منذ فترة والكتابات الغربية في معظمها تبشر بواقع جديد للعالم، ولعل أهم نظريتين جرى طرحهما حتى الآن هما نظرية "فوكوياما" حول نهاية التاريخ ونظرية " صامويل ب. هنتجتون" في صراع الحضارات. النظرية الأولى تفترض أن التاريخ قد انتهى بانتصار النموذج الليبرالي الغربي في علاقات السوق الحرة وأن الحرية الفردية والديمقراطية ستضمنان دوما بقاء الحضارة الغربية التي نعرفها اليوم والتي تتحول لتكون النموذج المحتذى لكل الشعوب.
أما هنتجتون فقد قال في مقاله الشهير "صراع الحضارات " الذي نشره في دورية (الفورين أفيرز) في صيف 1993 أن خطوط الانقسام الحضاري/ الثقافي ستكون المصدر الرئيسي للنزاعات المقبلة في العالم وإن الحضارة / الثقافة يمكن أن تحتضن مجموعة متعددة من الشعوب وأن تنقسم إلى فروع تضيق أو تتسع، إلا أن الاختلاف بينما جوهري من ناحية اللغة والتاريخ والدين، وينقسم العالم في نظره إلى سبع أو ربما ثماني حضارات هو: الغربية، والكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية، والأرثوذكسية، والأمريكية اللاتينية وربما الإفريقية.
ومنذ أن انطلقت هاتان النظريتان وهناك نقاش حضاري وتاريخي يدور بين المطلعين والمهتمين فيما إذا كان هذا الطرح الحضاري/ الثقافي هو شيئا لا بد من أن يواجهه العالم أم أن النظريتين تحضران وتمهدان لقبول تفوق الغرب خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
في "صراع الحضارات" يدافع هنتجتون عن فكرته بالقول إن التمايزات الثقافية تبدو أعمق من تلك التمايزات المتصلة بالسياسة والاقتصاد وأنه في نهاية المطاف سيتحول الصراع الإنساني الذي عرف أشكالا عديدة منها محاولة التوسع الإمبراطوري والاستعماري، ومنها الصراع الأيديولوجي، في صراع حضاري قادم، خاصة بعد أن ضاقت الأرض بما عليها من بشر وأصبح انتقال الأفكار والأنساق أسهل وأسرع مما كان في أي مرحلة تاريخية سابقة.
الكتابات التي ناقشت فاكوياما وهنتجتون عديدة، بل لقد أفردت الدوريات الثقافية المحترمة عددا كبيرا من صفحاتها في السنوات الأخيرة لمناقشة أو نقد الأفكار التي طرحها الكاتبان. وما يهمنا في الأمر الإشارات إلى الإسلام والمسلمين والعرب في ضوء هذه الكتابات وما أتى بعدها سواء العام أو المتخصص.
بادئ ذي بدء لا بد من القول إن هناك نماذج فكرية قد طرحت لتفسير مسيرة التاريخ العالمي الحديث وعلاقة الشعوب المتبادلة. هذه النماذج قد أصبحت عاجزة اليوم عن تفسير التغيرات الكثيرة التي تحدث. لذلك فإن محاولات فوكوياها وهنتجتون تظل في المجال الذي ناقشاه، والاهتمام الكبير الذي لقيته آراء هذين الكاتبين يعني- من جملة ما يعني- أننا نبحث عن نموذج فكري جديد يحل محل النماذج التقليدية السابقة ويفسر الحقائق التي نراها أمام عيوننا سواء كانت حقائق اقتصادية أو ثقافية أو سياسية بطريقة أكثر مدعاة للرضا والقبول.
مثل هذا البحث يحتاج إلى صراحة وصرامة، صراحة في تناول الحقائق، وصرامة في تدقيق الغث من السمين بشكل علمي.
