تعيد المؤسسة المدرسية إنتاج علاقات التفاوت، والتمايز، والعنف السائدة اجتماعيا، وتستدخلها، وتسبغ عليها المشروعية، وبالتالي تعيد المدرسة إنتاجها من جديد عبر مخرجاتها وعلاقاتها وقيمها وتأثيراتها.
وإذ كنا نزعم أن هدف كل تربية هو بالدرجة الأولى تحرير الفرد من كل ما يعيق ويجهض فتح قدراته وانطلاقها وانبثاقها، فإن كل العلاقات، والأنماط السائدة التي تمنع هذا التحرر والتفتح جديرة بالإدانة والفضح.
ويترتب على نقطة الانطلاق السابقة ان الاستبداد والتسلط كإرث سياسي وثقافي نجد صداه وتجلياته عبر وسائط التنشئة الاجتماعية المختلفة، وبالتالي فإن مواجهة شتى صور انتهاكات كرامة الإنسان، وحقوقه وخاصة داخل المؤسسات التعليمية رهينة إلى حد كبير بفهم وتقويم الاستبداد السياسي والثقافي في المجتمع الكبير. ومما يثير التساؤل والانزعاج أن الموروث الحضاري والخلقي والديني للمجتمعات العربية، والتي تؤمن للإنسان والمجتمع قدرًا كبيرًا من الاحترام، كاحترام الحقوق والتعايش السلمي، قد فقد قوته الدافعة ودوره الوظيفي بسبب ضغوط الاستبداد السياسي منذ العصور الوسطى، وإلى ما بعد ظهور الدولة الوطنية في الخمسينيات، ولا يمكن فصل القهر السياسي عن القهر الاقتصادي والاجتماعي والذي لا يخلو منه مجتمع عربي، مع تفاوت حجمه وثقله. وربما يكون الإصلاح السياسي والذي يعني توفير مناخ الحرية والتعددية السياسية وتداول السلطة والإصلاح الدستوري، ونزاهة الانتخابات واستقلال القضاء، والشفافية والمحاسبية هو الشرط اللازم لتغيير هذا المناخ القائم على العنف (بكل صوره)، والقهر، والتسلط والذي ستتمثله المؤسسة التعليمية والعلاقات البيداجوجية بالضرورة، وإن كان هذا الوعي بنفوذه الاجتماعي على التربوي لا يحد دون النضال من أجل تغيير القيم والممارسات العنيفة داخل المؤسسة التعليمية، ومحاولة المضي قدما نحو هدف تحرير الفرد، واحترام كرامته وخصوصيته وإرادته.
وتتعدد أشكال العنف التربوي في المدرسة المصرية المعاصرة، منها عنف موجه من المعلمين والإدارة المدرسية تجاه الطلاب، وهناك عنف مضاد موجه من الطلاب تجاه معلميهم ومدرستهم وإدارتهم، وهناك عنف ثالث موجه من التلاميذ تجاه بعضهم بعضا، وعنف المعلمين تجاه بعضهم بعضا أو تجاه الإدارة المدرسية والعكس.
هذا بالطبع إذا استبعدنا مؤقتا احتكاك أولياء الأمور بالمعلمين والإدارة المدرسية وبالعكس.
وثمة دراسات عديدة حول العنف الصادر من الطلاب تجاه زملائهم وتجاه الآخرين، لكن هذه المداخلة ستقتصر على العنف الموجه من المعلم / السلطة تجاه طلابهم، والملاحظة هي ارتفاع وتيرة هذا العنف في تاريخ المدرسة المصرية الحديثة، وتصاعد وتيرته خلال السنوات الأخيرة كأحد مظاهر ظاهرة العنف في المجتمع المصري منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن القرار الوزاري يحظر حظرًا مطلقًا إيذاء الطالب بدنيًا بالضرب على أي وجه، أو بأي وسيلة، وأن يقتصر هذا على توجيه الطلاب، فهناك ما تنقله الصحف من انتهاكات بهذا الصدد تصل إلى حد إصابة بعض المعلمين لطلابهم بعاهات أثناء عقابهم البدني.
