مختارات من:

عمر بن قينة وفتحية أحمد

المحرر

لايزال يهيل خطاه عبر المسير الطويل في ظرف تاريخي صعب وشاق.. ولايزال يعاني صداع المتاهة.. ووجع الحاضر المكدس بأعباء الغربة وصدمة الارتداد الآثم. إنه الدكتور (عمر بن قينة) أستاذ محاضر بجامعة الجزائر ـ قسم اللغة العربية وآدابها ـ وعضو اتحاد الكتاب الجزائريين. نهض بالتأطير والتنسيق للجنة العلمية في اللغة والأدب في أول شهادة تبريز بالجزائر (1992 ـ 1996). يكتب في أهم الأنواع الأدبية مقالة وقصة ورواية ونقدا أدبياً .. فضلا عن الإنتاج المتخصص في البحوث الأكاديمية والدراسات الأدبية. كرمته الجامعة الجزائرية أخيرا لمجموعة إسهاماته الفكرية.. كما رشحته لجائزة الملك فيصل العالمية في أدب الرحلات. له في القصة (جروح في ليل الشتاء) وفي الرواية (مأوى جان دولان) ومن الدراسات (صوت الجزائر في الفكر العربي الحديث) و (في الأدب الجزائري الحديث) و (الرحلة الجزائرية في الأدب العربي الحديث) و(الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية المعاصرة). وقد حاورته الصحفية الجزائرية فتيحة أحمد.

* قلتم مرة إن الكتابة في ظروفنا أي في الظروف التي تمر بها الجزائر أضحت ضربا من المعجزة. بل هي البطولة بعينها.. لكنكم أخيرا تقرون بأننا نجتاز مرحلة للخروج من الإحساس بالإحباط ونكران الجهود إلى مرحلة جديدة?

ـ في الحقيقة مازلت عند موقفي الأول في تحليل انعكاسات الوضع على الكاتب بشكل خاص, كما لم أفقد الأمل. ظروف الجزائر بشكل عام ومنذ بضع سنوات هي ضد الكتابة. الواقع المادي والاجتماعي الطاحن وقيمها الرخيصة.. الواقع السياسي والموقف السلبي من الثقافة بل العدائى, انسداد قنوات الرأي, الضغوط النفسية والفكرية وحتى المادية بكل وجوهها تجعل الكتابة تحديا للواقع وتجاوزا له.. ووصف ذلك بالمعجزة والبطولة ليس مجازا. كل شيء ضد الكتابة, ضد الثقافة والمثقف, وضع الكاتب نفسه يرشحه للزهد تماما في القلم والورق ومع ذلك فهو يتحدى واقعه الشخصي فينسى آلامه ويؤجل آماله, كما يتجاهل كل قوى الشر التي تعاديه بشكل ضار سياسيا واجتماعيا منذ اثني عشر قرنا على سبيل الحصر والتحديد لا التعميم.هذه البطولة لم يعلنها (هواي) أو (عبقريتي) وأرجو أن تحصر الكلمتان بين قوسين. وإنما اعتراف من أصدقائنا في الغرب وإخواننا في الشرق, فهذا الصديق الألماني الذي غادر معي مدرج الجامعة إلى طاولة مقهى قالها وهو يجيل النظر حوله وقد أدرك واقع بعض المثقفين, خصوصا وهو مشغول بإعداد أطروحة عن الأدب الجزائري, وهذا الأخ العزيز الصديق الأستاذ في جامعة خليجية لم يتحفظ فيها وهو يخبرني بوصول كتابي إليه, ولايزال ذلك ضربا من المعجزة. لايزال بطولة, لكن الإحساس الشديد بالإحباط الضاري له محطات يخيل لك فيها أن الآفاق سدت في وجهك فتأخذ بقايا أمل يتلاشى, غير أن نزوات السياسة والسياسيين تحاول أحيانا أن ترفع ما أفسد الدهر فنشعر أن هناك عودة وعي ناضجة آخذة في التبرعم لتعطي القوس باريها, ويرفع الحصار عن الكلمة, ويعاد الاعتبار لروادها, ويرفع الغبن عن رجالها, فينتعش الأمل مقرونا بدفعات جديدة من التحدي, وقودها إيمان راسخ بضرورة التجاوز, وضرب البرك الآسنة, كما فعل أجدادنا عبر اثني عشر قرنا. ولا أكتمك أن كلامي عن الخروج من مرحلة الإحساس بالإحباط هو قناعتي, فبرغم طبعي غير المتفائل فإنني في مثل هذه الحالات لا أقطع خيوط الأمل, هذه القناعة شعرت بأنها على وشك التجسيد على الواقع من خلال حركات مسرحية مثلها مسئولون, فشعرنا أن القوم أدركوا خطأهم في حربهم المعلنة سرا على الثقافة, وهم بصدد مشروع ينهض به رجال الثقافة لا سماسرتها والمتدثرون بها إفكا وبهتانا, لكن سرعان ماتحدث الانتكاسة في نفوسنا التي لاتجردنا من الإيمان ببديل أفضل, فبقدر مالعنت هذا الزمن الذي تكرم فيه الراقصات ويهجر المثقفون و (يغيبون) ولتكن هذه بين قوسين لمدلولها السياسي, ابتهج لكل مبادرة تشعرني بأننا لسنا ماضين في تجاهل تاريخنا وثقافتنا ورجالنا أملا في أن نكفر عن لعنة اثني عشر قرنا من عداء الثقافة والمثقفين وإعطاء الكلمة للمثقف وتثمين الثقافة واعتبارها, فتغييبها سر كل أزماننا, بل أزمتنا الطاحنة هي في الأساس أزمة ثقافية نجمت عنها كل المصائب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسواها, ولن أطلق الأمل في خروج الجزائر من (لعنة) قذفتها فيها قوى الشر, وبرغم الإحباط فأنا أكتب, فحين شرف صوتك في البيت عبر الهاتف كنت في سعي بين داري نشر والجامعة, وحين رن هاتفك للمرة الثانية ليلا بالبيت كنت أعيش خلوة عزيزة لذيذة مع الورق والقلم على مكتبي, فنحن نواصل المعجزة ونضرب البرك المتعفنة ولو من وراء الحدود ليورق الأمل الزاهي في جزائر الحب والمودة والوفاء والعطاء.