المرأة المسلمة
إحدى قنوات المناقشة في الصراع الثقافي الجديد هي الإسلام والمسلمون والعرب، وكل هذه المصطلحات تعني في بعض الأوقات شيئا واحدا، أو بينها على الأقل هوامش مشتركة عديدة، لذلك يجد البعض أن نظرية هنتجتون في صراع الحضارات موجهة جزئيا للعالم الإسلامي، بعضهم يرى فيها جانبا إيجابيا هـو الاعتراف بهذه الحضارة / الثقافة وأنها تمثل تحديا أو أحد التحديات للغرب، وبعضهم يرى فيها نوعا من أنواع الاستعداء العنصري. وفي تقديري أن كلا الرأيين مشبع بشيء من العاطفة. إلا أن حبل النقاش الثقافي والحضاري عندما امتد إلى موضوع المرأة المسلمة أصبحت الكتابات حولها عديدة خاصة في الغرب، بعضها يكتب بخفة شديدة فتضيع منه الحقائق، وبعضها بخبث شديد فيصب كتاباته على السلبيات ويتجاهل الإيجابيات. وننظر نحن إلى الموضوع برمته كعرب ومسلمين إما قابل أو رافض دون مناقشتها، ولكن علينا ألا نتعجل نشر نعي هذه الكتابات قبل تمحيصها، ومهما قلت فيها فإنها تؤثر تأثيرا كبيرا في الرأي العام الغربي الذي تقدسه الديمقراطية الغربية وتعتبره الحكم الأخير في هذه القضايا.
ولكن لماذا المرأة المسلمة؟
لأنها تمثل عقدة وتناقضا وازدواجية في ذهن الرجل العربي. وهي معيار لاختبار دعاوى التقدم التي يطلقها ولواقع التخلف الذي يعيش فيه. ولأن جسدها قد أصبح الحجة المعاصرة التي يأخذها السلفيون الجدد لإثبات ضلالة وجاهلية المجتمع الذي نعيش فيه، ولأننا جميعا- سلفيين أو غير سلفيين- ننظر إليها وفق معايير أقل ما يقال عنها إنها غير معقولة فالمرأة في نظر القانون العام الذي يحكمنا جميعا هي إنسان كامل، من المفروض أن يتساوى مع الرجل في حق التعليم والتوظف والترقي، ولها الحق في الانتخاب السياسي- هذا إذا كان هناك انتخاب سياسي حقيقي في العالم العربي- وهي أيضا مؤهلة لكل المناصب حتى العليا منها، فهي وزيرة ومديرة جامعة ومحامية وقاضية. القانون يجعلها كاملة في مواجهة الرجل الكامل. ولكن الأمر ليس كذلك وفق قانون الأحوال الشخصية. فهي نصف امرأة لا تسافر دون إذن زوجهـا. ولا يعتد بشهادتها في كثير من الأحوال. وطلاقها في يد زوجها وليس في يد قاض عادل يزن أمورها ويراعي ظروفها. أما وفق قانون العادات والتقاليد فهي كائن غير موجود تقريبا. محرمة على العيون ومحرمة من التفاعل مع العالم الخارجي. من المستحسن أن تختفي وإذا كان لا بدلها من أن تسير في الشوارع فمن الأفضل أن تتحول إلى خيمة سوداء. وهكذا يوجد في عالمنا العربي لا وقت واحد امرأة كاملة وأخرى منكسرة وثالثة مختفية.
كم جزءا للرغبة؟
ما دعاني لأن اكتب هذه المقدمة كتاب قرأته أخيرا وقد صدر حديثا (1995) عنوانه "تسعة أجزاء للرغبة: العالم الخفي للمرأة المسلمة" كتبته صحفية من اصل أسترالي هي جير الدين بروك التي فازت بجائزة أفضل مراسلة لصحيفة "وول ستريت " وهي من أهم صحف المال والاقتصاد في أمريكا. وقد عملت هذه المراسلة النشيطة في الشرق الأوسط لمدة ست سنوات، وهي الآن تراسل نفس الصحيفة ولكن من مبنى الأمم المتحدة.