مفهوم الاستبداد
معنى الاستبداد في اللغة العربية الانفراد بالشيء، فيقال استبد به أي انفرد به، واستبد الأمر بفلان أي عليه ولم يقدر على ضبطه، بسبب عجز طارئ في المقلوب وضعف طبيعي لأن المسُتبِد يتحكم في المُستبَد به، وعرف الفكر العربي الاستبداد بأنه غياب القانون والكف عن المشورة، ومن اللافت اتفاق مفكري النهضة العرب من الطهطاوي والأفغاني والكواكبي وخير الدين ومحمد عبده وغيرهم على أن الاستبداد هو داء الأمة.
تنامي العنف
هل تكفي سيادة الديمقراطية لتختفي مظاهر العنف من المجتمع؟ ألا تستدعي كونية العنف البحث في جذوره البيولوجية والتطبيقية والطبيعية؟.
يمكننا أن نلاحظ أن العنف المعاصر ليس وقفا على المجتمعات النامية، فبماذا نفسر إذن استخدام العنف المفرط والبربري من قبل قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني في المعتقلات مثل سجن أبي غريب، وفي الفالوجا وغيرها من المدن العراقية، وكذلك الأمر بالنسبة للممارسات الهمجية للجيش الإسرائيلي المحتل ضد الفلسطينيين والتي تصل أحيانا إلى تصفية الأطفال واغتيالهم كما في حالة الطفلة الفلسطينية إيمان سمير الهمص (13سنة) والتي أمطرت بعشرين رصاصة لمجرد الاشتباه في حقيبتها المدرسية في نوفمبر الماضي؟
ويعتبر البعض الخبرة الحياتية للفرد والجماعة العامل الأساسي المكون لتوجهات الأفراد والجماعات والموجهة لسلوكياتهم التعاونية أو العنيفة.
وبينما اعتبر فرويد العنف كامنا في الطبيعة الإنسانية، فإن البعض الآخر يعزو مشاعر العنف إلى طبيعة الثقافة، ونمط التفكير الأحادي الذي لا يقبل الاختلاف، ومجموع خبراته الحياتية داخل ثقافة معينة والتي تتضمن عملية التنشئة ومنظومة القيم المتشربة، وعلاقة الفرد ببيئته، ونظرته لواقعه ومستقبله، وطبيعة النظم والمؤسسات والتشريعات من حوله ومدى عدالتها وأخلاقيتها سواء الأسرة أو الدولة أو القانون، وانتهاءً بالنظام الدولي وبنيته القانونية والسياسية والاقتصادية والمعرفية، وخبراته المتراكمة أيضًا من خلال تعامله مع الآخرين.
وتعتبر السلطة سببا مباشرًا في تكريس العنف الفردي والاجتماعي بحكم امتلاكها العنف في الأفراد والجماعات، فإلى جانب سياساتها التسلطية والقمعية مثل التمييز والاضطهاد والظلم الاجتماعي وإعاقة الحريات فإنها تضفي الشرعية والقدسية على سلوكياتها، وليس غريبا أن تستأثر أجهزة الأمن والقمع بموازنات عالية في معظم دول العالم الثالث.
وإذا كان الضبط المدرسي والالتزام مظهرين للقوة، فإن القمع يحول القوة إلى عنف، وبالتالي يأخذ الضبط المدرسي والالتزام سمة العنف.
وفي الولايات المتحدة صدر دليل تقييم العنف في المدارس «Threat Assessment in School Gulde» عام 2002 بالتعاون بين إدارة التربية للولايات المتحدة «Department of Education» والخدمة السرية للولايات المتحدة US Secret Service حيث عرف العنف المستخدم بأنه «نتيجة نهائية لعملية صادرة عن تفكير وسلوك مفهوم يمكن إدراكه».
