هذا المصطلح مشتق من اللفظ اليوناني "براجما" ومعناه: العمل، "البراجماتية- وليم جيمس "
فإذا قلنا عن كاتب من الكتاب أو مفكر من المفكرين، أو عن أي فنان من الفنانين إنه "براجماتي "، فإننا نعني أن ذلك المفكر أو الكاتب إنسان واقعي عملي يدعو إلى العمل فيما ينشره بين الناس من أفكار وآراء. ومن الواضح أننا في أشد الحاجة إلى مثل هؤلاء الكتاب والمفكرين والفنانين، لكي نبتعد عن التصورات والخيالات التي لا ظل لها من الواقع، مما يجعل أعمالهم الفكرية والأدبية أعمالا إنشائية فارغة، ومن الغريب حقا أن مصطلح "البراجماتية" ظل مهملا زهاء عشرين سنة لا يعبأ به أحد، حتى جاء الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842- 1910، وألقى عنه محاضرة، شرح فيها ما تعنيه هذه اللفظة، من معان ومالها من تأثير في حياة الإنسان، وذلك في سنة 1898 م، ويبدو أن العصر كان ناضجا لتلقي هذه الفلسفة، ومن ثم انتشرت كلمة "البراجماتية" وهي الآن ترقش صفحات المجلات الفلسفية باحترام وتبجيل أحيانا، وتحقير أحيانا أخرى، وهذا شأن كل فكرة جديدة تلقى من يتقبلها بكل ترحاب وربما اتخذها مصباحا يستضيء به في حياته، كما أن هناك من يعرض عنها، بل يعارضها بكل قوة، لأنها لا تلائم مزاجه وثقافته وإذا ما تأملنا تحليل هذا المصطلح وجدناه مذهبا فلسفيا يقرر أن العقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل الناجح، ولعلي لا أعدو الصواب إذا قلت إن أكثر تنظيرات فلاسفتنا ومفكرينا وكتابنا في هذا العصر، تشبه معدن الزئبق، لا تكاد تخرج من أكثرها بطائل، يصدق عليها قول المرحوم عبد القادر المازني: "تسمع جعجعة ولا ترى طحينا".
يقول مصطلح "البراجماتية"إن عليك أن تسأل نفسك قبل أن تقوم بأي عمل من الأعمال، ماذا أستفيد أنا أو غيري من هذا العمل، فالمسألة ليست مسألة انعقاد مؤتمرات أو ندوات، وإنما هي ماذا استفدنا أو سنستفيد من هذا النشاط،. وكتوضيح أكثر نقول إن القائد الناجح، هو الذي يبذل كل ما في وسعه لمعرفة فلسفة خصمه، وما هو مقدار مهاراته وذكائه، وما هي الطرق التي يسلكها في استخدام ما لديه من البشر والمعدات، وينبغي أن نسلك هذا النهج في جميع القرارات التي نصدرها وفي كل الخطوات المهمة التي نتخذها في حياتنا، لكي نعرف ما لكل نشاط نقوم به من أثر وتأثير. ذلك ما تفعله الأمم الحية المتحضرة، فهي لا تقوم بأي عمل من الأعمال إلا بعد دراسة دقيقة مستفيضة توضح لأصحابها ماذا تؤدي تلك الأعمال من إفادة مادية ومعنوية. إذن فأنا محق إذا قلت إن ما يعنيه مصطلح "البراجماتية" أمر معقول، نحن في حاجة شديدة إليه، إذ إن كل تنظير يعتمد على التهويم في ما لا يؤدي إلى شيء هو أمر أقل ما يقال عنه إنه ترف فكري، فإذا أردنا أن نعرف فكرة من الفكر أو رأياً من الآراء، وضعناه على الاختبار العملي، فإن أدى بنا إلى منفعة نستطيع أن نصطنعها في واقع حياتنا، عرفنا أنها فكرة تستحق العناية بها، وجعلها نبراسا نستضيء به في طريقنا.
يقول الأستاذ الدكتور جميل صليبا في معجمه الفلسفي: "إن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجعة، أي الفكرة التي تحققها التجربة، فكل ما يتحقق بالفعل هو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا بنتائجها العملية، ومعنى ذلك كله أنه لا يوجد في العقل معرفة أولية تستنبط منها نتائج صحيحة، بصرف النظر عن جانبها التطبيقي، بل الأمر كله رهن بنتائج التجربة العملية التي تقطع مظان الاشتباه".