فكرة الكتاب الذي يتكون من اثني عشر فصلا إلى جانب المقدمة والخاتمة هي إضاءة الجانب المعتم- كما ترى المؤلفة- في حياة المرأة المسلمة الحديثة. أما عنوانه فهو مشتق من أقوال أحد رجال الدين الإيرانيين للمؤلفة "إن الله خلق عشر رغبات أودع تسعا منها لدى المرأة".
تضع الكاتبة قصص كتاباتها في صورة صحفية محببة للقراءة وسريعة الهضم. لذلك فإن القارئ الغربي سوف يقبل هذه الصور دون مناقشة وربما دون تفكير، من هنا فإن هذا الكتاب يساهم في رسم صورة ما للمرأة المسلمة، ليست بالضرورة- حتى لا تأخذنا العاطفة- مرسومة بألوان خاطئة أو بحروف عدائية، ولكنها في نظري ناقصة الرسم أو انتقائية. تقول الكاتبة إنها كانت تحمل للشرق صورة مختلفة قبل أن تصل إليه "أمراء في ثياب بيضاء وعيون بندقية لأهل فارس" وبعد أن قضت وقتا في القاهرة طال لمدة عام، وجدت أن الحياة مملة فقد تفوق زوجها عليهـا برغم أنه قد أخذ إجازة من عمله ليلحق بها ويعمل صحفيا حرا يكتب لعدة مجلات وجرائد في أمريكا، لقد كانت الأبواب مفتوحة أمامه كرجل في مجتمع شرقي أما هي فقد ظلت الأبواب شبه مغلقة في وجهها، وتقول: "لقد ذهـبت إلى الشرق من أجل البحث عن المغامرة وليست من أجل الاستماع إلى أكاذيب مملة في مكاتب بعض صغار المسئولين عن الإعلام، لقد كان الحديث مع الناس العاديين هو هدفي، ولكن الحديث معهـم إما أنه كان مدعاة للإحراج أو فرصة من قبل البعض لاختبار الفرضية القائلة إن كل السيدات الغربيات سهلات المنال ولكن الذي فتح عيني على مشروع جديد ومثير هو"سارة" مساعدتي المصرية في المكتب النشطة والحيوية خريجة الجامعة الأمريكية" (ولا نعرف نحن ما إذا كان هذا الاسم صحيحا أو مستعارا ولو أنني أميل إلى أنه اسم مستعار) تصف الكاتبة سارة هذه بصفات إيجابية شكلا ومضمونا: شعرها، ملابسها، طريقة وضع المكياج. إنها امرأة تقارب المرأة الغربية في النشاط وتوقد الذهن. وتضيف المؤلفة: "لمدة عام كنت محتارة في عملي الجديد حتى جاء يوم فتحت لي سارة طريقا جديدا للتفكير.. ففي الأيام الأولى من رمضان فتحت المكتب لأجد أمامي سارة.. محجبة، ملامح سارة اختلفت، ملابسهـا تغيرت، مكياجهـا لم يعد هو فقد أصبح وجهها خاليا من المساحيق. كنت اعتقد حتى هذا الوقت أن العودة إلى الإسلام هي اختيار المضطرين من الفقراء، ولكن سارة لم تكن فقيرة ولا مضطرة، لقد خلعت المرأة المصرية حجابها التقليدي منذ سنة 1923 عندما ذهـب وفد للمرأة المصرية بقيادة هدى شعراوي وسيزا نبراوي إلى محطة مصر للسكك الحديدية لمقابلة زعيم الأمة سعد زغلول العائد من المنفى وفعلت مثلهما العشرات من النساء والفتيات اللواتي كن معهما في استقبال الزعيم، ومنذ ذلك الوقت والمرأة المصرية تواصل مكتسباتها في العمل والمساواة ووالدة سارة التي عاشت تحت النفوذ الرمزي لحركة هدى شعراوي وزميلاتها لم تكن محجبة قط!" مضت تتداخل المعلومات عند الكاتبة فتقرر أن " قبول سارة بالحجاب. يعني قبولا بأن تكون نصف شاهدة، وأن تقبلي حياة بيتية من حق زوجها فيها أن يضربها أن هي عصت أي أمر من أوامره، ويمكن أن يشركها زوجها مع ثلاث زوجات أخريات، ويطلقها متى ما أراد، ويحتفظ بحضانة أولادها دون أن تحتج" تسترسل الكاتبة في مثل هذه المقولات لتأخذنا في رحلة تاريخية عن الحجاب، كيف بدأ وما هي أحكامه ولماذا يختلف لدى المرأة المسلمة من مكان وزمان إلى مكان وزمان آخر، فالمرأة المسلمة في باكستان يختلف حجاجها عن المرأة المسلمة في الجزيرة العربية.
