نمر صغير ولكنه هادئ ومسالم وعلى جسده كثير من الخطوط تلدائرية السوداء. اشترك في تكوينها العديد من الأقوام. أهالي البلاد من الملايو والصين والهند. وغزاة أوربا من البرتغالين والهولنديين والبريطانيين. وحتى غزاة الشرق من اليابانيين. خطوط لم يستسلم لها النمر الصغير ولم يحولها إلى جروح دامية. ولكنه خرج من أحراش الأدغال القديمة إلى عصرنا المضطرب ليعلن إنه إذا كان مسالما على المستوى السياسي فهو شرس في مواجهة التحديات الاقتصادية.
بعد رحلة طويلة استغرقت عشر ساعات كان وصولنا إلى مطار "سبانج" الدولي في كوالالمبور. تحية الاستقبـال بارزة الحروف "سـلامات داتانج كي ماليزيا". كلمات هي خليـط من العربية ومفردات الملاوية. تحية لها طعم الاسـلام العذب في ذلك البلد الآسيـوي البعيـد. لا تقتصر على أهـالي البـلاد من الملاويين المسلمين ولكن يرددهـا أيضا ذوو الأصول الصينية والذين يدينون بالبوذية وذوو الاصـول الهندية الذين يدينون بالهندوسية وهي الاجناس الرئيسية الثلاثة في هـذا البلد الـذي يضم خليطـا من كل شيء.. الاجناس والاديان واللغات والعادات والتقاليد. وهو تجسيـد حي لمناخ التسامح الذي جعلي الجميـع يعيشون فوق شبه الجزيرة التي تسمى "ماليزيا" دون صراع أو تناحـر لقرون طـويلة.. وهو الذي جعلها تبدع وتتقـدم وتحقق معدلا للتنمية يصل إلى 10% سنـويـا وتتحول إلى نمر آسيوي عالي الزئير.
بعد المطار كانت الطرق السريعة التي تصلنا بالمدينة محاطة بالخضرة الاستوائية الـزاهية.. بدت خلفها القرى الماليزية الشهيرة "الكـامبـونج".. كلها كـانت تعيش مرحلة التحـول التي تعيشها البلاد.. هدم للقديم وتشييد للجـديد.. إن الصورة التي رسمها المؤلف الانجليزي سومرست موم عن المستعمرات القديمـة المبنية من غاب "البانجـو" وسط أشجار المطاط حيث يقدم الشاي في شرفات مفتوحة يقوم بذلك غلام ملاوي صغير بينما يقوم غلام هندي آخـر بهز مروحة من سعف النخيل حتى يجلب بها تيار الهواء البارد أو يزيح الذباب اللحوح عن الـ "أوارانج بوتاه" أو الرجل الأبيض حتى يبقى مسترخيا.. هذه الصورة قد تلاشت تماما. تحولت بقايا المستعمرات إلى شـواهـد للتاريخ وحـل التاجر الصيني محل الرجل الأبيض في مزارع المطاط وأصبحت مناطق شاسعة من الأدغال مستأنسة..
منذ اللحظات الأولى وقد أدركنا أن لهذا البلد أكثر من وجـه.. وجـوه تبدو متباعدة أحيـانا. مليئة بالمفاجآت في أحيان أخرى. فالمرء يمكن أن يعيش في أكثـر من عـالم مختلـف في نفس اليـوم وربمـا في نفس المدينة. فالعاصمة تجمع بين ناطحات السحاب العالية ورجال الأعمال الصينيين ذوى اليـاقات العاليـة والبنوك الأوربية الطابـع والاسواق المركزية بما فيها من مصاعد زجاجية ودرج متحرك ومحلات للوجبات السريعة وبين. الأحياء التقليدية القديمة. أشهرها بطبيعة الحال هو الحي الصيني بشوارعـه الضيقة وحوانيتـه العتيقـة والبضائع التي تقلد أشهـر الماركـات العالمية بجانبها بضائع آسيا التقليدية من أعشاب أدوية وزيوت وجلود كـما ترتفع الاصـوات العـاليـة بكل اللغـات.. ملاوية. تاميلية. هندية.. كانتونيـة. بنجابية وطبعا الانجليزية وهي إحـدى مخلفـات الاستعمار البريطاني الذي احتل ماليزيا لسنـوات طـويلة. أمـا إذا انتقلت لإحدى القرى المجاورة فسوف تحس فجأة بأنك قد عدت إلى القرن الماضي بكل العـلاقات الهادئة بعيـداً عن صخب المدينة.
في المتحف الوطني كان لنا موعد مع التاريخ.. مبنى ضخم يقع على حافة حديقة البحيرة بالقرب من مبنى الـبرلمان والنصب التـذكاري. في البداية كـان مجرد متحف متواضع يخص ولاية سـلانجـور وحـدها - وسلانجور هي واحدة من أصل 13 ولاية يضمها اتحاد ماليزيا- ولحسن الحظ فقد دمر هذا المتحف أثناء الحرب العالمية الثانية حتى ينهض هذا المتحف الضخم والرائع بدلا منه.
كنا ننتقل في نفس اللحظة بين اجزاء ماليـزيـا المختلفة. هنـاك نموذج كامل للقريـة الماليزية "الكـامبونج" بأشكـال أكـواخها التقليدية والفلاحين الملاويين.. ثم ننتقل فجأة في مشهـد حقيقى لأحـد قصور السلاطين من الداخل بكل ما فيه من تحف ذهبية ومشغولات من الحرير ويكمل هذا عرض بواسطـة العرائس وخيال الظل يستعـرض التاريخ الطويل لماليزيا.
خلف هذه الأقنعة الهادئة يوجد تاريخ طويل اشترك في كتابتـه أهالي البلاد من الملايو والصينيين والهنـود ثم الغـزاة الذين قـدموا من أوربا.. البرتغاليـون أولا ثم الهولنديون وأخيرا الانجليـز.. ولم يتركها اليابانيـون فقد احتلوها لفترة قصيرة خلال الحرب العالمية الثانية..