ثقافة غازية.. وحضارة مغزوة

* كرمتكم الجامعة الجزائرية أخيراً لمجموع إسهاماتكم الأكاديمية, فكيف استقبلتم هذا التكريم? ثم ماذا يضيف التكريم للباحث الجامعي في زمن تكاد تنعدم فيه سبل البحث العلمي عندنا?!

ـ لا أكتمك أنني استقبلت هذا التكريم بسرور, والمصدر الأول لهذا السرور أن التكريم قررته نخبة من الجامعيين, رائدها الموضوعية والإنصاف وتقدير الجهود الجادة ذات الإضافة النوعية والكمية منهجا ومادة, مما يشعر معه المرء أن الجامعة لم يصادر دورها نهائيا, لذا ابتهجت بذلك سيما وأنني رفضت سنة (1987) أن أرافق الذين هرعوا لجوائز قررتها مآدب سياسية وجهات خفية, فوقف (شخص) لم يقدم شيئا إلى جانب من أفنوا العمر في العطاء, فكانت المهزلة المضحكة. وكل مادخلته السياسة أفسدته, وكتبت يومئذ للتنديد فرفض نشر ماكتبت في زمن صوت الحزب الواحد. إذن من مصادر السرور هو أن يعود كل أمر لأهل اختصاص فأملنا دائما كبير في محيط ثقافي صحي, تقدر فيه جهود العاملين ويشجع الجادون وترعى المواهب المختلفة من بداية الطريق, ليس في البحث الأكاديمي فحسب بل في الإبداع الفني والفكري والأدبي, وهو مالانزال بعيدين عنه بفعل أشياء كثيرة, أصل الداء والبلاء فيها إسناد الأمور لغير أهلها, بعدما بات يتحكم غالبا ولاء حزبي أو قبلي عشائري, لاشعور وطني وحس حضاري, وهذه إحدى الآفات الاجتماعية السياسية الفكرية في حياتنا الوطنية التي تنخر جسم الوطن, أما أثر التكريم, فهو شديد معنويا, بالنسبة للباحث الجامعي, يدعمه في موقعه في ألا جدوى من وجود (جامعي) من دون بحث أكاديمي, فلك الحق, إذن هنا في ذلك انعدام محبط للبحث الصحي, فالحديث عن (البحث العلمي) وانعدام الشروط الموضوعية التي تتيح للباحث أن يعمل بحب وإخلاص وأن يكون لعلمه مردود ملموس ذو جدوى وطنيا وإنسانيا, وجامعيا وشخصيا أيضا, فالشروط الموضوعية المختلفة مسخرة كلها للسياسي والحزبي واليهاغوجي المهرج وقد صودرت من الباحث في مسار تهميش الثقافة والعلم مما انتهى بصعاليك إلى أن يكونوا (سياسيين) على حساب قيم أمة ومسارها الحضاري ودورها حتى في استثمار ثورتها العظمى (1954 ـ 1962) ثورة القرن العشرين. ففي محيط كهذا يبقى البحث العلمي جهادا حقيقيا وتضحيات جسيمة يقدمها الباحث الجامعي والأستاذ بسخاء على حساب صحته وراحته.

