مختارات من:

الدراما العربية.. سؤال الارتقاء بذاتها وترقية المجتمعات والمدن

إبراهيم غرايبة

تقدر الأعمال العربية الدرامية (المسلسلات) التلفزيونية التي بثت في شهر رمضان للعام الماضي بحوالي مائتي عمل، نتحدث عن حوالى بليون دولار أنفقت على الدراما هذا العام، وعلى الرغم من ذلك فإنها أعمال يغلب عليها أنها لا ترقى إلى التعبير عن متطلبات المدن وحياتها وتشكلاتها، وهي الفلسفة الأساسية المفترضة للدراما والرواية في الحياة المعاصرة، وهذا هو السؤال الملح المفترض أن يشغل اليوم المهتمين بالثقافة العربية، لماذا ننفق كثيرا ولا نحصل على ما ننتظره من الأعمال الروائية والدرامية؟ كيف ترقى الدراما العربية إلى المستوى المأمول والمنتظر منها لتلبي تطلعات المشاهد العربي والمدن العربية إلى عمل جميل، يضيف إلينا أشياء ومعاني جميلة تحسن حياتنا وتمنحها جمالا وقدرة على تطوير وتجديد مواردنا؟

لقد تحول شهر رمضان إلى موسم الإنتاج الدرامي في الوطن العربي؟، فالمسلسلات يجرى الإعداد لها على مدى العام لتبث في رمضان، ولم تعد تصدر مسلسلات جديدة في غير رمضان، وفي الوقت الذي تزدحم فيه الشاشات العربية بالمسلسلات الجديدة، فسوف يمضي المشاهد بقية العام بلا فرصة لمشاهدة مسلسل جديد، وسوف تنحصر فرصته في عملية الاجترار التي ستمارسها المحطات التلفزيونية ليشاهد مسلسلا لم يتح له مشاهدته في رمضان.

وبسبب هذه الظاهرة الرمضانية أصبح من المتعارف عليه ألا يقل عدد حلقات أي مسلسل عن 30 حلقة على الأقل لتناسب طبيعة الموسم الرمضاني، فيغلب على المسلسلات طابع الإطالة المتعمدة وبطء قاس في الإيقاع، ومبالغة في عرض المشاهد الفقيرة ابتداء، وتحشى بحوارات وأفكار ومشاهد بقصد ملء الفراغ، وتسطح الشخصيات والمشاهد، لأن الخيال والتعقيد يقع ابتداء في التكثيف والبلاغة التصويرية التي يستغنى عنها لأغراض الإطالة وتقليل التكاليف، ولأن العمل الروائي الذي يحتاج التعبير عنه إلى جهد درامي وإخراجي استثنائي ومكلف يصبح لا يصلح، فيستغنى عن الأعمال الروائية الناجحة والقوية ليكون البديل اختيار أعمال لم تخضع للتنافس ولا جربت في سوق النشر والتوزيع والقراءة، بل وتكتب وتصاغ على النحو الذي يبسط عملية الأداء والتصوير والإخراج ويقلل تكاليفها إلى الحد الأدنى.

وبسبب ضغط العمل والوقت فإنها غالبا ما تكون قد أعدت على عجل اعتمادا على قبول المشاهد بكل ما يعرض أمامه أو يفرض عليه، مما جعل الدراما تعرف أقزاما وجهلاء لا علاقة لهم بالأدب والفن سوى العلاقات الرسمية والشخصية.

هذه المقدمة لا تنفي أن الدراما العربية تتضمن إيجابيات كثيرة وأنها بخير وعافية وتشهد زخما كبيرا يدل عليه العدد الكبير للمسلسلات، والقدر الكبير من الأفكار والصور واللمسات الإبداعية الجديدة والتطور في الإعداد والتصوير والإخراج، واستحضار التاريخ والتحديات والتحولات الكبيرة التي تجري على المجتمعات والدول، والأفراد أيضا، وتؤشر على رغبة وإرادة لدى القائمين على محطات التلفزيون والمؤسسات الإعلامية على إنتاج أعمال درامية جميلة.