يقال إن الحياة بدأت على شبه جـزيرة الملايو منذ حوالي 3 آلاف عام قبل الميلاد وقد هاجر إليها أقوام من جنـوب الصين واستوطنوا على ضفاف الأنهار. ومن خلال التجارة تعرفت ماليزيا على الحضارات القديمة في المنطقة. فهي تقع على مفترق الطريق لبحرين كبيرين هما بحر الهند وبحر الصين. أصبحت شبه الجزيرة هي محطـة استراحـة لكل السفن الهنـديـة المتجهة إلى الشرق. وكان عليها أن تنتظر في ماليزيا حتى تغير الريح الموسميـة "المونسـون" اتجاهها كي تستطيع العـودة من جـديد. ثم اكتشف البحارة الهنود أن ماليزيا ليست فقط نقطة عبور ولكنها منطقة غنية بالتجارة أيضا فهم يستطيعون الحصول على الذهب والبهـار وأعواد البخور عندما يبادلونهم ببضـائعهم وكانت هذه الطريقة أفضل كثيراً من السفر إلى عرض البحر والوقوع فريسة للقراصنة الذين كانوا منتشرين في بحر "ملقا".
وعن طريق الاستيطان والتعامل انتشرت الديانة الهندوسية وبنيت المعابد وقـد اكتشفت آثار أقدم هذه المعابد فى ولاية "قدح". بل إن بعض هذه المستوطنات قد تطورت وأصبحت ممالك هندية صغيرة وكان الحكام يطلق عليهم لقب "راجـا" وما زالت هـذه الألعاب الهندية متداولة إلى الآن..
الصينيون أيضا كـانت لهم علاقـات وطيدة بجزر الملايو.. هناك عشرات المعابد.. أقيمت وهـدمت. وقد نقلـوا جـزءا من ذوقهم في تناول الطعام.. ومن يدخل مطاعم ماليزيا يمكنه أن يطلب "حساء الطيور" وهو واحد من أشهر الأطباق الصينية التقليدية..
ولكن تاريخ ماليزيا الحقيقي لم يبدأ إلا مـع دخول الاسـلام فكيف رحـل هذا الـدين الحنيـف من رمال الجزيرة العربية إلى هذا البلد الآسيوي البعيد دون غزاة أو جيوش؟..
في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي تقريبا بدأ التجار المسلمون من جنـوب الهند في التـوافد على أرخبيل الملايو.. كانوا تجاراً مختلفين أكثر سماحة وأكثر أخلاقا وأكثر تمسكا بكلمة الشرف التي هـي رأس مال التاجر. وقد أثرت هذه الصفات كثيرا في السكان المحليين مما دفعهم للدخـول في دين الإسلام إعجابا بأخلاق هؤلاء التجار..
ولم يأت القرن الخامس عشر الميلادي إلا وقد دخل معظم أهالي "ملقا" في الإسلام واكتسب حاكمها لقبا عربيا هو "السلطان" وما زال هذا اللقب موجودا حتى الآن وربما كانت ماليزيا هي أكبر بلد تحتوي على نسبة من السـلاطين.. ثمانية سلاطين دفعـة واحـدة.. سلطـان لكل ولاية من الـولايات أمـا الولايات الخمس الباقية فيرأسها محافظون..
أشهـر هؤلاء السلاطين كان هو سلطان "ملقا" فقد بدأت هذه السلطنة في عام 1488 ميلادية في التحول إلى مساحـات واسعة تحتوي على جزء كبير من ولاية "بانانج" وجزيرة سومطرة وأجزاء أخرى من شبه جزيرة الملايو.. فخلال عشرين عاما نهضت "ملقا" من تاريخ غامض ومبهم لتصبح واحدة من أقوى وأغنى الولايات في جنوب شرق آسيا. بلغ تعدادها حوالي نصف المليون وإنتشرت فيها البيوت ووكالات التجارة وأصبحت المرفأ الرئيسي لكل السفن التي تعبر المحيط الهندي.
كـان السلطان يتمتع بسلطة شبه مطلقة والرعيـة يقسمون ولاء الطاعة ولو كلفهم ذلك حيـاتهم. وكان الاهالي يفضلون إغضاب أقاربهم ومقاطعة أصدقائهم عوضا عن إغضاب السلطان.. وأصبح اللون الأصفر هو اللون الملكـي لا يرتـديه أحـد ولا يتحلى به أحـد إلا السلطان ولا يتحلى بالذهب إلا السلطان وأقاربه من الأميرات..
ولكن هذا الحلم الذهبي لم يـدم طويلا. بدأ عصر الاكتشافات في أواخر القرن الخامس عشر وانتشرت سفن البرتغاليين كالوباء فى عرض البحار كانوا يبحثون عن أسواق للتجـارة وخاصة تجارة البهار وجاءت أولى سفنهم إلى شواطئ مـاليزيا وتلقوا أولى الهزائم ولكنهم عادوا مـن جديد في اسطول أقوى يقوده "البوكـريك" القائد الشهير الذي أحرق مدن الخليج فيما بعد واستولى على "ملقا" في عام 1511.
بعد ذلك بسبعين عاما جاء "الهولنديون" وحاصروا المينـاء الشهير ودكـوه بـالمدافـع حتى استسلمت فلول البرتغاليين.
ثم تسلل الانجليز بواسطة التجـارة أولا ثم جنود الغزو ثانيا.. كانت "قدح" هي موطئ أقدامهم في ماليزيا وتسللوا منهـا إلى بقية المناطق وحـاصروا الوجود الهولندي في "ملقا" حتى اضطرت لمبادلتهم بها لقاء استلائهم على "سومطرة".