صوت الجزائر

* تنوع إنتاجكم ما بين القصة والرواية والمقالة الأدبية والمقال النقدي, فضلا عن البحوث المتخصصة الجامعية, وكان من بين أهم ما أسهمتم به كتاب (صوت الجزائر في الفكر العربي الحديث) فهل لنا أن نعرف ملامح هذا الصوت وكيف نساهم في بلورة الفكر العربي, وهل من حضور له في مجمل ماقدمه رجال هذا الفكر عربيا من مثقفين وأدباء وكتاب?

ـ مارست بعض هذه الأنواع الأدبية قبل أن أكون طالبا في الجامعة, ومعظمها مع المرحلة الجامعية أما الرواية كمشاريع قديمة أو جديدة, رأت أولاها النور آخر الثمانينيات, وقد شرع البحث يجتذبني في فترة مبكرة و (صوت الجزائر) يندرج في هذا السياق, ملامح هذا الصوت الواضحة في هوية الجزائر الحضارية وقوفا في وجه الهيمنة الأوربية, ودفاعا عن الإسلام والعربية, وسعيا لتأكيد دورالجزائر الفاعل في مسيرة التاريخ العربي والفكر العربي, فبدا الصوت هنا قويا صامدا واضحا جريئا بالكلمة الصادقة المسئولة تاريخيا وحضاريا والموقف الثابت, ضخ اللحظات الأولى للصدام الحضاري سنة 1830 بين ثقافة غازية أو حضارة غازية هي الحضارة الأوربية لكن بوجهها السلبي الشرس عسكريا ودينيا, وحضارة (مغزوة) هي الحضارة العربية الإسلامية في (الجزائر) التي استماتت في الدفاع عن هوية الجزائر الحضارية متموقعة في خطوط دفاعية, العربية لسانا والإسلام عقيدة حاول الاحتلال الأوربي الفصل بينهما, كما يحدث الفصل بين روح وجسد, ليسهل الإجهاز على الفريسة, ملامح الصوت إذن هي المقاومة للإبقاء على الروح (الإسلام) في الجسد (العربية) و (العروبة) كثقافة توحيد وبناء. أما الشق الثاني من السؤال فيغريني بالكلام ساعات لايتسع لها نهار, ولاحتى يوم كامل, لأن الحضور الفكري الجزائري المؤثر عربيا بدا فاعلا منذ القرون الإسلامية الأولى حتى اليوم, فالفقيه الشاعر (بكر بن حماد التيهرتي) الذي عاش في الفترة (200 ـ 296هـ) انتقل من الجزائر في مطلع شبابه إلى (تونس) والشرق العربي, فمارس التدريس والرأي في (القيروان) وكان له صوته في (بغداد) هويته (الوطنية) لسانه (العربية) وعقيدته (الإسلام) عنصر انتماء وتبقى صيغة سؤالك تحث على الحصر وتربطني بكتابي صوت الجزائر في الفكر العربي الحديث, هذه البلورة حديثة والحضور كان قويا منذ السنوات الأولى في النهضة الحديثة, فأسهم المفكر الجزائري في النهضة العربية بالمشرق, من هؤلاء من ضمهم هذا الكتاب نفسه الذي كنت على وعي تام في العلاقة بين (عنوانه) و(مضمونه), خذي لك من الأولين عالمين مفكرين أدبيين أولهما (محمد بن العتابي) المولود سنة (1775م) المتوفى سنة (1852م) والثاني (طاهر الجزائري) المولود سنة (1852) المتوفي سنة (1920هـ), فكان لكليهما حضوره تم تأثره وتأثيره بعمله وعلمه وتأليفه, فالأول كان يتولى منصب القضاء الحنفي في (الجزائر) أثناء العهد العثماني, ولسوء تفاهم بينه وبين (حسين باشا) أقام في مصر بعد حجه سنة (1236هـ) فحضر إليه لكن الجزائر سرعان ماسقطت في أيدي المحتلين الفرنسيين بعد ذلك بنحو سنة (1246هـ / 1830م) فنفى القائد العسكري الفرنسي (كلوزيل) الشيخ (ابن العنابي) الذي اختار مصر فتولى في الإسكندرية منصب الإفتاء الحنفي في عهد محمد علي الذي قدم له ابن العنابي كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) مقترحا نظاما سياسيا إسلاميا يقوم على إجراء العدل ومراعاة الضعفاء في الأمة والنهوض بإمكاناتها والإعداد الجيد للجيوش مع الاستفادة من إمكانات الغرب مما لايضر بالإسلام, هذا وتجاوزت مؤلفاته خمسة عشر عنوانا في مقدمتها الكتاب السابق الذكر. أما الثاني من المفكرين الجزائريين ذوي الحضور المبكر عربيا فهو (طاهر الجزائري) الذي كان ثالث ثلاثة في نهضتنا الإسلامية الحديثة مع (جمال الدين الأفغاني) و (محمد عبده) وقد أسهم في تكوين رعيل من تلاميذه في (سوريا) قام بعضهم بعبء الدولة العربية الفتية ويؤسسون نواة الجامعة السورية ويقيمون مجمعا للغة العربية يرأسه أحد تلاميذه وهو (محمد كرد علي) وبقي للرجل أثره عربيا ومؤلفاته التي بلغت نحو عشرين عملا أهمها مطبوع. وهذا الحضور الفكري عربيا مع أصوات جزائرية أخرى مثل (ابن باديس) و (محمد البشير الإبراهيمي) و (مالك بن نبي) و (الفضيل الورثلاني) و (العنسيري), فكان عطاء هؤلاء ثريا, مواقف وأفكارا وإنجازات فكرية وأعتقد أنك لاتطلبين توسعا فيها, وكان ذلك كله يصب في مجرى الدعوة إلى النهوض العربي الإسلامي سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا أي حضاريا في النهاية.

