مختارات من:

بقايا الذاكرة المحنطة

بدرالدين بريبش

تنفض يديها من غبار الطباشير, ثم تعلق مئزرها الأبيض على تلك الشماعة, التي تقف بشموخ منذ تدشين هذه المؤسسة التعليمية. كانت قبل أن تعود إلى البيت, تمر كعادتها بالمكتبة, تشتري جرائد اليوم لأبيها المتقاعد, وبعض المجلات النسائية لها.

تسلك نورة الطريق نفسه, تقابل الوجوه نفسها, الدالة على هذه الأجساد الخشنة التي تسند جدران هذه المدينة البائسة. تدخل نورة البيت, تقدم العرض نفسه قبلة لأمها, سلاما لأبيها قبل أن تعطيه جرائد اليوم. هذه الجرائد التي أدمن على قراءتها منذ أن أقلع عن التدخين, وأحيل إلى التقاعد.

قال له الطبيب في آخر زيارة له: يجب أن تقلع عن التدخين??

ـ لقد أقلعت عن ذلك منذ مدة طويلة.

ـ عجيب!! لديك نفس أعراض المدخنين المدمنين, ضعف الجسم, توتر الأعصاب, احمرار في العينين.

ـ أنا لا أدخن.. صدقني, إنني أقرأ الجرائد كل يوم فقط??

تدخل نورة بعد ذلك غرفتها, تلقي بجسدها المنهك على السرير, لقد أحست بتعب شديد في هذا اليوم الذي هو آخر يوم في الأسبوع, راحت تطلق تنهدات تخرج من الأعماق, نظرت إلى سقف الغرفة, تجاوزته, ثم راحت دون أن تدري تداعب بعض الأحلام المستحيلة, وتتذكر عذاب هذه السنين المسرعة كالبرق, كم هو قصير هذا العمر? اثنتا عشرة سنة تمر على تخرجي في المعهد, وكأنها سنة واحدة, بل كأنها شهر أو أقل. كم هو قصير هذا العمر?

مازلت أتذكر كل شيء, قسم الدراسة, الطاولة ما قبل الأخيرة, أتذكر الزملاء, نكتهم الساخرة, خفة دمهم أحيانا وبلادتهم أحيانا أخرى.

كنت فاتنة القسم, بل المعهد, هذا ما يقوله عني الزملاء, وما تقوله رسائلهم وبطاقات العام الجديد, حتى فاتح شاعر القسم مازلت أحتفظ بقصيدته الغزلية.

تخرج نورة من هذا الحلم وهذه الجلسة الصوفية, لتقفز مسرعة نحو درج الخزانة, لتخرج منه ظرفا كبيرا يضم بقايا من الذاكرة, تبدأ بصورة ورسالة, إنهما لفاتح شاعر القسم الخجول, كان خجولا جدا, لا يخالط الجنس اللطيف كثيرا, وليس من عادته كتابة الرسائل الغرامية, لكن نورة كانت الاستثناء, أمامها لم يقاوم.

نورة راحت تحاكي الصورة, تحاول أن تقرأ الرسالة قراءة جديدة وهي تراجع الذاكرة, تعيش الحلم المستحيل, وتشعر بالحسرة.

ـ قد تتوه مني العبارات ولا أجد الكلمات التي تستطيع أن تصف ما يعتريني من أحاسيس ومشاعر, لا أقول إنك ربة الجمال, لأنك الجمال كله, ولا أقول إن الأرض بعدك سوف تتوقف عن الدوران, أنا إنسان بسيط, أكره المغامرة, وأكره الحب بالتقسيط, أنا أحبك لأكمل نصف ديني, فلا تضيعي الوقت وتضيعيني.

ترفع نورة رأسها المثقل بالأفكار, لتقابلها مرآتها الشاهدة على رحلة الحلم والضياع, الشاهدة على أنه ضاع ما كان لديها, ما كان يجلب الخطاب إليها, حتى الذين يسندون ظهورهم لجدران المدينة, لم يعودوا يغازلونها كما كانوا يفعلون دائما, حين تمر بهم في رحلة الذهاب والإياب بين البيت والمدرسة, المدرسة والبيت وكشك الجرائد. حتى هذه المرآة اللعينة أصبحت تظهر لها تجاعيد هذا الوجه الذي أزالت قطرات من الدمع عنه بعض المساحيق.

شعرها الذي كان يشبه ظلمة الليل غزته شعيرات تبعثرت كما الثلج, تهاوت المملكة وتمرد العرش. حتى غبار الطباشير شارك في الجريمة وراح يعبث ببشرتها الناعمة.

أعصابها لم تعد من حديد, ضجيج التلاميذ في القسم, انحناؤها الدائم على هذا المكتب الخشبي الذي يشاركها الغرفة, ورحلة العمر الطويلة.

حتى السيد المدير لم يعد يمازحها, لم تعد أصابعه تعبث بخصلات شعرها الناعم, لم يعد يطيل في المصافحة كما كان يفعل دائما.

مفتش المنطقة كان يزورها دائما, ويغازل عينيها الزرقاوين, ويمنحها قلمه المستورد كي تضع النقطة التي تحب أسفل هذا التقرير المعد سابقا.