ومع أن التقرير يتناول العنف الطلابي تجاه الآخرين وهو ما لم تختص به الدراسة الحالية إلا أن ما يهمنا فيه هو الجزء الخاص بمسئولية المعلم، حيث ركز على مسئولية المعلمين- مع أطراف العملية التعليمية الأخرى- على توفير المناخ الآمن، وتكوين علاقة وثيقة مع الطلاب، وتعزيز التفاعل والاتصال معهم، مما من شأنه تقليل العنف في المدارس، وأن يطرح المعلمون مع إدارة المدرسة السؤال التالي على أنفسهم: ماذا يجب عمله لتطوير ودعم الأمن في المدرسة؟
ينشأ العنف المدرسي من مصادر عدة يقع أغلبها على عاتق المعلم، ترصدها إحدى الدراسات في المصادر التالية:
1 عدم مراعاة الفروق الفردية داخل الفصل.
2 ضعف التقدير الآدمي للطلاب، وعدم احترام كيانهم وذاتهم.
3 إذلال المعلم للطالب وإهانته إذا أظهر غضبه مما يكبت مشاعره.
4 الاستهزاء بالطالب والاستهتار بأقواله وأفكاره.
5 إهمال الطالب وعدم الاكتراث له.
6 وجود مسافة كبيرة بين المعلم والطالب.
7 غلبة أساليب التلقين وثقافة الذاكرة.
8 العنف الجسدي والنفسي تجاه الطالب.
9 عدم ملاءمة المنهج للطالب.
10 غياب أو ضعف فرص تنفيس الطالب عن مشاعره.
ويحدد البعض تأثير العنف المدرسي من قبل المعلمين على الطلاب في المجالات التالية:
سلوكيات: عدم المبالاة، العصبية الزائدة، مخاوف غير مبررة، مشاكل انضباط، ضعف التركيز وتشتت الانتباه، السرقة، الكذب، محاولات الانتحار، تحطيم الأثاث وإشعال النيران داخل المدرسة .
تعليميا: ضعف التحصيل العلمي، والتأخر المتكرر عن المدرسة، والتسرب المتقطع أو الدائم.
انفعاليا: ضعف الثقة بالنفس، الاكتئاب، العصبية والتوتر الدائمين، مازوخية تجاه الذات، شعور بالخوف.
اجتماعيا: العدوانية تجاه الآخرين، عدم المشاركة في نشاطات جماعية، الانعزال.
من أشهر النظريات في تفسير سلوك العنف والعدوان نظرية Frustration aggression ومؤداها أن العدوان «سلوك يهدف من ورائه إلى إلحاق الأذى أو الضرر بالطرف الآخر وهو دائما نتيجة الإحباط».
وتبدو مسألة الانضباط أعقد المسائل في التعليم، حيث يعرف الانضباط (أو الضبط Contrd) بأنه «ذلك النظام من المعايير التي تزود المنظمة نفسها به، والالتزام من جانب كل عضو من الجماعة الاجتماعية إذعانًا لأعراف بعينها، والتي يتطلب قبولها أن تكون وضعت بصورة ديمقراطية».
وليس العقاب البدني وحده سبب عدم مسايرة الطلاب للنظام المدرسي، بل إن المفكر الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو قد ربط الظاهرة بسوء استخدام ما أسماه «العنف الرمزي»، وهو من أعمق التحليلات في هذا الصدد، في حين اعتبر باولو فريري سببها التعليم اللاحواري أو التعليم المصرفي، الذي تغيب فيه آلية الحوار بين المعلم والمتعلم، ويعبر عن هذه الظاهرة بلغة أخرى مفكر لاتيني، حيث يذهب إلى استخدام المعلمين إجراءات تأديبية وقاسية أو اعتباطية، أو بحفاظهم على التباين الاجتماعي الكبير للفصل، فذلك يسبب عدم انصياع الطالب، وهناك من يدافع عن العنف التربوي باعتباره ضرورة، فيذهب إلى أن الفضيلة الأساسية لطبيعة العنف لدينا هي تعليمنا الخوف من العنف وتقدير دور المؤسسات التي تساعدنا على التخلي عنه.
