينية المقبلة أشار عرفات إلى طفل صغير يقف في مقدمة أحد الصفوف وهو يقول "عليك أن تسأل كل طفل فلسطيني ماذا يريد؟" وصرخت الجماهير في إعجاب باهر وانخرطت في التصفيق.. ويتساءل إدوار سعيد حائراً: "بحق السماء ماذا كان يقصد.. وماذا كان يعني بالضبط..".

إلى أي مدى كانت مصداقية هذا الرجل الذي تحول في وقت ما إلى أمل لكل المستضعفين في المخيمات.. هل كان الدور الذي يقوم به مرصوداً بدقة حتى أن رفاقه تساقطوا من حوله وبقي هو حيا كأن معجزة إلهية ترعاه. لقد اجتاحت إسرائيل بيروت عام 1982 وقصفتها بوحشية شديدة ولكن مقر عرفات لم يقصف. بل وانتشرت إحدى القصص التي تؤكد أن عرفات عندما كان متجها لركوب السفينة لمغادرة بيروت استطاع أحد الجنود الإسرائيليين أن يضعه في دائرة الإصابة ببندقيته ولكنه لم يطلق النار. وربما كانت القصة زائفة ولكن رسالتها واضحة، لقد أبقي عليه حتى يكون ذا فائدة في المستقبل فمن كان يتوقع أن نصل إلى هذه النتيجة؟!.

التقزز الإسرائيلي والرضا الفلسطيني

"إنني أفعل ذلك بتقزز..." هكذا وصف إسحاق رابين محادثاته مع منظمة التحرير الفلسطينية.

قال ذلك أمام الكنيست الإسرائيلي دون أن يبالي بالاعتذار لأحد. وحين جاء وقت المصافحة الشهيرة تردد لبضع لحظات سينمائية بينما بقيت يد الرئيس الفلسطيني معلقة في الهواء.. كأن يد رابين ظلت تحاول إظهار تقززها حتى اللحظة الأخيرة.

كالعادة جاء شهر أغسطس الحار حافلا بالمفاجآت. وخرج إلينا الاتفاق السري من أحراش أوسلو الباردة، ربما كانت فيه بعض النقاط الإيجابية التي لا يمكن لمحها منذ الوهلة الأولى، ولكن الطريقة السرية والمريبة التي خرج بها جعلت كل شيء محفوفاً بالشكوك للبعض ووصلت هذه الشكوك إلى درجة الاتهام بالعمالة والخيانة وغير ذلك من التهم العربية المعروفة.. والجاهزة. فلا يوجد أحد ضد السلام وضد التفاوض. بل إن منظمة التحرير كانت ممثلة قولا وفعلا في المباحثات العلنية التي كانت تتهيأ لدخول جولتها الحادية عشرة في واشنطن. ولكن نفس المنظمة التفت من خلف مفاوضيها وقبلت كل الأشياء التي كانت مرفوضة. كان المفاوضون في واشنطن مصرين على أن قرار مجلس الأمن 242 هو الأساس لقبول أي تسوية من أي نوع. لأن هذا هو القرار الوحيد الذي من شأنه أن يلزم إسرائيل بالانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها، ولأنه كان قراراً دوليا له شرعيته وأمريكا هي أول المعترفين به فقد كانت إسرائيل تجد نفسها في موقف صعب تفاوضيا، وجاءت المنظمة في محادثاتها السرية وألغت هذا الشرط. نفس الأمر بالنسبة لسلطات الحكم واستمرار إقامة المستوطنات ومبدأ تقسيم المياه. شروط واضحة ومحددة كان الوفد المعلن يسعى لاتفاق واضح وصريح حولها وجاءت المفاوضات السرية لتنسف كل هذه الأشياء وتكتفي بمعالم غير واضحة وبقطعة ضئيلة من الأرض وبمكسب متواضع لا يوازيه في تواضعه إلا الطموحات السياسية لأصحابه.

ربما كان الأوان قد فات لكل هذه الانتقادات المريرة. ولكن قادة المنظمة وعلى رأسهم ياسر عرفات قد أثبتوا قصر نظرهم في التعامل مع أراضيهم بنفس الدرجة التي تعاملوا بها معها أثناء غزو العراق للكويت.. فهؤلاء الذين عانوا من مرارة الاحتلال واستلاب الأرض باركوا احتلال الكويت واستلاب أرضها وهم الآن يقنعون بحل مرحلي غامض يكرس الاحتلال ويضيع الجزء الأعم من أرض فلسطين.