قصة سارة هي مدخل قصصي وقد يكون مغريا بالقراءة للقارئ الغربي، خاصة إذا علمنا في وقت لاحق أن سارة ترفض منحة دراسية من جامعة هارفارد لأن المرأة المسلمة لا يمكنها أن تسافر إلى الولايات المتحدة دون محرك. ثم يتطور الأمر بسارة إلى خطبتها إلى أحد أقربائها بسبب حجابها برغم أن هذا الحجاب قد أصبح يخفي بعض الكيلو جرامات من اللحم الذي تراكم على جسم سارة التي أكلته كما لاحظتها المؤلفة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة بعد أن صعدت أحد السلالم.
تأخذنا المؤلفة بعد ذلك في زيارة إلى إيران ويبدو أنها أكثر من زيارة، وكيف لبست هي (الشادور) من أجل أن تقوم بوظيفتها خير قيام، وكيف شاهدت شرائح من ممثلي النساء المسلمات من منطق عديدة في العالم الإسلامي كن في زيارة إلى إيران تصف شعورهن، آمالهن وآلامهن إلى درجة إنها قابلت - مع مجموعة أخرى - زوجة الأمام الخميني ولاحظت أن شعرها مصبوغ بالحناء. وعرفت - كما كتبت - شيئا عن علاقة الأمام الأسرية.
وتقارن المؤلفة موقف صاحبتها سارة بموقفها عندما كانت في مدرسة للراهبات في أستراليا وكيف عاقبت الناظرة مجموعة من الطالبات- بمن فيهـن المؤلفة- لأنها شاهدتهن بقرب المدرسة وهن لا يلبسن المعطف المدرسي حيث إن الثوب العادي يبرز بعض تفاصيل أجسادهن، تقول المؤلفة إنها توقفت عن الذهاب إلى الكنيسة عندما عرفت أن الكنيسة الكاثوليكية حرمت تحديد النسل والطلاق فما الذي دهى سارة المصرية وهي من نفس جيلها تقريبا.
القضايا المطروحة
وحتى لا يستنتج القارئ أن هذا الكتاب الذي نعرضه هو مجرد قصص قد يختلط فيها الخيال مع الواقع، فإن الكاتبة تطرح قضايا جادة علينا أن ننظر إليها باهتمام بالغ، فهي عندما تتحدث عن ختان البنات في بعض البلدان العربية والإسلامية تأخذ الأمر على محملي الجد وتصف ما شاهدته في أكثر من مكان سواء كان ذلك في مدينة أو قرية أو تجمع قبلي، وهي مع الأسف تعطي انطباعا أن هذه العادة لها علاقة بالإسلام وهو انطباع غير صحيح ولن يجدي نفينا له بيننا وبين بعضنا، أو رفض الاعتراف بوجوده في بعض البيئات بأننا قد أخلينا مسئوليتنا عن ذلك، فإن مقاومته تحتاج في جهود كل المهتمين بقضية المرأة في تلك البلاد التي تمارس فيها هذه العادة حتى لو كانت في حدود ضيقة.