ولم ينته تاريخ الاحتلال البريطاني لماليزيا إلا مع مشارف العصر الحديث. ففي أثنـاء الحرب العالمية الثانية انهزم البريطـانيون وحل بدلا منهم الاحتلال الياباني ثم رحلوا بعد هزيمتهم في عام 1945 ليعود البريطانيون من جديد.
وفي عام 1956 بدأت المباحثات في لندن للبحث في استقلال ماليزيا عن التاج البريطاني.. ووضعت أولى الخطط للاتحاد الفيدرالي بين الولايات الثلاث عشرة.. وتم الاستقـلال بعـد ذلك بعـام واحـد.. واتحدت الولايات على أن تختار سلطانا من بين السلاطين الثمانية ليكون ملكـا أو سلطانا للسلاطين لمدة خمس سنـوات وهـكـذا يدرك كل سلطان أنه سوف يصبح ملكـا كل أربعين عاماً وساد الاستقرار السياسي والاقتصـادي وبدأت معدلات التنمية في الارتفـاع وتحولت ماليزيا إلى تلك المعجزة الاقتصادية التي نراها اليوم.
كوالالمبور.. لؤلؤة آسيا
إنها عاصمة طويلة الاسم بعض الشيء. لذلك يختصره الكثير من أهلهـا إلى "ك. ل" أو (K.l) بالانجليزية. ومنذ مائة عام وهي العـاصمة الفعلية لماليزيا حتى قبل قيام الاتحاد الفيدرالي عندما كانت فقط عاصمة لولاية "سلانجور".
وبالنسبـة لـزائر مـدينة هي خليط من القديم والجديد. فبجوار المساجد الأندلسية الطراز توجـد ناطحـات السحاب. وبجانب المعابد الهندية الصينية القديمة توجد ملاعب "الكريكيت" الإنجليزية يمارس اللعب عليهـا مـوظفو البنـوك من بقايـا الانجليز. والصينيين وحتى مستشفى المدينة تكتب على واجهاتها بكلمات واضحـة "علاج غـربي حـديث في الصباح وعلاج صيني تقليدي بعـد الظهر" المحـلات تكتب اسماؤها باللاتينية والملاوية والعربية "اسواق السـوبر ماركت.. تبيع كل شيء من أول أدوات التجميل وأعواد البخور حتى الالكترونيات الدقيقة.. كما أن المطاعم والاكشاك المفتوحة في الهواء تقدم كل انواع الاطباق من أول المكرونـة الشهية إلى اطباق المحار والاعشاب المتبلة إلى مختلف المأكولات البحرية.
مدينة اجتمع فيها كل شيء.. كل المتناقضات وكل المزايا أيضا.. ولكن مهلا.. قبل أن ندخل أحياءها ونشاهد معـالمها.. ماذا يعني هـذا الاسم المعقـد "كـوالالمبور"؟.. هنـاك قصص كثيرة حول هـذا الامر.. ولكن اكثرها قربا من الحقيقة هو الافضل. ففي هذه المنطقة يلتقي مصب نهري "الجومباك، وكلانج" والتي جاء اليها التجار الذين يبحثون عن خام القصدير وكانت ظروف المنطقة غاية في الصعوبة فقد كان المصب موصلا مليئا بالامراض المتـوطنة ومات عدد كبير من المعـدنيين قبل أن يجدوا درهما واحـدا من الخام ولكن الآخرين بقوا واقاموا المناجم وعمروا المنطقة واطلقوا اسم "كوالالمبور" على أول مجموعة أكواخ التي تكونت وهي تعني بالملاوية "المصب الطيني".
وعلى مدى السنـوات الطويلة نمت المدينة وأكدت وجودها وتعرضت للعديد من الحروب الأهلية وتوالت الهجرة إليهـا من القرى الصغيرة التي تحيط بها وأصبحت عاصمة ولاية سلانجور.. ثم اصبحت في عام 1946 عاصمة ماليزيا كلها وفي أول فبراير عام 1974 أصبحت مدينة قائمة بذاتها وليست تابعة لأي ولاية ومثل هذا دفعة جديدة في تطورها.
لقـد قلنا إنها مدينة كثيرة الـوجـوه.. مختلفة المعالم فكيف يمكن أن نشاهد الوجوه المختلفة؟
يمكننا أن نبدأ من "جالان بنتانج" إنه المكان الذي بـدأت فيـه المدينـة تـاريخهـا عنـد مصب نهر "جومباك" وكلمة "جالان" بالمناسبة والتي سوف تتكرر كثيرا تعني شارعـا أو طريقا رئيسيا وأحيانا تمتد لتشمل منطقة. هنا بدأ أول ضيـاء صغير كانت تقصده السفن وهي تحمل المأكولات وترجع وهي تحمل خـام القصدير وفي مقابل هذا الميناء القديم سوف نشاهـد القسم الانجليزي من المدينة من هنا كـان البريطانيون يحكمون كوالالمبور.. ويحكمون ماليزيا كلها. لقد زال الكثير من معـالم الوجـود البريطاني الآن وامتلأت هذه المنطقة بناطحات السحاب وتحولت إلى مركز تجاري مزدحم..
ورغم ذلك فمازال هناك الكثير من المباني التاريخية التي تتحـدى نـاطحات السحـاب بطرزها التقليدية وأشهرها هو "قصر السلطان عبدالصمد" الذي كان فيما مضى مقرا للحاكم البريطاني. لقـد رحل الحاكـم وتحول إلى مقر للمحكمة الشرعية. والمبنى بأبوابه وقبابه والألوان المستخدمة فيه يجمع بين الحضارات المختلفة، .. الهنـدية والإسلامية.. فالطراز الأندلسى واضح وهنـاك تلك المنـارة التي يصل طـولها إلى أربعين مترا وتحمل ساعة كبيرة أشبه "بـ بج بن" صغيرة وعندما يضاء قصر السلطـان عبدالصمد ليلا يتحـول ليصبح أشبه بقصور ألف ليلة وليلة.