ولكن الدراما العربية التي وظفت الوحدة اللغوية العربية جيدا، واستفادت من انتهاء احتكار الفضاء، بحاجة إلى أن تجتاز قواعد التسويق الجديدة التي تفرض توقيت المسلسلات في رمضان وأن تكون ثلاثين حلقة بالتمام والكمال، وربما تحتاج إلى تحول استراتيجي باتجاه السينما لتحتكم مباشرة إلى الجمهور، وتعتمد على التذاكر والوسائط الفردية للعرض، وتكسر قاعدة الاعتماد الاستراتيجي على المحطات التلفزيونية في التمويل والتسويق، لأنها مهما كثرت لن تكون سوقا ينشئ تنافسا وعرضا وطلبا يطور الدراما ويجعلها تحت المراقبة والاختبار.

الإرهاب كنموذج درامي

ربما يصلح «الإرهاب» مثالا أو حالة دراسية لملاحظة السلوك الإعلامي والتسويقي للدراما العربية ومحاكمة الفلسفة والرؤية المحركة لهذه الأعمال، فقد احتل الإرهاب مساحة واسعة من الدراما، وربما كان للمرة الأولى المحور والموضوع الأساسي الذي يدور حوله مسلسل طويل، لكن اللافت أن الدراما العربية في معالجتها للإرهاب ومكافحة الإرهاب لم تخرج عن أساليب تسويق الشامبو والعطور، فتقديم الإرهاب على هذا النحو المبسط وفي هذا السياق من التعامل الإعلامي والدرامي والاستخباري مع ظاهرة الأصولية والعنف يكاد يندرج في حراك الإعلام والسياسة ودوامة الاستدراج والتضليل التي تتحول إلى دائرة لا يعرف لها بداية ولا نهاية، فيغرق الناس في موجة من المعالجات والصور والأخبار والتحليلات والمقابلات والتحقيقات والمعلومات، والتي تكون في قدر من الضخامة والتكرار لا يعود أحد معها قادرا على الفرز والتحليل والتمييز بين المهم والأقل أهمية وعديم الأهمية.

وأقتبس هنا للتفكير والتأمل جزءا من دراسة للفيلسوف الفرنسي جان بودريار للإرهاب، فهو يقول: «نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث وإن ارتكبها (هم)، وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك».

الحادث برأي بودريار يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجج تفاقم القوة الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص. فالغرب وقد تصرف كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريا ويعلن الحرب على نفسه، وقد كان انهيار برجي مركز التجارة تواطؤا غير مرتقب.

فالنظام الذي وضعته هذه القوة العالمية هو الذي أنشأ الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت، وباستئثاره على كل الأوراق فإنه يرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة، فهو رعب مقابل رعب، ولم يعد هناك أي بعد أيديولوجي، فقد أصبحنا بعيدين عن كل أيديولوجيا وسياسة. فالطاقة التي تغذي الرعب لا تعبر عنها أيديولوجيا، ولا أي قضية، ولم يعد الأمر منوطا بتحويل العالم كما تهدف الحركات الأيديولوجية، ولكن نظام القوة العالمي المهيمن هو الذي يهدف إلى ذلك، ولو كان الإسلام مسيطرا على العالم لنشط الإرهاب ضد الإسلام، ذلك أن العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون يعبرون عن كل واحد في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة.

إن الدراما العربية ابتعدت عن محاولة الفهم العميق للظاهرة، وشغلت بالمخاطبة الدعائية للجمهور على نحو لا يخرج عن أسلوب الأصوليين أنفسهم، فكلاهما رؤية أحادية لا تريد رؤية المشكلة وفق الأسئلة الحقيقية المكونة لها، ولا تناقش وترجح الإجابات الكثيرة المعقدة والمتفاعلة.

هل الإرهاب والعنف عملية استجابة ميكانيكية لنصوص يساء فهمها أو تفهم فهما صحيحا؟ هل تفسر مقولة رد الإرهاب إلى هوس وتطرف ديني الزمان والمكان في الإرهاب، فهي نصوص موجودة منذ ألف وأربعمائة سنة، وتنطبق على مجتمعات وأمكنة لا يدور فيها إرهاب، وتتجنب دولا هي أجدر بالعنف وفق منطق النصوص الذي يقدم على أنه يفسر الإرهاب.