ملاحظات في ملفات المخابرات

* لن نعود بالحديث ثانية عن وزن علماء الجزائر في المشرق العربي, وأن المسألة ضمن عنوان آخر كتاب أصدرتموه, لكن هل لنا أن نعرف اليوم واقع علاقاتنا مع ذات المشرق?!

- سؤالك يعيدني بطريقة غير مباشرة إلى لعنة التاريخ التي جعلت الثقافة في (الجزائر) تحت الحصار, حظها ورجالها المعاناة النفسية والمادية والاجتماعية, لكن حالهم تتغير تماما حين يحلون إقطارا أو أوطانا أخرى, ليس في الوطن العربي فحسب وإنما أيضا في أوربا وأمريكا, هذه الأخيرة غير معنية بسؤالك, ولم أعالجها بالنسبة لكتابنا ومكانتهم في الشرق العربي ينبغي الإقرار بما يلي: أنه رغم مظاهر من أمراض (الحسد) المحدودة في قطر أو قطرين عربيين ربما فإن المشرق العربي لم يبخس رجالنا حقهم في الاعتراف والإجلال. فكتابات ابن باديس كان يستقبلها إخواننا في سوريا والقاهرة بحرارة مثل تونس والمغرب. تاريخنا يقول أيضا إن المثقف أو الأديب الجزائري كانت هويته في لسانه وعقيدته فإن جحده حقه وطنه (الجزائر) لقي الإكرام في سائر أقطار الوطن العربي, كان هذا في زمن الطهر وصفاء السرائر, أما اليوم فالسياسة هي الشر فلم يعد جواز السفر لغتك العربية وعقيدتك الإسلامية, بل جواز سفر وتأشيرة وملاحظات في ملفات المخابرات. والملاحظ أن الأدب العربي هنا أخذ ينحو نحوا إقليميا لاتكامليا وهذه نقطة أحسب أن تفاصيلها ستبعدنا أشواطا عن طبيعة السؤال.