لقد كشف الفيلم الواقعي الذي عرضته محطة سي. إن. إن حول عملية الختان التي دارت في أحد الأحياء الشعبية بمدينة القاهرة عن حقيقة بالغة البشاعة علينا أن نقف أمامها مهما كان موقفنا من الاستغلال الغربي لهذه القضية. فالذين ارتكبوا هذه الفعلة لم يحسوا أنهم ارتكبوا أي خطأ.. وحتى عندما سمحوا للكاميرات الأجنبية بالتصوير فعلوا ذلك من باب المشاركة في الاحتفال، احتفال إعداد هذه الأنثى الصغيرة لزوج المستقبل الذي لا يعلم أحد عنه شيئا.. ومع ذلك يجب أن يجرى التجهيز له وأن تخفف الأنثى من "غلمتها" حسب الاعتقاد الشعبي الشائع حول هذه المسألة.. إن في مصر قانونا يحرم القيام بختان الأنثى نظرا لما يحدثه من مضاعفات نفسية وصحية على جسدها.. ولكن هناك أيضا القانون الأقوى.. قانون المعتقد الذي لا يستمد جذوره من الفهم الخاطئ للسلام فقط.. ولكن من التراث الفرعوني نفسه.. فعملية الختان التي تسمى "طهارة" ترى أن هناك شيئا نجسا في الجسد الإنساني يجب إزالته. والتطهر لا يقف عند مراتب الروح ولكن يجب أن يأخذ بعده العضوي، وبرغم أن الختان يمارس على الرجل والمرأة إلا أن النظر إليه يتم من منظورين مختلفين تماما.. فطهارة الرجل تزيد من قوته وتدعم وجوده الشرقي وتجعله قادرا على مواجهة متطلبات رجولته.. لكنهـا بالنسبة للمرأة نوع من الإخصاء الجزئي أو التأديب العضوي يتم مبكرا حتى لا تنفلت من عقالها عندما تكبر.. أي قانون وضعي يمكن أن يقف في مواجهة هذه التصورات والاعتقادات الراسخة. وأي توعية دينية يمكن أن يقوم بها بعض رجال الدين الذين هم أسرى هذه المعتقدات!
إننا في حاجة ماسة- بعيدا عن الكتابات الغربية والتشنيعات التي لا تأتي غالبا من فراغ- إلى مواجهة هذا الأمر بشجاعة. فتصورنا عن المرأة وعن سهولة وقوعها في الخطيئة لأن جسدها مهـيأ لذلك هو أسير تصورات مستمدة من معتقدات شعبية وأسطورية وحكائية دعمها الرجل حول المرأة. ولعل مثال ألف ليلة وليلة شاهد على ذلك. وهذا التصور أخرج المرأة من السياق الزمني إلى اللا زمني.. من سياق التطور التاريخي الذي عرفته البشرية والنمط الأزلي الذي لا يصيبه التبديل وكل هذه المعتقدات الشعبية كانت ترى أن الذكورة هي المعيار الأمثل وربما هي الشكل الذي يجب أن يكون عليه الإنسان.- بينما الأنوثة مجرد استثناء، حالة خاصة تكون مهفومة أحيانا وغامضة في أغلب الأحيان.