خواء ثقافي

وعودة إلى الفكرة الأساسية التي تحاكم الدراما بعامة وهي استجاتبها لتشكلات المدن والمجتمعات، لماذا لا تتشكل حياة ثقافية ملائمة، على الرغم من الإنفاق الهائل، وتلائم الوعي المطلوب للذات؟ لماذا تظل التشكلات الثقافية كما هي قبل عقود من دون ملاحظة التحولات الكبرى التي دخلت فيها المدن والمجتمعات؟ لماذا لا تشدنا إليها بالمعنى الذي يضيف إلينا شيئاً جميلاً جديداً أو تحسن حياتنا؟

هذا الخواء، أو الفجوة بين المدن والأعمال والموارد وبين التشكلات الاجتماعية والثقافية حولها ربما يلخص أزمة الطبقات الوسطى وأزمة الإصلاح أيضاً في الدول والمجتمعات العربية، ففي غياب هذا الوعي لما تريده المجتمعات وللفرق بين واقعها وبين ما تريده يخيم الخواء، وتفقد المجتمعات وجهتها في مطالبها وما تسعى إليه وما تــريد أن تحققه، بل لا تميز في سعيها ومطالبها بين ما هو متحقق بالفعل وبين ما تريد تحقيقه.

نشأت الرواية والمسرحيات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية والسينما والدراما باعتبارها تشكيلاً اجتماعياً وثقافياً اقتضته عمليات التمدن ونشوء المدن وتطورها، وعلى مدى التاريخ.

ففي جميع الحضارات كانت مجالس المدن الخاصــة والعامة، المتواضعة والأرستقراطية تقوم على الحوارات والبرامج الأدبية والفنية والسياسية، ذلك أن المدن تقوم على طبقات من المهنيين والمثقفين وأصحاب الأعمال وقادة الحكم والإدارة والمؤسسات العامة والتجارية، وتتشكل علاقاتهم الاجتماعية بناء على الأعمال والقيم والأفكار والمصالح المشتركة، ففي الأندية والمقاهي والبيوت تكون الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والسياسة هي المجال المشترك للأصدقاء والجيران والزملاء الذين لا تربطهم ببعض روابط القرابة، وتنتمي معرفتهم ببعض إلى الحياة المدينية والعملية المشتركة، وفي الفضاء المشترك والمزدحم يتشكل السكون والخصوصية والثراء الروحي والاجتماعي بالفردانية.

بهذه «الفردانية» يحمي أهل المدن أنفسهم من الخواء الروحي والاجتماعي، وفي الوقت نفسه ينشئون أنماطاً من السلوك والقيم تجعل كل واحد منهم يشعر بأن الفضاء له وحده بسبب منظومة السلوك والإشارات والرموز التي تحمي الإنسان وهو في الفضاء العام، وهنا يفترض أن تختفي إلى درجة الانقراض الأخبار والقصص الشخصية والعائلية والنميمة، لأنها تنتهك الفردية، فتكون تسلية الناس في القراءة والموسيقى والفنون والذهاب إلى المسرح والسينما والأمسيات الثقافية والفنية، وتكون المجالس واللقاءات أيضاً قائمة على هذا التشكيل الاجتماعي والثقافي ومستمدة منه.

ترييف المدينة

إن خطورة عدم التحول الثقافي والاجتماعي في المدينة بما يتفق مع هذا المسار المفترض أنه يحول حياة المدن وعلاقاتها إلى حالة من القلق والفراغ والخواء الشديد، ففي الأرياف والجيرة القائمة على القرابة والحياة الزراعية المشتركة تتشكل على نحو تلقائي مادة للتسلية والأخبار والمواضيع والاهتمامات، وفي قصص النميمة أيضاً والخلافات والعلاقات العائلية والأزمات العشائرية ثمة بيئة واسعة تشكلها من معرفة الناس ببعضهم وتداخلهم القربي والتاريخي معاً، والحياة المشتركة كعائلة واحدة لقرون من الزمان، فتكون بذاتها ولذاتها مصدراً للتضامن والتسلية وتطوير الحياة والموارد أيضاً، ولكن لا يمكن نقل هذه الأدوات إلى المدينة لأنها لا تصلح من دون شبكة من العلاقات وأنماط محددة من الإنتاج والعمل والحماية، والتاريخ الممتد والراسخ أيضاً.