محطات الاختلاف والتلاقي

* لكي لا نبعدكم كثيرا, نعود لنغوص بكم في قضايا أدبنا الجزائري لنسأل, إلى أي مدى يمكننا رصد منطلقات وآفاق الأدب الجزائري عبر مراحله بموازاة الأدب العربي المشرقي, وما هي أبرز محطات الاختلاف والتلاقي?

ـ منطلقات الأدب الجزائري هي منطلقات أي أدب في قطر عربي آخر, منذ القرن الثاني الهجري, مرورا بعصر الانحطاط. فالمنطلقات واحدة كما تكاد تكون الانعكاسات واحدة مع اختلاف فقط في المستويات, وهي السمة التي استمدت حتى عصر النهضة, سواء في استلهام التراث وإحيائه في الوطن العربي أو في الاحتكاك بالغرب سلبا وإيجابا, يبقى الاختلاف هنا بين الأقطار العربية في وتيرة التفاعل حديثا, فهي في الآداب مثلا متقدمة في الشرق عن المغرب.من محطات التلاقي المواجهة للاستعمار الأوربي, بعد معاناة آثار العصور الوسطى, الهم الوطني بعمق حضاري, مع بعض الاختلاف الجزئي الذي يتم فيه تحييد العامل الديني في مواقع من شرقنا العربي. ثم هناك وصف آثار الاستعمار الأوربي في الأقطار العربية, فالحال في (مصر) في بعض فتراتها لايقل عن (سوريا) لكنه يتأزم في الجزائر إلى أبعد الحدود, حتى نشأ عندنا في النهاية مايمكن تسميته في الأدب الجزائري بديوان الثورة (1954 ـ 1962), ولم يتأخر الأدباء العرب في ذلك من كل الأقطار العربية فكتبوا عن الثورة الجزائرية في عنفوان مواجهتها النهائية ـ عسكريا ـ للاحتلال الفرنسي. يضاف إلى محطات التلاقي هذه وغيرها التطور الذي حدث في الأشكال الأدبية وأنواعها, فتقاربت الفترات بين قطر عربي وآخر مع تأخر نسبي في بعض الأنواع بالجزائر ويندرج ضمن هذا تاريخ نشأة بعض الأنواع الأدبية قديما وحديثا مثل المقامة, الرحلة, القصة القصيرة, الرواية, المسرحية, الخاطرة, المقالة الصحفية والسياسية والأدبية, والنقد وتياراته, ومناهجه الحديثة وصلاتها بالمناهج القديمة واستفادتها من المناهج الغربية.

(ألبير كامو) و (كاتب ياسين)

* في كتابكم (في الأدب الجزائري الحديث) محاولة لتأريخ جوانب أساسية من الحركة الفكرية والأدبية في الجزائر من (1830 إلى 1862), فهل من صورة عن هذه المحاولة, ثم ما مدى التقهقر الذي عرفته الرواية في الآونة الأخيرة على صعيد النشر?