مفتش المنطقة هذه المرة بعث لها بتقرير يتحدث عن تقصيرها وعدم جديتها في العمل!

أصبح سقف الغرفة يقترب منها أكثر وتكاد جدران الغرفة أن تنطبق على جسدها المنهك.

المرآة لم تعد تعكس صورتها جيدا, بل هي التي لم تعد ترى شيئا, فعيناها غارقتان, تناولت منديلها وراحت تكفكف الدمع, وهي تتناول الصور والرسائل وبطاقات الأعوام التي كانت ذات يوم جديدة.

ـ لماذا لا أحرق هذا الماضي المتعب??

كل زميلاتي أصبحن أصحاب بيوت, وأصبح لهن أولاد, إلا أنا. مازلت أعيش الحلم والوهم والماضي الذي لا ولن يأتي. أخذت علبة الكبريت, ثم راحت تحرق كل ما تبقي من الذاكرة, الصور, الرسائل, بطاقات التهاني, التي أصبحت كقطع العذاب.

ـ أحببتك لأكمل نصف ديني, فلا تضيعي الوقت, وتضيعيني.

كانت هذه آخر عبارة وقعت عليها عيناها والنار تأكل ما تبقى من الرسالة, والصور وأشياء أخرى...

وقتها بدأ يتسلل إلى أذنها صوت مؤذن الحي, تصاحبه دقات أمها العجوز على الباب.

ـ نورة.. نورة انهضي لقد طلع النهار.

لم تكن نورة قد نامت حتى تستيقظ, رغم كل هذا حاولت ترتيب أشيائها, حاولت إخفاء علامات السهر.. حمرة بعينيها الجاحظتين, أخفت ذلك خلف نظارتها الطبية ذات اللون البني, خرجت من الغرفة مثقلة الخطوات وكما تعودت, قبلة لأمها, وتحية الصباح لأبيها العجوز الذي لا ينام بعد صلاة الصبح, كان يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم, ثم يداعب حبات مسبحته العتيقة. لقد كان يلاحظ توهج المصباح في غرفة نوم نورة.

هذا الضوء الخافت, لم ينطفئ طوال الليل, رغم ذلك لم يسأل عن السبب.

ربما لا يريد إحراجها, أنا ما قصرت في حقها, هي التي كانت ترفض في كل مرة, بحجة التعلم, المستقبل, الوظيفة حتى تجد من تـ .. حـ.. ب.

دخلت نورا القسم وضعت محفظتها الثقيلة على المكتب, ثم أخذت قطعة طباشير. المادة: لغة عربية ـ الموضوع: تعبير إنشائي.

على كل تلميذ إخراج كراس المحاولات, كل واحد منكم يكتب موضوعا عن الوقت وأهميته في حياتنا. اقتربت نورة من المكتب الخشبي, تركت جسدها المتعب يتهاوى على المقعد, علها تستعيد ما فقدته في تلك الليلة, كانت تنتظر ما سوف يكتبه التلاميذ عن الوقت, هي نفسها كانت تجتر نفس العبارات القديمة, التي سوف يكررها حتى التلاميذ ـ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. الوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب??

أشارت نورة إلى التلميذ الأول الذي لم يستطع القراءة, ربما لم يكتب شيئا.

التلميذ الثاني, ثم الثالث, الرابع, كلهم أعادوا حكاية السيف, وحكاية الذهب??

أما تلميذها خالد, الممتاز علما وخلقا, كانت هذه ملاحظة كل الأساتذة الموضوعة في كشف نقاط خالد .. آه حتى ملاحظات الأساتذة نفسها تتكرر, وكأنها منزلة, أو لا يوجد غيرها في القواميس.

كان صوت خالد خافتا وهو يقرأ : ليس الوقت كالسيف, وليس الوقت من ذهب, إنما الوقت هو الحياة فإذا ذهب وقتك ذهبت حياتك .

لم تصدق نورة, الذي تسمعه من خالد صاحب السنوات العشر فقط??

طلبت نورة من خالد أن يأتيها إلى المكتب صحبت كراسه, ثم راحت تقلب الصفحات وتقرأ بعض الكلمات والحكم والأمثال التي كانت مبعثرة هنا وهناك, لتكشف اهتمام خالد بجمع كل ما هو مفيد وجميل في الصفحة ما قبل الأخيرة وقع نظرها على عبارات من بقايا ذاكرة محرقة??

ـ إنني إنسان بسيط.. أكره المغامرة.

ـ خالد هل أنت صاحب هذه الكلمات??

ـ لا.. لا.. لقد نقلتها من أحد دفاتر أبي القديمة.

ـ فاتح??

ـ هل تعرفينه?

ـ لا.. نعم, بل كنت زميلته أيام الدراسة, كان شاعر القسم, كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات..

ـ إذن هو الذي علمك أن الوقت هو الحياة, وعلمني اليوم أن الذاكرة لا تموت ولا تحرق ولا تنسى.. بل تحنط في انتظار ساعة المولد الجديد.

بدرالدين بريبش مجلة العربي نوفمبر 2000

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016