ولذا يتحول الهدف التربوي في ضوء هذه الرؤية إلى كشف الحرية الكامنة التي تظهر كتوفيق بين الإكراه الموجود في التعليم، ومبدأ الحرية الذاتية. إن ظاهرة العنف المستبد الذي يتجلى في استخدام المعلم للعقاب البدني واللفظي لتلاميذه تستدعي مفهوم الضبط الاجتماعي، حيث يعني الضبط «عملية يربط فيها الفرد رغباته الشخصية بمصالح المجتمع الذي ينتمي إليه رغما عنه»، كما تستدعي الظاهرة مفهوم السلطة «Authorit» التي تتميز عن القوة بأنها تمثل تفويض المجتمع في ضبط أفعال الآخرين أو قراراتهم.
أشكال العقاب البدني في المدرسة العربية
على الرغم من وعينا أن المعلم ليس حاملًا للعنف وحده في المدرسة، إلا أنه أهم منتجي ومستعملي العنف، حيث تكمن وسائل العنف في المدرسة في العلاقة بين المعلم والطالب (العلاقة الصفية)، والعنف الكامن في المناهج المدرسية، والتقويم التربوي، والعنف الذي تمارسه الإدارة التربوية.
ويمكننا أن نعدد أشكال العقاب البدني التي يتعرض لها الطلاب أو مورست أمامهم من قبل المعلم كما كشفت عنها الخبرة التربوية للطلاب في معرض إجابتهم عن السؤال عليها في الأشكال التالية:
1 الضرب باليد على الوجه.
2 الضرب بالمسطرة أو الممحاة أو الكتاب على الوجه.
3 الضرب على اليد بالعصا، أو وضع قلم بين أصابع الطالب، (قد يستخدم المعلم عصاوين للضرب على اليدين معا)، وقد يستخدم عصا المكنسة أو الضرب برجل المقعد الخشبي أو بالخرطوم أو جذع شجرة أو بالحزام أو بمقبض سكين.
4 خبط الطالب يده بعصا غير مستوية الحافة موضوعة بشكل أفقي فوق المائدة أو الدرج.
5 - العض .
6 الشد من الأذن أو الضرب عليها.
7 البصق في الفم ولصق فم الطفل.
8 الضرب على الرأس.
9 الضرب بخبط الرأس في الحائط.
10 الضرب على القدم بعد خلع الحذاء (المدّ).
11 العبط .
12 العدو حافيا بلا حذاء.
13 - الضرب بالحذاء.
14 ضرب البنت للولد في فصول المدارس المختلطة.
15 - الوقوف حافيا فوق أرض الفناء الساخن.
16 خبط رأس طالبين ببعضهما البعض.
17 الركل بالقدم.
18 إجبار الأب على ضرب ابنه أمام الفصل.
19 - ضرب الرأس في الحائط أو السبورة أو المقعد (أدى في بعض الحالات إلى ارتجاج بالمخ أو ضعف البصر).
20 لعق السبورة بلسان الطالب.
21 - مسح السبورة بالشعر.
22 مسح السبورة باليد.
23 - مسح السبورة بالملابس.
24 - الضرب بالحزام.
25 ضرب اليد أو الجسم في الحائط .
26 أكل الطباشير.
27 ربط شعر التلميذات ببعضهن البعض، وجعلهن يجرين في الفصل في الوقت نفسه.
28 تعليق الطالب من ظهره أو عنقه على السبورة أو الباب.
29 إلقاء الطالب على الأرض.
30 تعليق الطالبة من شعرها (توفيت هذه الحالة).
31 الضرب بالشلوت.
32 الدفع من المظهر بالقدم بعد وضع يدي المعلم على الكتف.
33 العقاب الجماعي بالضرب لخطأ تلميذ واحد.
34 أحيانا يتم الضرب على الجسد عند تحريك اليد أثناء الضرب.