كم يكون مفيدا لنا لو وقفنا على الفلسفات والأفكار التي تبتكرها عقول المستنيرين في آسيا وأوربا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من الدول المتحضرة، وأخذنا منها محا يضيف إلى ثقافتنا ويزيدنا في حياتنا الواقعية العملية، وتركنا التهويمات والأوهام التي تعتمد على التصورات والتخيلات التي لا ظل لها من الواقع.
الانتفاع بالعقل
ويرى كاتب هذه السطور بكل تواضع، أن علينا أن ننتفع بكل فلسفة فبها توسعة لآفاق تفكيرنا سواء جاءت من الشرق أو الغرب، فإن انتفاعنا بالعقل، ينبغي ألا يتوقف عن أي فكر من الأفكار يابانيا كان أو أمريكيا أو أوربيا. إن حضارتنا الإسلامية لم تتصف بهذا الخصب العظيم، إلا بعد أن فتحت نوافذ أبوابها لجميع التيارات الفلسفية من هندية وفارسية ويونانية، فنحن نلاحظ أن ابن رشد وابن طفيل وابن مسكويه وأبوبكر الرازي والفارابي وغيرهم كثيرون من فلاسفة العرب والمسلمين يشيدون أعظم الإشادة بأرسطو وسقراط وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة اليونان، وهذا دليل على أن أسلافنا فتحوا آفاق تفكيرهم للفلسفات الأجنبية وأخذوا من تلك الفلسفات ما أنار عقولهم ووسع آفاق تفكيرهم، ولم يكن العرب والمسلمون مقلدين، وإنما تمثلوا تلك الفلسفات وهضموها، ثم استخرجوا منها ما أنار عقولهم وتفكيرهم وأثر في حياتهم المادية والمعنوية بصورة عامة، يتضح ذلك فيما نجده في مؤلفات عمرو بن بحر الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، والفيلسوف الأندلسي محمد بن أحمد المعروف بابن رشد. وفيما نجده في أشعار أبي العلاء المعري وأبي الطيب المتنبي وأبي نواس وبشار بن برد والبحتري وأبي تمام وغيرهم ممن لا يحصون عددا، تأثر أسلافنا الأقدمون أعظم التأثير، بفلسفات وأفكار غيرهم من الأمم عند اختلاطهم بها.
إذن فإن من المحتم علينا، أن نتابع ما يجري في الأمم المتحضرة ونأخذ منه ما يلائم حياتنا دون أن يؤثر في هويتنا الإسلامية، وألا نعتقد أن مذاهبنا الفلسفية هي المذاهب التي وصلت الذرى، فلا حاجة بنا إلى التفاعل مع عقول الغير، ذلك أمر إذا فعلناه فسنظل ندور في مكاننا، بل إننا إذا فعلنا ذلك فسنظل نسير إلى الوراء.
ولا يفوتني أن أشير إلى أن ترجمة كتب علمائنا كابن سينا وغيره إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها، كانت الأساس للثقافة الغربية، فقد أجمع المؤرخون على أن المدارس الغربية كانت تدرس كتب علماء المسلمين قرونا عديدة، وهذا دليل على أن التفاعل بين الثقافات من أعظم الوسائل لتنمية الحضارة الإنسانية، فأنت حينما تقف على ما قاله علماء الغرب من إشادة في حق علماء المسلمين يتأكد لك صدق ما أشرنا إليه من تفاعل الثقافات، فمن ذلك قول جورج سارتون: "إن ابن سينا أعظم علماء الإسلام ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين "، أما محمد بن الحسن المعروف بابن الهيثم فإن أحد كبار الباحثين من العلماء الأمريكيين قال عنه: "إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله "، ويقال مثل ذلك في عدد كبير من علماء المسلمين.
فالاعتماد على إرضاء العواطف والتعصب الشديد يؤخر الأمم، لذلك كانت أقوالنا وضجيجنا أيام أحلامنا بالوحدة العربية، دون أن نتنبه ألى أن أموراً عظيمة خطيرة تترتب على ما ندعو إليه من وحدة عربية، وقد كان علينا أن نقوم بدراسة ذلك دراسة مستفيضة، ثم نسير بعد ذلك في تحقيق أحلامنا بصورة تدريجية، لكي يكون ما ندعو إليه من وحدة عربية، قائما على أسس راسخة وقواعد متينة، ذلك ما لم نفعله مع كل أسف لذلك انهار كل ذلك النشاط الواسع والآمال العريضة، وانصبت علينا خيبة أمل، كانت دون مبالغة كالزلزال، والمصيبة حقا أننا حتى الآن لم نتقدم خطوة في الطريق، علما بأن الطريق إلى تحقيق آمالنا طويل يكتنفه كثير من المصاعب.