وتناقش الكاتبة موضوعا آخر أكثر أهمية وما زال يمارس في بعض البلاد الإسلامية، ففي إحدى زياراتها في صحبة نساء إيرانيات إلى أحد المراكز الدينية، وفيما كانت رفيقتها المترجمة مشغولة تحدث إلى الكاتبة رجل، لما تفهم الحديث واعتقدت أنه قد عرف أنها أجنبية وأنه يريد منها مغادرة المكان، ولكن عندما رددت الحديث بعد ذلك لصديق فهمت أن هذا الرجل كان يعرض عليها (الصيغة) أو زواج المتعة، وقيل لها إنها كانت ترتدى (الشادور) بطريقة تفعلها النساء الراغبات في (الصيغة). وتذهب المؤلفة بعد ذلك للحديث المطول والتاريخي عن (زواج المتعة)، وهو قد يكون مطبقا في بعض البلدان الإسلامية، وقد يكون له معارضة نسائية ورجالية على حد سواء ولكنه بالتأكيد موضوع يثير الاهتمام في الغرب، وربما الاستغراب أيضا. وتعلق المؤلفة على ذلك قائلة: لقد قرأت شخصية سي السيد في قصة نجيب محفوظ الشهيرة ولكنني لم أكن أعرف أن هناك تطابقا بين شخصية سي السيد وشخصيات ما زالت تعيش حتى اليوم وترى المرأة بنفس هذه النظرة.
ومن القضايا الأخرى الجادة التي تناقشها المؤلفة ما أسمته بـ (قتل الشرف)، وتتابع هذه الظاهرة في مدن وقرى الشرق الأوسط وتتحدث إلى فتيات مسلمات فضلن العيش بعيدا عن أهليهن وذويهن بسبب هذه الظاهرة، وكيف أن المرأة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية تموت حزينة خوفا من (الإشاعات) لا الفعل، وتضيف المؤلفة أن هذه الظاهرة منتشر بين الفقراء وفي القرى ولكن لا يخلو مجتمع منها، إلى درجة أن بعض السيدات العربيات قد شكلن فيها بينهن جمعية أسمينها (الفنار) لجمع هذه الحوادث ومحاولة لفت الأنظار إليها.
وتنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى موضوع جدي آخر هو مشكلة الزواج لدى الأسرة في المدينة، بصرف النظر عن أية مدينة فإن هناك مشكلة زواج ليس فقط في تدبير مصاريف الزواج الباهظة لدى قطاعات الطبقة الوسطى الأعرض في المدن العربية، بل وأيضا الكفاءة في منع زواج الابنة لأن الأب أو الأسرة ترى أن الزوج غير مكافئ للزوجة من حيث الثروة والمكانة، هذه الظاهـرة- كما تقول المؤلفة- تركت العديد من النساء دون زواج، وهي ظاهرة تعترف أنها اجتماعية أكثر منها دينية.
لا تتعجلوا الحكم
بجانب القضايا الرئيسية التي طرحتها المؤلفة فان موضوع دراستها هو المرأة المسلمة العربية والى حد ما الإيرانية مع إشارات قليلة للمرأة التركية والباكستانية أو حتى الأندونيسية مثلا وجميعهن مسلمات، وهي تسقط بشكل غير علمي تاريخ بعض النساء المسلمات على واقع الحال اليوم، وهو امتداد للفهـم الغربي عن الحضارة / الثقافة التي ناقشناها في صدر هذا المقال، وعلى أنها شيء ثابت لا يتغير مع الزمن وذلك ضد المنطق العلمي، كما أن المؤلفة تشير إلى العديد من مكاسب المرأة المسلمة الحديثة في بعض البلدان كأن تقبل في سلك الشرطة مثلا وتقوم بالتدريبات وأن تشارك حتى في القتال، ومن الفصول المثيرة للانتباه ما أسمته المؤلفة (ألعاب المرأة المسلمة) وهي إشارة إلى تنظيم دورة الألعاب الأولمبية للمرأة المسلمة في طهـران عام 1993 التي شاهدتها المؤلفة على الطبيعة.
وكذلك الفصل المخصص لحجاب الفنانات في مصر والذي تناقش فيه ارتداء سهير البابلي للحجاب مع مجموعة أخرى من أهل الفن من النساء في مصر. أما أكثر الفصول إثارة فهو الأخير الذي تصف فيه الكاتبة زيارة قام بها أحد الأشخاص المهمين إلى بيتها في إحدى ضواحي لندن فبعد أن تأكد الضابط المكلف بترتيب المقابلة من خلو المنزل مما يعكر الصفو وتفقده لحجراته قال للمؤلفة: دعي الباب مفتوحا فالزائر لا يستطيع أن يقف على الباب وبعدها دخل سلمان رشدي، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي قتل فيه الكاتب فرج فودة في القاهرة!!