وقبل أن نـذهب بعيدا يمكننا أن نذهب إلى مركـز "انفوكراف" الذي يقع بـالقرب من المبنى وهو أشهر مركز لصناعة الحرف التقليـدية.. الخزف والباتيك والمشغـولات والفضـة.. وهناك معرض دائم يبيع لمن يهوى.
وما زلنـا نتجول خلف الوجـه الاسلامي لكوالالمبور .. فنتمشى قليـلا حتى النقطـة التي يلتقي فيهـا نهرا "الجومابك" مع "البانج" في هذا المكـان تنهض مآذن المسجد الجامع.. انه المسجد الذي يوجد في كل حاضرة إسلامية.. مسجد ومدرسة ومقر للخـدمات الاجتماعية ومناسبة للسلطان كي يرى رعاياه ويصلي بينهم.. ترتفع المآذن بين نـاطحات السحاب الرمادية وقد أخذ تصميمه من مساجد المغول في جنـوب الهند ويضم صحنا واسعـا وحديقة مزدهرة وعندما تنحدر الشمس على جـدرانـه تتألق بـأحجـاره البيضـاء والحمراء.. لقد ظل المسجد الجامع هو المسجد الرسمي للدولة إلى أن بني المسجد الوطني بعد الاستقلال.
والمنطقة المحيطـة به لها أيضا طابعها الإسلامي.. وحتى المبنى الحديث الذي يدعى مجمع "يابومى" مكون من عقود إسلامية ونقوش وزخارف وهو المكـان الذي تشغله شركـة البترول الماليزية ويمكنك أن تصعد عاليا فوق هـذا المبنى كي تلقى نظرة طائر على كل أجـزاء كوالالمبور.
والمسجد الوطني أو مسجـد فيجارا هو الآن المسجد الرسمي للـدولة.. تتألق على واجهتـه ثماني عشرة نجمة ثلاث عشرة منها ترمز لولايات ماليزيا والخمسـة الباقية ترمز لفروض الاسلام الخمسـة.. مئذنته عاليه تصل إلى 83 مترا ويجاورها 48 قبـة صغيرة نفس عـدد القباب التي تحيط بالكعبـة المشرفة في مكة وسـاحـة المسجد الواسعـة تسع 8 آلاف شخص وحـديقتـه كـانت فيما مضى أحد السجون تضع فيه السلطات البريطانية من يعارضها.
تجربة زيارة محطة السكـة الحديد مثيرة أيضـا فمن الخارج يغلب عليها الطابع الاسلامى بالمآذن والقباب ولكنهـا من الـداخل نسخـة أخرى مصغرة من محطـة "فيكتـوريا" لقد تـم إنشاؤها عام 1911 وما زالت مزدحمة حتى الآن وهي تحتـوي على مكـاتب المسئـولين وفندق وسلسلة من المطاعم المختلفة وهو مكان يمكنك أن ترى فيه خليط الأجناس الذي تتكون منه ماليزيا ومختلف الوجوه والعادات والملابس.
هناك وجوه أخرى لكوالالمبور الوجه الصيني والوجه الهندي وسوف نؤجل الوجه الأخير حين نرحل قليلا إلى خارج كوالالمبور ولكن المعـابد الصينيـة كثيرة في المدينة فالبوذية ليست مذهبا أو دينا واحدا ولكنها متعددة وكل مذهب لـه معبـد خـاص به يختلف في الشكل وإن لم يختلف في الوظيفة. أشهر هذه المعابد الصينية هو "يوين تونج تزى" يـوجد فوق تل من تلال المدينـة بالقرب من القصر الملكى إنه أكبر المعابد البوذية وأحدثها أيضا فلم ينته العمل به إلا عام 1985 وقد اشترك في بنائه مجموعة من المليونيرات الصينيين لا أحد يعلم على وجه التحديد المبلغ الذي أنفق على تشييد المعبدولكن هناك عمودا باسم كل مليونير وبالتالي نستطيع على الأقل أن نعرف عدد المليونيرات الذين حاولوا من خلاله أن يثبتوا قوتهم ومقدرة ثرائهم.
وكوالالمبور مدينة كثيفة الخضرة يعـود ذلك إلى مياه الأنهار وإلى الأمطار الاستوائية الغزيرة فيها وحدها حوالي 20 حديقة أشهرها حديقة البحيرة وهي عبارة على غابة واسعة مساحتها 70 هيكتـارا تم ترويضها وتحويلها إلى مساحات من الخـمائل وأشجار الـورد وممرات التنزه وهي متعة حقيقية لمن أراد قضاء يوم بين أحضان الطبيعة.
بالقرب من هذه الحديقـة يوجـد مبنى الـبرلمان وهو عال فيه مزيج من العمارة الحديثـة والتقليدية ويحتوي بالإضافة إلى المكاتب الرسمية على فندق ومطعم ومكتبة ضخمة وعلى "بار" أيضا وهو مفتوح للـزوار منذ عـام 1962 ويمكن لأي من الزائرين أن يـرى كيف تجري تفاصيل الحياة السياسية الديمقراطية عن قرب.
أما في وسط الحديقة فيرتفع النصب التذكاري الذي يخلد ذكرى الذين سقطوا وهم يقاومون التمرد الشيوعي الـذي حاول اجتياح ماليزيا عام 1950 فقد حـاول بعض الشيـوعيين الصينيين الـذين أقاموا معسكـرات داخل الأدغال أن يفرضوا سيطرتهم على مزارع المطاط وأن يـوجهوا عمال المنـاجم نحـو العصيان حتى يشلوا الحياة الاقتصاديـة ولكن ماليزيا بمسـاعدة الـبريطانيين استطاعت التصدي لهم والقضاء عليهم ويمثل النصب التذكاري مجموعة من الجنود يحاولون رفع العلم الماليزي عاليا وسط مكـان ساحـر محاط بنوافير الميـاه إن شكل التمثـال وتصميمه ليس غريبـا على الصين التي تهوى هذا النوع من القطع الفنية فهـو يشبـه تمامـا النصب التـذكاري المقـام في واشنطن لتخليد معركة "ايـوجيما" وعنـدمـا ذهب "تنكـو عبـد الرحمن" أول رئيس وزراء لماليزيا بعد الاستقلال لزيارة واشنطن شاهد النصب التذكاري وأعجب به وطلب من فناني ماليزيا أن يقيموا واحدا على غراره.