إن البديل الذي تشكل بسبب الإصرار على التريّف أو عدم القدرة أو عدم الرغبة في مغادرته كان المسلسلات التلفزيونية، ففي أخبار الصبايا والشباب والآباء والأبناء والأبطال والأسلاف والأغنياء والفقراء، وفي الجمال والوسامة مجال وفرصة لإعادة إنتاج الريف نفسه على نحو أكثر سهولة ومشاركة، فجميع الناس يعرفون الأبطال والممثلين ويتحولون إلى أشخاص حقيقيين أو رمزيين مشتركين لذاكرتنا البدائية وندائها العذب الذي يصعب التخلي عنه،.. الدراما العربية - والمدبلجة عربياً اليوم - تعبر عن هذا التشكل الريفي، ولا تتجاوز النميمة وقصص الآباء والأجداد.

لكن الحياة الثقافية والاجتماعية ليست مجرد ترفيه وتسلية أو تمضية للوقت، وفي حالة انفصالها عن مقتضيات الحياة وأساليبها المفترضة فإن حلقة في سلسلة الحياة تضيع، وبضياعهــا تتعرض السلسلة نفسها للانهيار، مثل سبحة ينفرط عقدها، ذلك أن الناس في التسلية والترفيه والنشاط الاجتماعي والثقافي والرياضي وتمضية الوقت والزيارات يعيدون تشكيل أنفسهم وحياتهم وأعمالهم لتكون أفضل، ولتتغير احتياجاتهم نحو الأفضل أيضاً.

تداعيات سلبية

لنتخيل الآن تداعيات الحالة التي نتحدث عنها والتي لا يعكسها فقط هبوط الدراما، وإنما يمكن ملاحظتها في كل ألوان الخطاب الثقافي والاجتماعي لدينا، وهي «الخواء».

ما هي الثقافة المفترض تشكلها اليوم لاقتصاد المعرفة والمهن والأعمال القائمة اليوم في مجتمعاتنا وبلادنا؟ فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح والحسن وتتمسك بحاكمية المنطق على الأعمال والحياة لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون وكذا الطعام والطرق والنقل، ثم تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والانتخابات والتشريعات والقرارات والسياسات، إنها جميعها تتقدم نحو الصواب والتقدم والأفضل بناء على ما يملك الناس من جمال ومنطق، وهما (الجمال والمنطق) محصلة الثقافة المنظمة لحياة الناس والمحيطة بها، وبغيرهما لا يقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة بين الأفكار والسلع والأعمال ولا معرفة ما يريدون وما يحتاجون إليه، وما يريدون أن يكونوا، وكيف يراهم الآخرون وكيف يرون أنفسهم. فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة تتحدد بالقدرة على تصميمها وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها، وهي نهاية تقررها القدرة على الرؤية والخيال، أي الجمال، فحياتنا إذن تكون على النحو الذي نتخيله ونراه، وهي في ذلك في تقدمها وتخلفها بمقدار قدرتنا الجمالية والرؤيوية.

في غياب هذه الرؤية الجمالية يكون الخواء ليس مجرد أزمة نفسية، ولكن ذلك يجيب لماذا بقينا على مدى قرن من الزمان أسرى الحركات الشعبوية، ولم تستهونا الأفكار والرؤى الإصلاحية.

مقترحات للتطوير

هل يمكن أن نخرج في نهاية هذه المحاولة بأفكار عملية ومقترحات يمكن أن تطور الدراما العربية؟ أو تعبر على الأقل عن مخاوفنا ومطالبنا أيضا تجاه الدرما العربية؟ لنحاول...

إذا تأملنا مجال الأعمال التاريخية التي بدأت بالظهور في السنوات الأخيرة، ولاقت اهتماما من الجمهور سنجد أن ذلك جسد تطوراً لافتاً بسيادة مرحلة اتسمت بضعف بعد هذا النوع من الأعمال الدرامية.