35 وضع اليد كمحور ارتكاز في تجويف أرض الفصل والدوارن حولها.
36 حلق شعر الرأس بالموس.
37 تعليق لافتة «أنا فاشل» أو «أنا بليد» على الظهر.
38 إجبار الطالب على الجلوس على ركبته أو المشي على الركبتين مع وضع يده أعلى رأسه.
39 جمع القمامة.
40 وضع الحذاء فوق الرأس طيلة الحصة.
41 نزع الحجاب لمخالفته اللون.
42 الوقوف داخل صندوق القمامة.
43 الإجبار على الضحك باستمرار دون توقف.
44 الضرب على اللسان.
45 الجري حافيا ودخول كل فصل ليحكي سبب عقابه.
46 وضع القلم بين اليد والضغط عليه فوق سطح المقعد.
47 التعليق على عقلة أو ماسورة وضربه على ظهره.
48 اللسع بالسيجارة.
49 وضع اللبان (أو الفول الحراتي) في شعر الطلاب وإجبارهم على مضغها (أو أكله) بعد غمسها بالتراب.
50 الجلد (بعد ربطه بحبل في الباب أو المقعد).
51 وضع الشمع فوق ظهر اليد وحرقه.
52 الكتابة فوق ألوحة وأحيانا الوقوف فوق الدرج.
53 الوقوف مع رفع الحقيبة طيلة الحصة و(أحيانا الوقوف فوق الدرج)، وعقاب من يخفضها، وامتدت في إحدى الحالات للوقوف في الفترة من العصر إلى العشاء في مدرسة الفترات المتعددة.
54 الوقوف في نهاية الفصل أو الفناء على قدم واحدة أو على أطراف القدم (قضت الطالبة أسبوعا في الفراش بعدها في إحدى الحالات).
55 لسع الطالب بمصباح السقف الساخن (لعجزه عن حفظ جدول الضرب، وترك الحرق أثرًا).
56 الضرب بسلك الهاتف.
57 إلقاء سلسلة المفاتيح على الوجه (أدت إلى تلف العينين في حالة).
58 الزحف على البطن داخل الفصل.
59 الوقوف على الرأس.
60 كنس المدرسة.
كما يكشف التحليل عن اللجوء إلى مجموعة من أساليب العقاب اللفظي أو السلوكي، والتي تتفاوت في مردودها النفسي وتعتمد على التحقير أو التشنيع أو الوصمة أو الإيذاء النفسي والعضوي، وبعضها يتعدى الفصل إلى الفصول الأخرى، ويتعدى المدرسة إلى المنزل.
ويستند العقاب البدني واللفظي في المدرسة المصرية إلى تقاليد قديمة، إدارية وثقافية، فالمادة (18) من لائحة التعليم الابتدائي في عهد محمد علي تحدد أشكال عقاب التلميذ:
1 يعزر ويزجر (أي يؤنب) بحضور جميع التلاميذ.
2 يحرم من الخروج من المدرسة أيام العطلة، وحين يخرج التلاميذ للنزهة.
3 يحجز في المدرسة ولا يقدم له إلا الخبز والماء فقط.
4 يضرب بالكرباج.
استبدلت رخات من الجلد ثم الجريد بالسوط قبل أن يحرم استعمال العقوبة البدنية تماما بالقرار الوزاري رقم (86) بتاريخ 22 / 3 / 1971.
إن القضية في صلبها قضية السلطة التربوية وسوء أو حسن استخدامها، ويعترف البعض بأن «القسر السلطوي هو المسؤول الرئيسي عن أي عملية تربوية حديثة (مستبدة أم ديمقراطية، أو تضمنت مراقبة المدارس المستمرة لهذه العملية أو مراقبة التلميذ الذاتية).