ولكنك في كوالالمبور سوف تكـون على مـوعـد مع السجن، أجل أشهر سجن في العالم والـذي ذكر اسمه في موسـوعة جنيس للأرقام القياسية إنـه سجن "بودو" الذي يحتوي على أطول لوحة جدارية قام برسمها إنسان واحـد كـان الرسـام أحـد السجنـاء وأخذ يقوم بـرسم الجدران كل يوم من الساعـة الثامنة صبـاحـا وحتى الثامنة مسـاء وقـد تضمن الرسم كل أحلامه في الحرية: الادغال والطيـور والحيـاة الريفية والسماوات المفتـوحـة. لقـد أصبح السجين حرا بعد أن أكمل جـدارين من جـدران السجن سوف تجده في انتظارك ليقـودك ويشرح لك بنفسه كيف رسم كل هذه الأحلام الملونة
لن تغادر كوالالمبور إلا بعد أن تقدم مراسيم الولاء للقصر الملكي أو "الاستانة" الموجـود في شمال المدينـة سوف ترى السـور المذهب تعلوه شعارات الملك ومن خلفه يوجد المبنى الأبيض المبني على طراز المستعمرات بشرفاته الواسعـة، إنه المقر الرسمي لملك مـاليزيا وكـان قبل ذلك قصرا لأحـد الاثـريـاء الصينيين ولكن الحكومـة اشترته عام 1920 وحـولته ليكـون مقـرا لسلطـان سـلانجـور ووضعت عليـه القبة الذهـبية وزينت أبهاءه بـالسجـاد الأصفـر والأحمر ويوجد كذلك سجـاد باللون الأصفر فقط لكـي يسير عليه بقيـة الـوزراء والسيـاسيين والسفراء والحديقـة التي تحيط به متراميـة الأطراف زاهيـة الخضرة مليئة بالأزهار الصفراء التي لا يشمها سوى السلطان.
ثلاثة وجوه لماليزيا
قال لي عبدالرزاق ماهير الأستاذ بجامعة كوالالمبور.. إننـا شعب خليط من كل شيء.. الأجنـاس والأديان واللغات والثقافات. فقد كنا دائما في مهـب الهجرات والرياح الموسمية والسفن الضالة وقـراصنة بحر ملقا والمكتشفين البرتغال والمغامرين الانجليز.. لقد تأثرنا بالجميع وتعلمنا منهم ولاننـا نعلم أن هذه يمكن أن تكون إحدى نقاط الضعف فقد قبلنا التحدي وحولناها إلى نقطة قوة..".
من بين الوجـوه المتعددة لماليزيا والأقنعـة الحضارية التي تتراكم قنـاعا وراء الآخر.. يمكن أن نرى ثلاثـة منها متميزة.. القناع الاسلامي وهو دين الأغلبيـة. حوالي 54% وهم الذين من أصل ملاوي. ثم القناع البوذي ويدين به 36% من السكان من أصل صيني ثم القناع الهندوسي ويـدين به 10% من السكان من أصل هندي. خلطة تعلمت أن تتعايش معا.. كانت الغلبة التجـارية والاقتصـادية للسكـان من أصل صيني يساعدهم طبقة من الكتبة والمحترفين الهنود تاركين الأعمال الـدنيا الأكثر جهداً والأقل عائداً للفـلاحين والصيـادين من أصل ملاوي.. ولكن هذه المعادلة بـدأت في التغير في الآونـة الأخيرة. بـدأت أصـابع الفلاحـين في التسلل إلى أزرار الكومبيـوتر وتعلموا كيف يجمعون قطع الالكترونيات الصغيرة بنفس المهارة التي كانوا يرتقون بها الشباك.. خرج النمر الملاوي الصغير من الأحـراش وهبط من الجبال إلى حواضر المدن كي يأخذ نصيبه من تيـار التقدم الهائل الذي يغمر مـاليزيا الأن.. ولكن كـان علينا أن نقف عند ثلاثة رمـوز أساسية تمثل كل واحد منها وجها أساسيا.. من وجوه ماليزيا الثلاثة.
الوجه الإسلامي.. مسجد شاه علم
زرنا المسجد في يوم الجمعة.. قبل موعد الصلاة الجامعة بقليل.. قال لنـا الحارس إن التصوير ممنوع في الداخل وعلينا الاكتفاء بتصوير الباحة الخارجية.. قال أيضا حتى التصوير في هذه الباحة ممنوع الآن لأن هناك احتفالا بأحـد الأعراس وقد يرفض الأهالي أن يصورهم أحد. ولكـن أهل العرس خرجوا إلينا حين عرفوا أننا عـرب ومسلمون أخـذونا بالأحضان. كان المدعوون يجلسـون في صحنين طـويلين واحـد للنسـاء والآخـر للرجال بينهما أطبـاق الطعام.. طعام العرس.. أرز لحم وخضـار مطبـوخ وحلـوى.. اجلسـونا في صف الرجـال بالطبع ونهض العريس بنفسـه كـي يحضر لنـا الاطباق وابتسمت العروس بخجل وهي ترقب عدسة التصوير ودعت عـريسها ليجلس بجانبها.. كانوا جميعا يرحبـون بنا في حفاوة ودعة.. يعطـونك نوعاً من السـلام يتنـاسب مع البهـاء الذي يلف هذا المسجـد الضخم..