لقد أخذوا قطعة من الأرض متفجرة بالألم والحزن، فقطاع غزة الذي اشتهر بأنه يصدر البرتقال والمدرسين يحتوي على أكداس من البشر الذين شهدوا المأساة وكانوا دائما أكثر من طاقة هذا الشريط الضيق على استيعابهم، والخوف ألا يتوقف تدفق البشر عليه، فالمخيمات سوف تنزح إليه بحثا عن الوطن وإسرائيل تطرد إليه المبعدين نفيا من الوطن. ولا أحد يعلم متى ستخرج المفاوضات من مرحلتها الأولى لتصل إلى المرحلة الثانية، ولا أحد يعلم كيف يمكن أن توضع معالم الحكم الذاتي وسط غابات المستوطنات التي اقتنصت الأرض.. ولكن يبدو من كل ما مضى.. أن الأصعب مازال قادما في الطريق.

لا أحد يؤيد..لا أحد يعترض

لم يستطع أحد أن يؤيد. لم يستطع أحد أن يعارض. هذه هي حالة الشلل التي تعاني منها السياسة العربية حتى الآن. وانقلبت العملة على وجهها الآخر، وتذكر الجميع أن فلسطين هي قضية تخص الفلسطينيين فقط. وعندما عرضت نصوص الاتفاق قلب السياسيون العرب شفاههم وغرقوا في الصمت مره أخرى.. هل كان هذا الاتفاق هو ممكن السياسة العربية فقط في وضعها الراهن وفي ظروفها الراهنة.. يبدو أن الأمر كان كذلك.. والعقبات كثيرة، ففي الوقت الذي يتحدث فيه فلسطينيو الاتفاق أنهم قد أصبحوا على طريق الدولة الفلسطينية يصر الإسرائيليون على أن الحكم المؤقت لمدة خمس سنوات لن يؤدي إلى قيام مثل هذه الدولة، فإدارة الحكم الذاتي لا تستطيع أن تمارس أي حق من حقوقها في السيادة ولا تستطيع أن تمنح مواطنيها أي نوع من الهوية، وهو أمر يخالفه حقوق الإنسان ويكرس وضع اللا جنسية بالنسبة للفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، ولا يتحدث الاتفاق ولو بالمصادفة المحضة عن الفلسطينيين الذين سكنوا الخيام منذ عام 1948 في الأردن وسوريا ولبنان.. ماذا سيحل بهم وأي وضع قانوني سوف يكونون فيه بعد أن أسقطت كلمة اللاجئين تماما من قاموس الاتفاق؟..

إسرائيل لا تراهن ولكنها تحاول أن تأخذ.. ولكن ليس أمام منظمة التحرير غير المراهنة.. فهي تراهن أولا على النوايا الإسرائيلية.. وثانيا على قطعة الأرض الصغيرة لعلها تكون نواة لدولتها الغامضة.. وتراهن على حصة من أموال المساعدات التي تتوقع أن تتدفق عليها، وتراهن على آلية انتخابية تضمن لها أكثرية في انتخابات المجالس المحلية في الضفة والقطاع.. مراهنات لا تنتهي، ربما انتهت ببعض المكاسب.. ولكن ما العمل أمام خصم يحتكر كل أوراق اللعبة؟.

وقت الحسابات الثقيلة

ربما كان على قادة منظمة التحرير الفلسطينية وهم يستعدون للتوقيع على الاتفاق أن يتذكروا أنه في هذه اللحظة حان وقت دفع الحساب لقائمة من الأخطاء الكبيرة، وعلى رأسها بطبيعة الحال موقفهم من احتلال الكويت..

لقد أورثت أزمة الخليج وحرب تحرير الكويت منظمة التحرير جبهة، أقل ما توصف به أنها غير مبالية بمصير المنظمة، بعد أن كانت أكثر الجبهات المساندة لها تحمسا. وقد أدرك القادة ذلك عندما توقفت التحويلات المادية السخية التي كانت تأتي لهم من بلدان الخليج العربي، وكذلك توقف الدعم السياسي والمعنوي. وفي حالة بلد مثل الكويت كانت تحتضن 400 ألف مواطن فلسطيني أخرجهم الاحتلال وقصر نظر قادتهم عنوة بعد أن كانت تعتمد عليهم آلاف الأسر في الأرض المحتلة، مما أعطى للانتفاضة هذا البعد الزمني والمادي فواصلت صمودها على مداه، وهو الأمر الذي لم يملك أمامه الشاعر الفلسطيني سميح القاسم إلا أن يقول في مجلة المصور القاهرية أخيرا "نحن لا نملك إلا أن نزجي الشكر إلى الكويت". وحين أرادت أمريكا أن تقدم لهم حلا في إطار متغيرات النظام العالمي الجديد اكتشفت أنه لا يوجد لهم سند حقيقي يقوي ظهورهم. لقد كف العرب عن مجاراة بعض الفلسطينيين في أخطائهم وممارساتهم السياسية، لأن خطأ موقفهم في حرب تحرير الكويت كان أساسيا وعميقاً ولا يمكن التغاضي عنه بسهولة، ومازالت آثاره تفرض نفسها على المنظمة، وليس توقيع اتفاق غزة وأريحا آخر هذه الآثار.