ـ بالنسبة لكتابي فهو كما تقولين محاولة لتأريخ جوانب أساسية من الحركة الفكرية والأدبية في الجزائر من (1830 إلى 1962) مع فصل آخر عن الرواية بعد (1973) فتعرضت للحركة الفكرية والشعرية والأدبية بمختلف أنواعها, انطلاقا من النصوص الأولى نثرا وشعرا في مجابهة الاحتلال الفرنسي, أو حتى تلك التي باع أصحابها ضمائرهم له, لكني ركزت على الشعر فقسمته إلى أربع مراحل, آخرها مرحلة النهوض الفكري ببعده الإصلاحي والنضالي والثوري منذ عشرينيات هذا القرن حتى (1962), فهناك إذن باب من ثلاثة فصول عن الحركة الفكرية والأدبية من (1830 إلى 1920) وباب ثان عن الحركة الشعرية (1920 إلى 1962) ثم باب من فصلين عن الرحلة والرحالين في النثر الجزائري, وباب رابع عن القصة القصيرة. فتتبعت بذورها الأولى من (1808) إلى نشأتها الناضجة مع بداية الخمسينيات من هذا القرن, أما الباب الخامس فكان عن الرواية التي عدت بها إلى أول محاولة في (1848) حتى النشأة الفنية في السبعينيات وهنا أصل إلى النقطة الثانية لأقول إن التقهقر لم يصب الرواية فحسب, بل أصاب كل الأنواع الأدبية من دون استثناء, ربما وراء السؤال تلك الصورة من التدفق في النشر للرواية حتى منتصف الثمانينيات أو قريبا من نهايتها, لأنه تدفق يعبر عن توجه نحو أدب صار يحوز اهتماما حتى في السينما, لكن ظروف النشر شلت كل شيء بما في ذلك الرواية ,والنماذج التي صدرت في مطلع التسعينيات رأت النور في القطاع العام بصعوبة وهذا أمر غير مفصول عن واقع سبق الحديث عنه, وشخصيا لي رواية مصففة وجاهزة للطبع لكنها حبيسة الأدراج في مكتبي, هذا يعني أن عدم النشر في الرواية مثلا لايعني عدم الكتابة, إلا بالنسبة لذوي العلاقات بالقطاع الخاص. الكتاب السابق ذكره منذ حين ماكان يكتب له حظ النشر لو لم يقل تقرير (الخبرة) لدى (لجنة النشر) إن الكتاب مفيد للطلبة والباحثين, فنشره ديوان المطبوعات الجامعية واثقا من الربح لا من الخسارة!

الازدواجية اللغوية

* الازدواجية اللغوية في الجزائر, لم تقف عند حدود المجالات العامة, بل تعدتها إلى الشعر والأدب والفكر, فما وجهة موقعها في الحركة الأدبية الجزائرية, ومامدى تموقعها في راهن الأدب الجزائري?

ـ الازدواجية من (اللعنات) التي تميزت بها الجزائر من آثار الدمار الذي تركه الاحتلال الفرنسي, وهو الاحتلال الذي أصاب الجارتين, (تونس) و (المغرب). لكنه لم يترك فيهما من التمزق والعداء للثقافة العربية لدى فئات معينة كما تركه في (الجزائر). وللعلاقة الوطيدة المعروفة بين اللغة والفكر والحضارة, جعلت الكاتب الذي يكتب بالفرنسية يفكر فرنسيا, حتى ولو كانت (بطاقة الهوية) جزائرية, فتساوى هناك (ألبير كامو) مع (مولود مهدي) و (كاتب ياسين) من حيث الانتماء, فهذان الأخيران كتبا عن الجزائر والجزائريين كما كتب الأول ودون (فرانز فانون) في الوقت نفسه برغم ذلك قام هذا الأدب بدور ما بالمقارنة مع ماقام به الأدب العربي الجزائري أثناء النضال الوطني, ثم الثورة المسلحة وكان وجود هذا الأدب قبل الاستقلال أمدا مقبولا للوضع, أما اليوم فلم يعد معقولا, وقد نصح المفكر الفرنسي (جاك بيرك) كتاب الفرنسية في المغرب العربي كله بمباشرة الكتابة باللغة العربية معلنا أنه لامستقبل لأدب يتخذ لغته الفرنسية في وطن عربي إسلامي, أبناؤه يتكلمون العربية, لكن كتاب الفرنسية في الجزائر لايسمعون فـ (مالك حداد) ـ رحمه الله ـ حين وجد نفسه سجينا داخل لغة الاستعمار صمت بعد الاستقلال وعانق (بوجدرة) الكتابة بالعربية ثم (ارتد) نحو الفرنسية أخيرا من منطلق تجاري في (فرنسا), والآخرون حتى ممن ولدوا مع الاستقلال يصرون على الكتابة بالفرنسية وهم مقروؤون في (فرنسا) لا في (الجزائر) ووجود هذا الأدب المكتوب بالفرنسية في الجزائر لايختلف عن الأدب الألماني والإنجليزي في معاهد اللغات الأجنبية بالجامعات الجزائرية, ولا علاقة له بصفة (الأدب الجزائري), أدب الأمة ماكتب بلغتها, وهذه هي نظرية المدرسة الفرنسية في الدراسات المقارنة, كما هي نظريتنا العربية, فما كتبه بالعربية أدباء فرس هو أدب عربي, فإنتاج (ابن المقفع) عربي, وبالضرورة فإن إنتاج (كاتب ياسين) و (مولود مهدي) فرنسي, فلا تعجبي والحالة هذه أن تجدي من كتاب (الفرنسية) اليوم في (الجزائر) من يدافع عن (فرنسا) وحضارتها ولغتها أكثر من الفرنسيين أنفسهم, ويعادون في الوقت ذاته لغة أمتهم وحضارتها, وهؤلاء هم الذين أسميتهم في بعض مقالاتي بـ (حركة القلم) أي أعوان (فرنسا) بأقلامهم, وهم الأكثر خطرا من أعوانها ببنادقهم وسلاحهم. وعملهم في (الإعلام) الفرنسي في (الجزائر) من بين الأسباب التي تقطف الجزائر نتائجه تقسيطا حتى يوم الدفع الجزافي لاقدر الله!. ولقد ورد في سؤالك لفظ (تموقع) وهذا الأدب متموقع في خط دفاعي أمامي عن مصالح فرنسا في الجزائر الثقافية أولا متبوعة بالضرورة الاقتصادية والسياسية وماجرى مجرى ذلك, صغر أو كبر.