المرأة العربية وحجاب العقل
قد تكون المؤلفة قد أخطأت أو أصابت. ولكن الخطأ الأساسي يكمن في داخلنا نحن. فلا يتوقف الأمر عند عدم فهم الإسلام وعلاقته بالمجتمع بالنسبة للمثقف الغربي ولكننا بتصرفاتنا المتهورة نضيف الكثير من اهتزاز الصورة بفهمنا السطحي لقشور الدين، خاصة موقفه من المرأة وقضاياها. ويحضرني في هذا المجال قول الكاتب اللبناني المشهور أمين معلوف: "أعتقد أن القيم والصفات المرتبطة بالرجولة في تاريخنا سببت من الضرر أكثر مما سببته من المنفعة، وربما نكون الآن في مرحلة تحتاج أكثر إلى الصفات المرتبطة بالأنوثة".
وقد لا توضح هذه الكلمات مدى الإيمان بجدوى الصفات الأنثوية بقدر الكفر بكل "العنتريات" الفارغة حول انسياقنا وراء الصفات الرجولية في تاريخنا والمحاولة المستمرة لتهميش دور المرأة. فنحن حين وأدنا البنات وسط رمال الجاهلية وأدنا معهن أيضا قدرتنا على رؤية العالم من خلال المشاركة والمغايرة في الوقت ذاته. ولم نترك الطريق سهلا أمام المرأة العربية لإثبات جدارتها واستحقاقهـا للحياة تحت الشمس، وبذلك استهلكنا جزءا كبيرا من طاقتها في الإثبات ومن الطاقة الذكورية في نفي هذا الإثبات.
إن الأمم المتحدة تستعد لعقد مؤتمرها العالمي حول المرأة في بكين في سبتمبر المقبل. وهو مؤتمر سوف يحدث- كما أتوقع- نفس الدوي الصاخب الذي أحدثه المؤتمر السابق عن السكان والتنمية. ففي هذا المؤتمر كان موضوع المرأة هو أشد الموضوعات إثارة للمناقشات والاختلافات. فما بالك إذا كان المؤتمر بأكمله مخصصا لوضع المرأة حول العالم، وأن زوابع سوف يثيرها حين تخرج مظاهرات النساء في كل مكان ليعلن عن اعتراضاتهن وتوضيح قضاياهن؟..
إن وضع المرأة في العالم كله مثير للحيرة والفزع أيضا.. فما زال استغلال النساء واستعبادهن ووأد الصغار منهن وضعا موجودا في العديد من بلدان آسيا وخاصة في الهند. وما زالت تجارة الرقيق الأبيض تواصل ازدهارها.. بل وانتقلت شمالا لتصيب جمهوريات ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي سابقا. بل والمدهش أن عمليات الاغتصاب الجماعي للنساء التي كانت إحدى ظواهر الحروب القديمة قد عادت لتطل ببشاعة من خلال معارك البوسنة والهرسك. فماذا يمكن أن تثور المرأة المسلمة من أجله وسط هذه التظاهرات العارمة؟!..
في اعتقادي أنها سوف تثور على الحجاب.. ولست أقصد ذلك الحجاب العادي الذي يخفي شعرها أو جمالها. ولكنها سوف تثور على الحجاب الذي نحاول وضعه على عقلها ومحاصرتها من خلاله. إننا نحاول أن نعيد المرأة إلى سجن القرون الوسطى حين كان جسدها خطيئة يجب أن تعاقب عليه بالضرب كي تخرج منه أرواح الرغبات الشريرة. ولا ننظر إليها ككيان متكامل تمتزج فيه الروح. بالجسد والرغبة بالفكر. فنحن- الذين نتغنى طويلا بالحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة- لم نأخذ من الإسلام سماحته. وتركنا فقه الأصول بمعناه الواسع والشامل وغرقنا في بحر التفاصيل الصغيرة في "فقه الفروع" حيث كل شيء نجس ومحرم بدءا من عطر المرأة حتى إلقاء الماء الساخن في المجاري حتى لا يؤذي الجن الرابض فيها!