العرب، والعرب الآخرون

بإجراء الاتفاق الإسرائيلي/ الفلسطيني لم يعد مبررا أن تحتل إسرائيل جزءا من لبنان أو جزءا من سوريا، فقد كانت القضية هي أن إسرائيل معتدية على شعب وأرض فلسطين وأن الإخوة العرب يساعدون أخاهم. ومادامت المنظمة قد اتفقت وأعطت وأخذت بالطريقة التي تناسبها فلم يعد مبررا إذن بقاء الجولان أو الجنوب اللبناني في أيد إسرائيلية.

المؤسف بالطبع أن (العرب الآخرين) وهو تعبير غير دقيق وغامض ملومون من قبل بعض ما كتب قريبا من قيادة المنظمة بأنهم السبب في هذا (القليل) الذي أخذ، وأعتقد أن مثل هذه الاتهامات تابعة للتفكير الماضي وليس المستقبل، والنصيحة هي أن يكف البعض عن التلميح لذلك، لأن ما أخذ أو أعطي هو نتيجة توازن قوى لم تلعب فيه السنوات الأخيرة إلا القليل وإنما كانت تراكماته تتزايد منذ عقود، وهي كما قلت تراكمات هيكلية، قاد إليها قصر النظر وحب (المغامرات) السياسية، التي تبناها قادة المنظمة.

ومن المؤسف أن هناك قوى وتيارات بدأت تنظر إلى التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط نظرة تلك الجماعات التي حشدت الجماهير منذ الخمسينيات في اتجاه التحرير الكامل، ومرة أخرى دون حساب للثقل النوعي للقوى المختلفة على أرض الواقع... البعض يعود ليتشبث بأهداف الأيديولوجيات القديمة في أثواب أيديولوجيات جديدة، متناسين أن الاختلافات في شئون الدولة والسياسة يحكها الصواب والخطأ لا الكفر والإيمان، وتحددها القوة والضعف لا الآمال والأماني، ويحاول هؤلاء من جديد استغلال عدم الوعي أو الوعي الخاطئ بإشاعة أطروحات وشعارات لا يختلف محتواها ومقاصدها عن شعارات السبعينيات والستينيات وإن تدثرت بعباءة أخرى. والسؤال: هل من المحتم علينا أن نكرر أخطاء الماضي بصيغ جديدة وننتظر أربعة أو خمسة عقود أخرى لنكتشف القوى المؤثرة على أرض الواقع، ونستبدل من جديد طريق العلم والمعرفة وملاقاة التحدي الاقتصادي بتحد كلامي فضفاض وأطروحات عبثية جديدة؟.

الدور العربي المطلوب

لا أعتقد أن إسرائيل تطمح من وراء هذا الاتفاق إلى إرضاء الفلسطينيين. فقد أثبتت التجارب المريرة أنها قادرة على مواجهتهم بشراسة. ولكنها بالتأكيد تتطلع إلى منطقة الشرق الأوسط بأكملها وإلى عالمنا العربي الذي تحول إلى منطقة عالمية تتصارع فيها كل القوى... وهي تطمح إلى أن يكون هذا الاتفاق الغامض الهزيل هو حصان طروادة الذي تتسلل بواسطته إلى أعماق البلاد العربية.

إنها تريد أن تؤكد تفوقها العسكري بتفوق من نوع آخر هو التفوق الاقتصادي والتقني.

وهنا يأتي الدور العربي الغائب... فإذا كان الفلسطينيون مرغمين على توقيع هذا الاتفاق الذي يتيح لهم جزءا ضئيلا من الأرض، فإن الدول العربية غير مرغمة على تبادل الاعتراف مع إسرائيل إلا إذا تم هذا الاعتراف بشروط هذه الدول (العربية) ووفقا لمصالحها.