انهزامية.. وأقلام مترددة!

* ألا تشاطرون رأي من يقول إن هناك ملامح جيل أدبي جزائري جديد, يتميز بالتنوع والتمايز, ثم هل يقودنا هذا في نظركم إلى حيوية اختلاف نثري وتعمق حياتنا الأدبية على غرار ماعرفته النهضة في المشرق?

ـ التمايز والتنوع, وحتى الاختلاف الصحي الإيجابي هو بالفعل مصدر ثراء وغنى, لكنني لا أوافقك على ملامح جيل جديد, بل هناك تراجع رهيب وانهزامية باستثناء بعض الأقلام المترددة, فأنا هنا متشائم, والمسئولية لايتحملها هذا الجيل وحده بل الوضع, وانعدام سياسة ثقافية وهياكل أدبية, ماهو موجود من ذاك أشد ارتباطا بمظاهر (كرنفالية) وحياة (فولكلورية) وتجمعات سياسية استهلاكية, وخير لاسم (وزارة الثقافة) أن يزول في غياب رجال ثقافة حقيقيين مخلصين في الميدان وحضور انتهازيين متربصين بالفرص والمآدب والمغانم, فإذن نحن أبعد مانكون تطلعا وحيوية عن واقع النهضة, وهنا الظاهرة ليست وقفا على الجزائر بل تشاركها فيها معظم الأقطار العربية, برغم بعض الحيوية التي نراها في أقطار خليجية مثل (الكويت) و (الإمارات) و (قطر).

* تتطلع الساحة الثقافية الجزائرية إلى الآفاق العربية الواسعة, هل ترون أنه بإمكان أدبائنا أن يحتلوا موقعا في الواجهة العربية?

ـ هو تطلع مشروع وصحي, وينبغي تشجيعه لما يسهم به في توثيق الروابط الثقافية وتكاملها, وبإمكان الأديب الجزائري أن يقدم هنا إضافة نوعية, كما فعل أسلافه ممن ذكرنا, مثل (المقري) و (طاهر الجزائري) ويبرهن عن إمكاناته, لكن الذي يلاحظ علينا أننا لسنا (سباقين) لربط هذه الأواصر, لسلبية فينا, لدرجة أنك ترين في تجمع فكري ذي مستوى جامعي تحضر معظم الأقطار العربية وتغيب عنه (الجزائر) وهنا تبرز المشكلة ذات الرءوس الأفعوانية, وفضلا عن المشاكل السياسية, هناك العراقيل الإدارية في الجزائر التي تضيق على الجامعي الباحث وتحرمه حتى من تذكرة سفر للالتحاق بملتقى فكري باسم (الجزائر) بينما تمنح كل التسهيلات لسياسي يذهب في مهمة ساعة ليقضي أسبوعا يعربد بأموال الدولة الطائلة والأمة, هذا واقع لا نخفيه, فالجميع يعرفه و (من كتم داءه قتله) وداؤنا الأول: كل شيء من السياسة وإلى السياسة وفي خدمة السياسي كبر أو صغر, وحاشيته ضاقت أم امتدت.

المحرر مجلة العربي ابريل 1997

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016