إنها سمة ثقافة، وصيرورة وتاريخ، واستبطان لقيم متوارثة .. السلطوية سمة أساسية للنظم السياسية والاقتصادية التربوية العربية. وتعني السلطوية الخضوع التام للسلطة ومبادئها بدلًا من التركيز على الحرية الفردية، أو هي ممارسة القوة لذات القوة، ومن وسائلها استخدام القوة والعقاب وإلقاء الأوامر والتهديد والتوبيخ والتشهير. كما تعمل التربية على تخليد التسلط الاجتماعي من خلال تنشئة الأطفال على الخضوع والتبعية وتربية الأفراد على أساليب قمعية وتعسفية.
ولكن كيف لنا أن نحول علاقة التسلط والتحكم والاستبداد التي تصف علاقة المعلم بطلابه إلى علاقة بناء وتفاعل ؟
يعترف باولو فريري «بأننا لن نحل بعد المعضلة التي تنشأ من التوتر بين السلطة والحرية، وإننا لنخلط دائما بين السلطة والتسلط، والحرية وإساءة استخدام الحرية».
الحرية هي المفتاح لندلف إلى لب القضية: اعتراف المعلم بحرية وكرامة واستقلال طلابه، وهو ما يتنافى بالضرورة مع العقاب المادي.
ويربط باولو فريري العلاقة بين المعلم وطلابه برابطة أخلاقية، ويقول: «احترام استقلالية وكرامة كل شخص أمر حتمي أخلاقيًا، وليس معروفًا تقدمه أو لا تقدمه للآخرين وبهذا المعنى يتساوى كل من المعلم المتسلط الذي يخنق الفضول الطبيعي والحرية الطبيعية للطلاب، والمعلم الذي لا يضع أي معايير على الإطلاق. إنهما يتساويان في عدم احترامهما لخاصية إنسانية أساسية وهي نقصنا الجذري، ومنه إمكانية جعل الحوار الحقيقي مطلبا متسقا يتطلبه نقصنا المفترض الذي يكشف عن ذاته على أنه ذو طابع أخلاقي».
ويحذر فريري من الخلط بين السلطة والتسلط، والحرية وإساءة استخدامها، والعقاب بهذا المفهوم هو إفساد للتوتر أو التناقض بين السلطة والحرية، ولذا فإن الموقف الديمقراطي يحل هذا التوتر بين السلطة والحرية ولذا يدعو فريري إلى «احترام كل أولئك الذين يعملون في التربية».
وثمة أفكار لتخطي السلطة التربوية المستبدة في التعليم المصري، ولحلحة الأقانيم الراسخة لدى معلمينا حول فضيلة العقاب البدني أو التعريض اللفظي باعتباره مرادفة لسلطة المعلم وهيبته، ومنها: تنمية الضبط الذاتي لدى التلاميذ بالفصل واشغالهم الدائم في أعمال جاذبة وممتعة بحرية، وتأثير البيئة الفيزيقية الغنية وكعنصر جذب في الفصل من ألوان ومثيرات، والعمل الفريقي التعاوني بين التلاميذ، وتوسط التلاميذ بين زملائهم لحل نزاعاتهم، وعقد اتفاقات مع التلاميذ المشاغبين.
الحرية لا الاستبداد
آن للخطاب النقدي أن يكشف كل القسوة والبشاعة في موروثنا التربوي، وان نربط سياق العنف المدرسي بسياقه الاجتماعي، وأن نعلي من شأن المقاومة التي يبديها الطلاب لسياسات معلميهم وسلوكهم اللاإنساني، وهو ما يجعلنا نفهم نظرية جيرو وأقرانه حول دلالة مقاومة الطلاب لاستبداد السلطة المدرسية.
والدراسة الحالية تمهد لدراسات قادمة لفهم العنف الطلابي نفسه، والمنهج الخفي في تعليمنا والعنف الأسري باعتباره آلية شائعة في التنشئة الاجتماعية، وان ندرس جذور العنف في العقل الجمعي والموروث الثقافي الذي يعيد إنتاج نفسه من خلال التعليم.
وأخيرًا إلى أي مدى يطغى العنف والاستبداد المدرسي على مثيله السياسي في مجتمعنا؟.