إن مؤتمر بكين- كما يؤكد خبراء الأمم المتحدة- لن يكتفى فقط بالاقتراحات ومناشدة الدول، ولكنه سوف يركز على الإجراءات التي تكفل تنفيذ السياسات التي يتبناها. وسوف تتم مطالبة الدول بوضع خطة واضحة للخدمات الاجتماعية والسياسية التي تساعد المرأة على النهوض والترقي في أنشطة العمل المختلفة والتي لا تعرقل دورها كأم وعاملة. وسوف تشكل لجنة دولية مهمتها مراقبة سياسة عدم التمييز ضد المرأة والمساواة بينها وبين الرجل في الفرص. وكذلك دراسة تأثير النزاعات المسلحة في حياة المرأة والطفل. وهناك قضايا مهمة لم تأخذ دورها من الإعلام العادي ولكن المؤتمر يفرد لها حيزا من أعماله مثل حقوق المرأة والبيئة والتنمية ومرض الإيدز ومشاكل الهجرة والإجهاض وكلها تؤثر في صميم حياتها.
المرأة المسلمة والمرأة العربية بالتحديد تدخل هذا المؤتمر وهي تعاني نسبة أمية تبلغ 60% من مجموعها، أي أن هناك 5. 65 مليون امرأة عربية لا تعرف القراءة ولا الكتابة. بل إن معدل بقاء البنت العربية في مراحل التعليم لا يتعدى ثلاث سنوات مقابل خمس سنوات للولد.
وعلى المستوى الصحي فما زالت نسبة وفيات الأمهات العربيات عند الولادة مرتفعة حتى بالمقارنة مع مجموعات الدول النامية.
إن المنظمات العربية الحكومية وغير الحكومية التي حاولت وضع خطة للنهوض بالمرأة العربية حتى عام 2005 وجدت أنها تواجه عشرة مجالات رئيسية، وهو رقم متواضع أمام كم المشاكل التي يحفل بها واقعنا العربي الغريب.. وقد حددت اللجنة مجالاتها في: عدم المساواة بين الرجل والمرأة في تقاسم السلطة، والافتقار إلى الوعي بحقوق المرأة كإنسان والالتزام بهذه الحقوق دوليا ووطنيا، وعبء الفقر الدائم وعدم مساواة المرأة في فرص العمل والأجور، وعدم المساواة أيضا في الحصول على خدمات التعليم والصحة. ولا تنتهي تلك اللائحة الطويلة التي نتوجه بها إلى مؤتمر بكين وقلوبنا كليمة.
المرأة ومفكرو الإسلام
وفي الختام يجب أن أعترف أنني طوال المدة التي أمضيتها أقلب فيها صفحات هذا الكتاب كنت أدرك أنه من الخطأ النظر إلى الإسلام من خلال عيون غير خبيرة ومن الخطأ النظر إليه على الورق أو من خلال بعض وقائع التاريخ المنتقاة، فالمفكرون المسلمون العظام كالغزالي وابن رشد وابن عربي وغيرهم قد ناقشوا الكثير من هذه الأطروحات ووصلوا بها إلى أحكام منطقية. لقد جعل الإسلام للمرأة الكثير من الحريات التي كانت تقيدها قبل ذلك، كما أزاح عن كاهل نساء الشعوب التي دخلت الإسلام قيودا ثقيلة يعرفها المتخصصون، وعلينا جميعا العمل للتفريق بين الثقافة السائدة والتقاليد المحلية لهذا المجتمع أو ذاك وبين مبادئ الإسلام العظيم.