وتتميز هذه الأعمال بالجهد المعرفي ودقة المعلومات وصحتها بالإضافة بالطبع إلى جمال الدراما والسرد واللغة في العمل التاريخي، لقد نجحت الدراما العربية نسبيا في جعل التاريخ مصدرا لأجمل الأعمال الدرامية وأهمها، ونقل الأعمال التاريخية من الحالة النمطية والارتجالية وتقعر اللغة وضعف المعلومات وتناقضها، والعيوب التي شابت معظم الأعمال التاريخية.

وفي سبيل مزيد من التجويد يمكن أن نقترح أن تقوم الأعمال التاريخية على بحث تاريخي ومراجع مناسبة وكافية، وأن يسبق كتابة النص الدرامي عملية بحث كافية، وأن يقدم العمل الأحداث والشخصيات على النحو الأقرب إلى الصواب والرؤية الأكثر قبولا وترجيحا، وألا يصادم المعتقدات والروايات التاريخية السائدة والراجحة، ولا يعتمد على الروايات المختلفة والمرجوحة إلا إذا قدم حجة مقنعة وكافية تبرر عرضها، وأن يعكس بجمالية ودقة العمل البيئة التي ينتمي إليها ويعالجها، من اللغة والأمكنة والعمارة، والمهن والملابس والأطعمة، والسلاح والأدوات والأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية والسياسية السائدة والاقتصاد والتجارة، وغير ذلك...، وأن يستخدم اللغة المناسبة وفي الوقت نفسه المحافظة على عفوية اللغة وجمالها وبساطتها أيضا، بحيث تكون مفهومة للمشاهد دون تخل عن اقترابها من واقع المسلسل.

ويجب أن يخلو النص قدر الإمكان من الإسقاطات والرؤى السياسية والعقائدية وبخاصة الرؤى والمواقف الحديثة والمعاصرة، وأن يكون النص معالجة تاريخية ومعرفية منهجية وليس تعبيرا عن موقف عصري مسبق ربما لم يكن معروفا في الفترة التي يتحدث عنها المسلسل (قومي، سلفي، مذهبي، غربي استشراقي، ...) وبالطبع فقد يصعب تجنب ذلك تماما، ولكن يمكن التقليل من النزعة الأيديولوجية في كتابة الأعمال التاريخية.

وفي سياق آخر انتشرت أيضا الأعمال الدرامية البدوية والقائمة على التراث البدوي والقصص البدوية والبيئة البدوية، ثم ظهرت أعمال يمكن تسميتها بالبدوية التاريخية والتي تعرض سيرة أشخاص وأحداثا تاريخية معروفة ومهمة ولكن في إطار بيئة بدوية، وهي وإن كانت تسمى بدوية فإنها تندرج في إطار الأعمال التاريخية وتنطبق عليها شروطها ومواصفاتها، ويجب أن تتفق حالة التزوير والارتجال والاستغفال التي يمارسها كتاب ومنتجون في هذه الأعمال، فالبداوة ليست مجالا مستباحا للتخيل غير المبنى على التاريخ وفهم الوقائع والأحداث والتراث والعادات والتقاليد.

النص العصري

وبالطبع فإن الاعمال المعاصرة هي الجزء الأكثر أهمية وحضورا في الدراما العربية، وهي تستند غالبا إلى رواية أدبية، أو معالجة لأحداث تاريخية وسياسية معاصرة أو قضايا اجتماعية قائمة، وهذه تكاد تكون المهمة الأساسية المفترضة للدراما.

يعتمد النص «المعاصر» بشكل رئيسي على رواية أو مجموعة خطوط روائية تشكل البنية الأساسية للعمل الدرامي، وستكون أهمية العمل وقيمته بمقدار أهمية النص والرواية وقيمتها الإبداعية والجمالية وملاءمتها للدراما ومعالجته للقضايا الاجتماعية والسياسية بذكاء وواقعية وإبداع، ولذلك فإن تقييم النص المكتوب يكون أكثر خطورة وأهمية، ففي حين يعتمد العمل التاريخي على الأحداث والتراث المعرفي والتاريخي فإن العمل المعاصر والأدبي يعتمد كليا على النص وما يتضمنه من إبداع وإضافة.