أيا كان نوع الاتفاق القادم فإننا نريده أن ينهي الدموع والألم والعذابات الفلسطينية المتصلة منذ ضياع الأرض. ومهما كانت المواثيق - وهي غامضة - فلن تؤكد نفسها إلا على أرض الواقع ولن يصبح هذا الاتفاق ساريا إلا إذا نفذ الجانب الإنساني منه وأن يتمتع فلسطينيو الداخل.. وفلسطينيو غزة وأريحا بنفس الدرجة من الحرية والمساواة التي ترفع عن كاهلهم عبء الاحتلال. الثقيل، وإلا إذا تم الاعتراف بأن الجولان وجنوب لبنان قطعتا أرض عربية، آن أوان عودتهما إلى وطنيهما.

إننا في حاجة إلى الانتظار حتى يخرج إلينا زعيم فلسطيني - وليس مهما أن يكون ياسر عرفات - يتمتع بالأمانة والمصداقية كما فعل الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا وهو يدعو العالم إلى رفع المقاطعة عن جنوب إفريقيا. نريد نحن أيضاً دعوة فلسطينية حقيقية تدعو الدول العربية إلى رفع المقاطعة عن إسرائيل وأن تكون الأسباب واضحة وجلية وليست بنفس حبر الاتفاق. وحتى هذه اللحظة فإن على البلاد العربية أن تواصل إغلاق حدودها في وجه كل الأحصنة الخشبية ويكفي ما أضعناه من أوطان.

ربما كان علينا أن نتفاءل قليلا، ورغم أن ما حدث هو توقيع اليائسين... إلا أن هناك قدرا من التفاؤل يبدو عند حافة الأفق البعيد. فقد حصل الشعب الفلسطيني على جزء من أرضه. ولعل هذا يقلل كثيراً من اكتمال الحلم الإسرائيلي بالاستيلاء على كل فلسطين وإقامة دولة دينية يهودية مهيمنة على المنطقة العربية. وربما يلعب العنصر الديمغرافي دوره وتعطي الجغرافيا ميزتها لأهلها الذين افتقدوا كل ميزة. ولعلنا نذكر قول بسمارك "إن واحدة من معطيات التاريخ تبقى ثابتة مهما تغيرت المعطيات الأخرى... هي الجغرافيا...". وهو أمر لا فضل لنا فيه ولا حيلة لإسرائيل في مواجهته... فهي موجودة وسط محيط عربي، والفلسطينيون يتكاثرون، وإذا أحسنا استثمار هذه القوى البشرية واستوعبنا خبراتها المتراكمة من المنافي المختلفة فسوف تكون لدينا طاقة جبارة وقوة دافعة. إن هذا الأمر سوف يفرض وجوده على أرض الواقع ويبقى عليهم معا - الفلسطينيين والإسرائيليين - أن يعيدوا البحث عن صيغ مشتركة للتعايش على ألا تكون بالضرورة مجحفة مثلما نشاهد في هذه الأيام.

هل هي عودة إلى التفكير الصحيح؟

كان من أبرز ملامح خطابنا السياسي الماضي هو وضع اللوم على (الصانع الغائب) وعادة ما يكون صانع إخفاقاتنا الغائب هو إسرائيل أو الغرب أو الاثنين مجتمعين. وكأننا أولا نريد أن نعادي الآخرين ولا ننتظر منهم أن يعاملونا بالمثل. لقد عكس الصراع العربي/ الإسرائيلي بين 1947 و1993 تاريخا من الإخفاقات، وكان معظمنا يبرر أسباب الإخفاق بمقاصد الغير السيئة - إلا في فترته الأولى - عندما وضع السبب على عسف الأنظمة الجديدة التي أطيح بها واحداً تلو الآخر دون أن تتخلص من شوائبها الأساسية حتى لو تغير البشر.

العودة إلى الصحيح هو أن الشعارات القديمة لم تعد قادرة على أن تكون بؤرة للتحشيد والتضحية بالمصالح الحقيقية في سبيل آمال لم تثبت صحتها. فلا بد من التفكير بإطار قومي جديد يؤكد مصالح الأمة المفترض وجودها، هذه المصالح هي القاسم المشترك لمصالح الدول وليست مصالح دولة أو عدة دول، تحمل شعارات مضللة وتسلب مصالح الآخرين باسم هذه الشعارات. بالتأكيد المظلة العربية مطلوبة لأننا ببساطة في هذا العالم من جهة نعيش عصر التكتلات والمصالح الجماعية، ومن جهة أخرى هناك آخرون خارج الإطار العربي يريدون أن يعظموا مصالحهم على فرقتنا. لا بد من التفكير بإطار قومي جديد يؤكد مصالح كل الدول العربية، لا دولة واحدة ولا تكتل لدول بعينها ولكن ما هي بالضبط مصالحنا المشتركة؟ بالتأكيد ليست المصالح هي تلك التي توقظ أحلام أو أوهام العودة مع كل خطاب يلقيه سياسي طامح ومع كل دبابة تقلب حكما مستقرا، ومع كل كارثة تحل بوطن مسالم. تلك مصالح مرضية وجب التخلص منها. المظلة العربية مطلوبة بعد تحديد دقيق لمفاهيم مثل التضامن العربي والأمن العربي، في إطار ما يحفظ الكرامة والاستقرار والاستقلال لكل بلد عربي.