مسجـد شاه علم.. على بعـد 50 كيلـو مترا من كوالالمبور.. يوجـد في مدينـة شاه علم عاصمة ولاية سلانجور.. إنـه واحد من أكبر ثلاثة مساجد في العالم بعـد المسجـد النبـوي الشريف والمسجـد الجامع في افغانستان.. ليس هذا فقط ولكنـه أكثر المساجد أيضا استخـداما للتكنولوجيـا الحديثة.. فشبكـة الاضـاءة المنتشرة فيه تعمل بواسطـة الكمبيوتر وتعطي المسجد ألوانا مختلفة على مدار الليل.. وصنابير الميـاه ليست عاديـة.. يكفي أن تضع يدك تحتهـا فتحس حرارتها وينساب إليك الماء من تلقاء نفسه والأعمـدة تتحـول قمتهـا في مراوح هوائيـة لجلب الهواء البارد في الأيام الحارة.. والمسجـد يعتبر بـذلك جـامعـة للصنـاعة الاسلامية فقد تضافرت في إنشائه خبرات من تركيـا وباكستان وإيران ومصر.
استغرق بناء المسجد خمس سنوات كـاملة ويتراوح لونه بين الرخام الابيض الشـاهق والأزرق الملكي وتمتد أمامه بحيرة رائعة وهو يحتوي على أطول مئذنة في العالم وأكبر قبة ويسع 24 ألف مصل وهـو بذلك يعـد من أكـبر المساجد في جنوب شرق آسيا، تحتـوي ساحتـه الواسعة على مستويين الأول للرجال والثاني للنساء. وقد أخذ التصميم من معمار أول مسجـد أنشئ في ماليـزيا أنشأه التجـار المسلمون في ولايـة كلنتان. وقد صنع السجـاد من الصـوف الناعم وأخذت نقوشه اللون الأزرق حتى تتناسب مع ألوان جدران المسجد. وتحيط به مجمـوعة من النافـورات والحدائق يتداخل فيهـا كلها اللون الأبيض والأزرق.
ولقد زينت أبهاء المسجـد بالآيات القرآنية التي تحولت إلى لوحـات ناطقة قام بها أشهر خطاط مصري هو الشيخ عبدالمنعم الشرقاوي.
إنـه مفتتح رائع وبالـغ البهاء يقودنا لمحاولة تتبع تضاريس الوجه الإسلامي في ماليزيا.. لقد كان الأمر مفـاجئـا لي ومختلفـا وأنـا اجـوس وسط مسلمي ماليزيا.. كان في خيالي بعض من المشاهد المرعبة التي وصفها الكاتب الانجليزي من أصـل بولندى جوزيف كوزاد في روايته "لورد جيم".. كان يصف تلك السفن القديمة المعطوبة التي تبحر إلى هذه الجزر ويشحن فيهـا المسلمون الراغبون في الحج إلى مكة كأنها تقودهم إلى مصير غامض.. إما الموت غرقـاً أو الذبح على أيدي القـراصنة واللصـوص.. كـان إيمانهم قـويا وبؤسهم طاغيا ورغبتهم في الحج تتحـول إلى نزوع للانتحـار. أصبحت الصورة مختلفة تمامـا.. لم يعودوا ذلك القطيع الـذي يقوده الرجل الأبيض ولكنهم تحولـوا إلى شعب يريد ويضع بصمته على كل شـيء.
لقد تناسب الإسلام مـع طبيعة أهالي الملايو.. فهم متسـامحون وخجلون وهم غير متعصبين وهي أشياء أهلتهم إلى أن يجدوا شخصيتهم في هـذا الدين السمح الذي وصل إليهم عن طريق التجار الهنـود. وما زالوا يتسمون بالأسماء العربية. ورغم أن السلاطين قد فقدوا كثيراً من قيمتهم إلا أنهم ما زالوا قوة رمزية حاكمة.
النظافة أحد العناصر الإسلامية التي يحرص عليها المسلم الماليزي.. شاهدت ذلك في البيوت القروية.. بسيطة متواضعـة ولكنهـا شديدة النظافة. قـالت لي إحـدى الفلاحـات.. النظافة الجيدة.. تعني إيمانـا جيداً، بتعبير آخر.. النظافة من الإيمان.. العديد من البيوت تضع أمام مدخلها حوضاً من المياه حتى تغسل أقـدامك قبل أن تدخل إلى المنزل.. الأشياء القذرة محرمة تماما في المنزل.. الخنازير ولعاب الكلاب ولأكل يجب أن يكون حلالا كـما تقضي تعاليم الإسلام. ولكل قرية أستاذ يعلمها القرآن بـاللغة العربية على قدر المستطاع. والعديد من الأطفال يتلون القرآن بالعربية بطلاقة ويبدو هذا واضحاً في المناسبات الدينية المهمة مثل رمضان ومولد النبي عنـدما يتبارى حفظة القرآن في تلاوة آياته.
ولكن هناك بعض العادات القديمة ما زالت تحكم السلوك اليومي.. ولابد أن الإسلام الذي انتقـل إليها من الهند قد اختلط ببعض الثقافـات الهندوسية. فرغم الحجـاب الذي تتمسك به الفتاة في المدينة فإن الكثير من النساء القرويات يطلقن شعورهن في مواسم الحصاد حتى يأتي محصول الأرز وفيراً.. وما زالت بعض مظاهر العرس تأخذ الطابع الهندوي حين يتزيا والعروسان مثل أمير وأميرة بكـامل زينتهما ويجلسـان على مقعد أشبه بالعرش.
والمرأة في ماليزيا أكثر قوة عن مثيلاتها في شرقنا العربي المسلم.. ولعل مصدر قوتها يمتد في جذوره إلى المجتمع الأمومي الذي كـان سائدا في هذه المنطقة. فالمرأة يمكن أن يكـون لها ممتلكـاتها الخاصة وحـرية التصرف في أموالها وأن تأخذ القرارات بالنسبـة للأسرة وعادة ما تكون قرارات نهائية..
