مختارات من:

معرض العربي

عبود عطية

أنطونيللو دي ميسينا "الكوندوتييري"


شهد منتصف القرن الخامس عشر تطورين بالغي الأهمية على صعيد فن الرسم: اكتشاف التلوين الزيتي وبدايات استعماله بدلا من مادة "التامبرا" التي كانت تستخدم البيض لتذويب الألوان، وبدايات هوس الملوك والنبلاء برسم صورهم الشخصية.

ومن الرسام أنطونيللو دي ميسينا الذي كان الأشهر بلا منازع في كل إيطاليا الشمالية خلال القرن المذكور، وصلنا حوالي عشر صور شخصية "بورتريه"، تعتبر صورة "الكوندوتييري" أفضلها على الإطلاق، لا بل أفضل صورة شخصية رسمت طوال القرن الخامس عشر.

فحتى آنذاك، كان فن "البورتريه" يقتصر على تدوين الملامح الأساسية الظاهرة للشخصية المرسومة، وللدلالة على "أهميتها" أو هويتها كان الفنانون يلجأون إلى "سرد" ذلك من خلال الأزياء، أو الوضعية التي يتخذها صاحب الصورة، أو شعار عائلته على حلية أو حائط مجاور، كما نرى في لوحات أشهر أستاذين في هذا المجال وهما الإيطالي بوتيشيللي والهولندي روجيه فان درفيدن.

تكمن عبقرية أنطونيللو الظاهرة في هذه اللوحة، في قدرته على تجاوز الملامح الخارجية للنموذج، والوصول إلى أعماقه النفسية ومميزات شخصيته الداخلية. وهذا النوع من المعالجة راح يتطور خلال السنوات اللاحقة ليصل إلى ذروته بعد ثلاثين سنة تقريباً على أيدي ليوناردو دي فنشي ولوحته الأسطورية الموناليزا.

في صورة هذا النبيل الإيطالي "مجهول الهوية الحقيقية" نرى الفكين العريضين، والنظرات الحادة، وشفتين تطبق كل منهما على الأخرى كبرياء، والرأس المرفوع بارتياح من دون أي مبالغة.. أي أن المشاهد يجد نفسه أمام صورة رجل يتمتع بشخصية قوية حتى الطغيان، وإرادة فولاذية. أما الجرح الصغير في شفته العليا، فهو ما دفع خبراء الفن إلى ترجيح أنه كان شخصية عسكرية، لأن العسكريين وحدهم في ذلك العصر كانوا يتباهون بجراحهم الظاهرة. وهذا ما دفع المؤرخين إلى تسمية هذه اللوحة بـ "الكوندوتييري". وهذه الصفات الشخصية هي التي أضفت على هذه اللوحة أهمية وثائقية وتاريخية استثنائية، لأنها كانت الصفات نفسها التي ميزت شخصيات النبلاء الإيطاليين عموماً آنذاك، ورغبتهم الجامحة في السيادة على أوربا وتزعمها.

والتلوين الزيتي هو ما سمح لأنطونيللو بالتعبير الناجح، لأنه يسمح بالانتقال اللين والتدريجي ما بين المساحات المضاءة والأخرى التي في الظل، الأمر الذي لم تكن تسمح به تقنية "التامبرا" القديمة.

لا نعرف على وجه الدقة كيف وصلت تقنية الرسم الزيتي إلى أنطونيللو من الفلمنكي جان فان إيك، ولا نعرف إن كان قد التقيا فعلاً رغم تأثر الأول بشكل واضح جدا بأعمال الثاني. المرجح أن التقنية الجديدة وصلت إلى أنطونيللو عن طريق بعض الرسامين الذين التقاهم إما في نابولي أو البندقية من أمثال بتروس كريستوس. والمؤكد أنه كان من أوائل مستخدميها في إيطاليا، وهو الذي شجع جيوفاني بيلليني على اعتمادها، فأثر بذلك تأثيراً جذرياً في نشوء وتطور مدرسة البندقية لثلاثة قرون لاحقة.

عبود عطية مجلة العربي اغسطس 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016