لقد تزامنت العقود الأربعة الأخيرة بشيء من التصرفات (الصبيانية) في السياسة العربية وهي تصرفات وسلوكيات لن يفسح لها المجال في المستقبل. بل من المطلوب أن تحل محلها علاقات عقلانية على مستوى الوطن وعلى مستوى العلاقات العربية البينية. والتفكير الصحيح على مستوى آخر هو القول إن التحدي الاقتصادي هو التحدي الصحيح. لقد اخترنا أعداء وهميين وخياليين وربما بعضهم حقيقي في الماضي وحاربنا طواحين الهواء من منطلق عدم المعرفة بالنفس، وبعد إنجاز اتفاقية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية وعودة الجميع إلى أرض الواقعية بانسحاب إسرائيل من الجولان ومن جنوب لبنان، فإن التحدي الصحيح سيكون هو التحدي الاقتصادي وهو القوة التي تواجهنا وتدعونا إلى خوض المعركة، بعد أن انتهينا أو كدنا من تحديد الهوية وتحديد موقعنا الحضاري..

يتعين علينا جميعا أن نتساءل في آخر المطاف ما إذا كان السلام الشامل المراد سوف يولد الثقة والتعاون أم أنه سيكون فقط إنهاء قسريا لحالة العداء، حيث إن السلام القادم لا يمكن مقارنته بما مضى، فالاتفاقات المصرية/ الإسرائيلية مثلا (وهي الأولى من نوعها) لم تغادر مرحلة فك العداء، إذ بقي التبادل التجاري مع الاستثمارات المتبادلة محددة بين البلدين، إلا أن وجود كيان فلسطيني مشارك في المصالح والأرض والثروة مع إسرائيل مع التداخل المعروف في المستوطنات سيحتم شكلا أو آخر من التعاون الاقتصادي. وإذا تذكرنا فقط أن الاقتصاد الإسرائيلي هو ضعف اقتصاد أكبر دولة عربية (مصر) وأن عدد سكان إسرائيل محدود نسبيا فسوف نتبين الإمكانات الكبيرة لإسرائيل بالنسبة لجيرانها، عدا بالطبع الإمكانات العلمية والتقنية، في الوقت نفسه الذي أهدرت فيه إمكانات الاقتصاد العربي لعقود من الزمن.

في خطاباتنا السياسية السابقة تجاهلنا قوة العلم وأهمية التقنية وكانت القوة بالنسبة لبعضنا هي حناجر مدوية والعلم شعارات مطروحة. وواقع الأمر أن عصب التقدم الحديث هو العلم بكل أشكاله وجمع مجالاته، وما يرتبه على سلوك المواطن والوطن في المجالات السياسية والثقافية والتقنية والاقتصادية في الإطار الاقتصادي، ولم تتمكن إلا أنظمة عربية محدودة من تقديم إصلاحات بنيوية تهدف إلى إنعاش اقتصادي واجتماعي معقول، كما أن غالبية المحاولات العربية لإنشاء مجموعات اقتصادية إقليمية بمسميات مختلفة فشلت أو تعثرت بسبب الخلافات والنزاعات السياسية وليس الاحتياجات الاقتصادية. وبقيت معظم الاقتصاديات العربية مغلولة ومكبلة بقيود داخلية وحصار سياسي واستنزفت لأهداف بعيدة عن مصالح الشعوب.

لقد تغلبت السياسة على العلم، والأهواء على المصالح، والمطامح الفردية على صالح المجموع فأنتجت وضعاً لا تحسد عليه أي مجموعة بشرية حول العالم الذي نعيش فيه. فهل جاءنا زمان نتعظ من متغيراته؟ أرجو - مخلصا - ذلك.

محمد الرميحي مجلة العربي نوفمبر 1993

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016