وتتمتع بنت المدينة بحرية أكبر.. فمع خروجها من المنزل تعلمت السهر وأن يكون لها "بوي فرند" خاص بها يقوم بإيصالها للمنزل تحت أنظار أهلها.. وتعاني ماليزيا من مشكلة القاصرات اللاتي يهربن من بيوتهن البعيدة في القرى النائية ويأتين إلى المدينة لممارسة أقدم مهنة في التاريخ..
وفي أثناء أيام الزيارة ثارت فضيحة سياسية مدوية عندما اتهم رئيس وزراء ولاية "ملقا" وهو في نفس الوقت أمين الشباب في الحزب الحاكم "أمن" أنه قد أقام علاقة جنسية مع طالبة مدرسة عمرها 15 سنة.. وعنـدما انكشفت الحكاية وذهبت الفتاة بنفسها واعترفت أمام سلطات محاربة الفساد فألقت القبض عليها ووضعتها داخل أحد أقسام البوليس وفر رئيس الوزراء إلى سنغافورة المجاورة وصرخت جدة الفتاة متعجبة "لقد قبضوا على الضحية وتركوا الجاني يفر ببساطة".
أحد الدبلوماسيين همس في أذني أن هذا الحادث يعد عملا سائداً.. فمعظم ذوي السلطة لهن عشيقات صغيرات.. وهو الأمر الذي دفع رئيس الوزراء لتكوين لجنة لمحاربة الفساد بكل أنواعه لعله يستطيع أن يحافظ على معدل الأداء الحكومي عاليا..
الوجه الثاني..
معبدشانج هون تنجو..
الطريق من كوالالمبور إلى "ملقا" ليس فقط رحلة في المكان.. ولكنه رحلة في أعماق التاريخ هذا الميناء الذي كان واحدا من أهم موانئ البهار في جنوب شرق آسيا.. إنه المكان الذي بدأ منه الشهرة والثراء ودخل منه الإسلام وبدا منه جرح الاحتلال الأوربي الدامي الذي عانت منه ماليزيا تحت مشارف العصر الحديث.
كانت ماليزيا الاستوائية تكشف لنا جزءاً من سحرها.. القرى الغارقة وسط الخضرة الزاهية والطبيعة التي أحسن الإنسان استئناسها إنها تختلف عن إفريقيا حيث مازال الإنسان جالساً عبداً لأهواء هذه الطبيعة وما يمكن أن تهبه إليه. ولكنه هنا وضع بصمته على التلال وترتيب الأشجار وتهذيب الأحراش. هناك جدل دائم بين الإنسان والطبيعة بحيث أضاف إليها بقدر ما أخذ منها..
حوانيت ملقا القديمة الضيقة حيث يباع كل شيء ويشترى. الأزقة التي دارت فيها خيالات الأدب الأوربي.. سومرست موموم.. أنتوني هوبكنز.. أفلام الرحالة والمغامرين.. القراصنة.. السلاطين بثيابهم الملكية الصفراء.. تجار البهـار والصاج والعقيق. بقايا البرتغاليين الذين ما زالوا يتكلمون لغة قديمة ويمارسون عادات تعود إلى قرنين من الزمن. القلعة القديمة والمدافع الصامتة التي تنمو عليها الطحالب. بيت الحاكم الانجليزي بلونه الأصفر ما زال زاهيا. الأقنعة الصينية والمصابيح الملونة.. هل انتهـت حرب الجواسيس وتبددت سحب الحرب الباردة أم أن الطرقات الضيقة والمتداخلة بين أحراش الأحياء الصينية تقودك إلى فتاة حسناء وطعنة سكين في الظهر وعقد مفروط من اللؤلؤ؟!.
شهدت هذه المدينة مجدها المتألق منذ عقدين من الزمن.. وصفها أحد الرحالة إن ملقا تستطيع أن تختنق الزمن.. وصفها أحد الرحالة بقوله: "إن ملقا تستطيع أن تخنق فينسيا في أي وقت تريده" إشارة إلى أن ملقا كانت تتحكم في كل طرق التجارة المؤدية إلى هذا الميناء الأوربي المهم. لقد كانت ترد إليها كل أنواع السفن من كل الأجناس في الهند والصين وبلاد العرب والفرس واليابان. ولكن هذا المجد الزاهر لم يدم إلا مائة عام فقط عندما جاءت سفن البرتغاليين لتدك المدينة وتحتلها وترغم سلطانها على الاستسلام.
في قلب المدينة القديم يوجد معبد"شانج هون تنجو" معناه السحابة الخضراء. شارع مزدحم بالمحلات والبيوت والعربات التي تجرها الدراجات. يبلغ عمر المعبد300 عام وهو بذلك يعد أقدم معبدفي ماليزيا وسنغافورة وقد انشئ من أجل إلهة الشفقة "كوان ين". ولقد أمر ببنائه الامبراطور الصيني كاركنج في عام 1801 ومنذ ذلك الحين وهو قبلة التجار سواء منهم الذين كانوا يعبرون البحر أو يستقرون في المدينة وقد أضافت لمسات التاريخ أثرها على زخرفة المكان الذي بنيت الأجزاء الأصلية منه في الصين ثم نقلت إلى ملقا ولم تتوقف الهبات إليه من أغنياء المدينة الصينيين وما أكثرهم..