وفي غمرة التحولات الكبرى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي اجتاحت العالم ومنه بطبيعة الحال الوطن العربي، فقد غلب على النصوص الأدبية والدرامية المعاصرة البعد والغياب الكبير عن الواقع الجديد المتشكل، وهذا يدعو للبحث عن أفكار وشروط يجب استحضارها مسبقا للتخطيط للاعمال الدرامية ذات المحتوى المعاصر وتقييمها، فيجب أن تقوم على نص روائي جميل ومبدع يصلح للنجاح بذاته لو نشر في كتاب، ويفضل أن يقوم على أعمال روائية نجحت بالفعل.

ويفضل أن يكون المسرح الرئيس للعمل هو المدينة، فالأعمال الروائية من هذا القبيل تنشأ وتتشكل في بيئة مدنية، وليس في الريف والبادية، كما تساعد بيئة المدينة على إنشاء مشاهد غنية ومعقدة ومتداخلة، ويمكن أيضا بناء مجموعة من الشخصيات الرمزية دون مسؤولية قانونية.

ويفضل تسمية الأماكن باسمها، وأن تعكس المشاهد والأحداث بيئة المكان (مدينة، حي، شارع، مدرسة، جامعة، مقهى، شركة، ...) بدقة وواقعية، وأن يوضح النص بدقة الفترة الفترة الزمنية التي يكتب عنها، ويعكسها بأمانة وتفصيل وذكاء (العمارة، اللباس، الأثاث، الموضات، الأحداث، اللغة، العلاقات، الأفكار السائدة).

وفي معالجة الأحداث السياسية يجب ملاحظة الوقائع كما هي، والدقة في عرض الشخصيات السياسية والحديث عنها، بحيث يتجنب النص مظنة التشهير والتجريح والافتراء، ويعرض النص الوقائع والظواهر والقضايا والمشكلات كما هي وبدقة، لأنه لا يتحدث عن عالم افتراضي، ولكنه واقع يعرفه المشاهدون ومعظم الناس، وأن يلاحظ النص التحولات والمستجدات ويهتم بالقضايا المعاصرة، ويتجنب الحالات والقضايا التي انحسرت ولم تعد قائمة. ويجب أن يتمتع النص ببنية سردية وعلاقات منطقية وواقعية. يمكن عرض (على سبيل المثال) بعض القضايا والأفكار النمطية التي لم تعد موجودة، ولم يعد ملائما معالجتها لأنه أصبحت تاريخية، أو القضايا والأفكار الجديدة بفعل تطور المعلوماتية والاتصالات، ومنها:

موضوع الريف والبدو (بمعنى نمط الإنتاج وأسلوب الحياة) لم يعد لهما وجود إلا بنسبة ضئيلة جدا، فالتحضر يكاد يشمل جميع الناس اليوم في الدول العربية. مجتمع الزراعة الذي لم يعد قائماً بالمفهوم التاريخي الاجتماعي لها، فهي اليوم مشروعات استثمارية تشبة المؤسسات والمشروعات التجارية والاستثمارية، وتقوم على رأس مال وعمالة مستأجرة، وتسويق، واحتراف مهني وعلاقات تجارية، ولم يعد ثمة وجود إلا بنسبة ضئيلة للزراعة العائلية.

الفارق بين القرية والمدينة لم يعد كبيرا، بل لم يعد موجودا، ومن ثم فإن الحالة التاريخية عن تطلع اهل الريف إلى المدينة وانبهارهم بها لم تعد موجودة، كما أن تطور الطرق والمواصلات جعل الدول العربية - معظمها إن لم يكن جميعها - وكأنها مدينة واحدة، وأعمال الناس ومواردها متشابهة ومتطابقة في المدن والبلدات.
بسبب تطور التقنية والموارد والعولمة، ظهرت متغيرات كثيرة مثل العلاقات عبر الإنترنت، نشوء مهن جديدة، انقراض وتراجع مهن كثيرة، وتطورات جذرية في طبيعة الأعمال وفي العلاقات الاجتماعية وأسلوب الإدارة والعمل.
وبناء على هذه الرؤية فإننا نتطلع إلى أعمال درامية تطرح قضايا وأفكارا جديدة، وتعالج التحولات والتطورات القائمة، وتخلو من التكرار، وتتجنب الحديث عن الحالات والقضايا التي لم يعد لها وجود، وتكون على مستوى متقدم من الجودة والأصالة والإبداع.

إبراهيم غرايبة مجلة العربي يونيو 2010

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016