فرغم أن تعداد الصينيين هو الثاني في ماليزيا إلا أنهم ما زالوا يمتلكون مقدرات الحياة الصناعية والتجارية خاصة صناعات المطاط وشركات التصدير. ويمكن أن تجدهم في أي مركز تجاري من كوالالمبور إلى أصغر جزيرة معزولة.. انه ميراث طويل من التجارة بدأه أجدادهم حين رحلوا في القرن الثالث عبر الارخبيل إلى اندونيسيا والملايو. ولكن استقرارهم بكثافة في شبه الجزيرة لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر مع القلاقل التي حدثت في الصين في أواخر حكم أسرة "مانشو" ومنذ ذلك الوقت فقد عملوا بجد فائق - كان جهدهم يفوق الملاويين بطبيعة الحال. فقد تداخلوا في صناعة التعدين والبناء وأصبحوا هم أصحاب الثروة الحقيقية.. لقد قال لنا سائقنا وهو يشير إلى أحد الأحياء الصينية المحيطة بكوالالمبور.. "إننا نحاول أن نبقى الصينين خارج كوالالمبور حتى لا يتوغل الشيوعيون في الداخل ويثيروا لنا المتاعب.." كان السائق طيبا كعادة كل الملاويين.. كأنه لم يكن يدري أن الصينيين متغلغلون بالفعل في كل مناحي الحياة.. وأن الشيوعية يمكن أن تتحول إلى تراث ماض أمام قوة اندفاع الاقتصاد.
الوجه الثالث:
معبد كهوف باتو..
وقفت حائراً شاعراً بالضعف والخور أمام هذه الدرجات المرتفعة التي تفضي إلى عمق الجبل.. أكثر من 300 درجة تأخذك إلى أعلى إلى أشهر معبدهـندي في باتو..
على السفح توجد معابد أصغر.. كأنها تمهد لرحلتك إلى المعبدالأكبر. شاهدنا في احدى هذه المعابد حفل زفاف على الطريقة الهندية. يجلسون في نفس الصفوف المتقابلة أمام كل واحد ورقة من أوراق شجر الموز يستخدمها بدلا من الاطباق يوضع عليها الأرز والخضار المطبوخ والفاكهة.. مستواهم أكثر فقراً من أصحاب حفل الزفاف الذين شاهدنهم في المسجد ثم نبدأ في رحلة الصعود إلى أعلى كي تكشف لنا الحضارة الهندية عن أحد تأثيراتها المباشرة في ماليزيا. قرود صغيرة تتقافز على الدرج وسط أقدام الزوار.. لابد أنها هي أيضا مقدسة وإلا ما استمتعت بهذا التدليل.. الدرج يفضي إلى الكهف.. والكهـف يفضي إلى درج آخر وكهـوف أخرى. تمتزج رهبة الطبيعة التي تشكلهـا الصخور مع التشكيلات التي صنعتها يد الإنسان.. في أثناء الحرب العالمية الثانية كانت هذه الكهوف هي مخبأ حركات المقاومة للاحتلال الياباني.. وعلى مدى عدة قرون ظلت مختفية خلف الأدغال الكثيفة إلى أن اكتشفها الرحالة الامريكي وليم هورنداي في عام 1878 بالمصادفة فقد كان أحد علماء الطبيعة وكان برفقة إحدى البعثات البريطانية لولاية سلانجور.
إنها مكان الحج للطائفة الهندية يحملون إليه الهدايا والقرابين ويرتمون على الصخور الحادة ليتخلصوا من خطاياهم.. وفي متاهات الكهوف المتداخلة (حوالي 20 كهفا) تتداخل المعابد وكل واحد منها يخص إلهاً مختلفا.. والآلهة تسكن في وداعة القرود والثعابين والخفافيش إنه نوع من تناغم الطبيعة.. مخيف أحيانا ولكن فيه سحر بدائي لا يقاوم.
يبقى أن ماليـزيا تقـدم تجربة رائدة للعالم الإسلامي بشكل خاص وللعـالم الثالث بشكل عـام. فهي تعيش في ظل معجزة اقتصادية حقيقية. وفي كل مكان ذهبنا إليه كانت هناك حركة محمومة للبناء والتشييد كأن البلد كلها قد تحولت إلى ورشـة" عمل لا تهدأ ليلا أو نهاراً. فهـي لا تكتفي بتصدير القصـدير الـذي يمثل ثلث الانتـاج العـالمي، ولا المطاط الـذي يمثل خمس هذا الانتاج ولكنها تقوم بالعديد من الصناعات الالكترونية وشبه الثقيلة..
تجربة حارة
حزب "أمني" هو الحزب الحاكـم منذ حوالي 12 عاما ورئيس الوزراء محمـد ماخوير أطـول عمراً في الحكم من أي ملك.. لأن الملك لا يستمر حكمـه سـوى خمس سنوات فقط. ومما لاشك فيـه أن هذا الأمر قـد وفر عنصراً كبيراً من عناصر الاستقرار ولكن المعارضين يرون أن سطوة المال تستخـدم من أجل السياسة وأن الحزب الحاكم وهو صاحب استثمارات ضخمـة يستخدم هذه الاستثمارات للضغط على خصـومـه واقصـائهـم عن الحكم. فالولايات المعارضة تحرم من أي مزايا أو منافع فدرالية بل وتتعثر المشروعات فيها ولا تجد أي سند حكومي.. الخبراء يطلقون على هـذه الطريقة "تسييس الاقتصاد" والحكـومة لا تخفى هذا الأمـر.. فالدخول معها في تآلف هو النعيم أما الخروج عنها فهو الجحيم بعينه..
وعلينا أن نعترف أن هذه السياسة قد أثمرت حتى الآن رغم آثارها الجانبية.. لقد وفرت نوعا من الاستقرار القسري ويبدو أنـه حل ديمقـراطي بشكل ما ولكن الجميع راضون عنه كما يبدو.
إن ماليزيا تجربة حارة.. حارة على مستوى الطقس وعلى مستـوى الانجـاز وقد استطـاعت أن توجه كل العنـاصر التي في داخلها إلى هـدف واحـد. وأعطت الفرصة للملاويين الذين كـانوا يشتغلون بالأعمال الدنيا التي لا تدر ربحـا للتطلع إلى امتلاك بعض من مصادر الثروة.
إنها تجربة إسلامية نتمنى أن تبقى على قوتها الدافعة الحالية لعلها تقدم لنا نموذجاً ينقذ بقية العالم الإسلامي من سباته العميق.