في سنة 1980 قام الكاتب الروائي الأسترالي توماس كينيلي بزيارة محل بيع حقائب جلدية في منطقة بيفرلي هيلز قاصدا شراء حقيبة يد هناك، وبفضل صاحب المحل ليونارد فايفربيرغ، تعرف لأول مرة: على قصة أوسكار شيندلر، رجل أعمال وصاحب مصانع من أصل نمساوي وعضو في الحزب النازي قام ما بين عامي 1939 و 1947 بإنقـاذ بضع مئـات من اليهـود عبر تشغيلهم في مصنع كبير.
اليهود النـاجون بفضل شيندلر، لن ينسوا فضل أوسكـار شينـدلر عليهم، والموضوع كـما يقول كينيلي في مقدمة كتـابه الذي صدر عام 1982 وحاز عنه جائزة بوكر الأدبية حينها، استحوذ على اهتمام الكاتب، فقام باستقصائه وكتابته، على الرغم من أن الشخصيات حقيقية والأحـداث واقعية، وعلى الرغم من أسلوب كينيلي الـذي يميل للتـوثيق، وليس للسرد الـروائي التقليدي، فإن الجائزة التي منحت إليه كانت جائزة أفضل رواية، وهو أمر محير بعض الشيء إنما تلك الحيرة لا تقف طويلا في طريق تحليل الكتاب أو الفيلم الذي اقتبس عنه. وكان ليونارد فايفر بيرغ قد حاول لفت نظر هوليوود إلى أوسكار شيندلر ومآثره في الستينيات فتم له الاتصال ببعض رؤساء شركة مترو غولـدين ماير التي انتدبت الكـاتب هوارد كـوش (كاتب سيناريو "كـازابلانكـا") للعمل معه في المشروع لكن السيناريو الأول الذي تمت كتابته لم يرض الشركة فتم إلغاء المشروع حينها. بعد نشر الكتاب عام 1982، قام المخـرج ستيفن سبيلبرغ بمقابلة ليونارد فايفر بيرغ واستمع منه إلى ما كان ورد في الكتاب من تفاصيل، لكن فـايفربرغ لم يكن سعيدا عنـدما أخبره سبيبلبرغ بأنـه لن يتمكـن من تحقيق الفيلم قبل عشر سنوات، إذ إن فايفربيرغ الذي يبلغ من العمر حاليا 80 سنة، لم يكن يعتقد أنه سيعيش حتى يرى هذا الفيلم.
خلال تلك الحقبـة من السنين التي فصلت بين قرار سبيلبرغ عام 1982 بتحقيق الفيلـم وبين إنجاز الفيلم فعـلا وخروجـه للعرض مع الأسبوع الأخير من العـام 1993، مر المشروع ببضعة تحولات مهمة.
في البدء قام سبيلبرغ بدفع "لائحة شيندلر" باتجاه المخرج سيدني بولاك على أساس أن يقوم سبيلـبرغ نفسه بإنتاجـه "وهو كـان قد باشر الإنتـاج، عبر شركته آمبلين منذ 1980"، لكن بـولاك ("المؤسسة"، "يقتلون الجياد، ألا يفعلون؟ ") لم يتحمس للمشروع حينها، كذلك لم يتحمس المخرج مارتن سكورسيزي ("سائق التاكسي"، "عصر البراءة") على نحو وثيق.
هنا قام المخرج الاسترالي فرد شيبيسي بالاتصال بسبيلبرغ وعرض عليه أن يقوم هو بإخراج الفيلم، وفي اتصال بينهما، شكك شيبيسي (أخرج في السبعينيات "أنشودة جيمي بلاكسميث" عن رواية أخرى لكينيلي) في أن يستطيع سبيلبرغ مقاومة أسلوبه التقليدي في الإخراج فيحول الفيلم إلى معالجة هوليوودية مليئة بالعناصر الترفيهية التي عرفتها أفلامه السابقة. وتبعا لذلك التشكيك، أصر سبيلبرغ حينما قام بتصوير الفيلم في شتاء العام الماضي ومباشرة من بعد انتهاء تصوير "جوراسيك بارك"، بعدم استخدام رافع الكاميرا وباستخدام الأبيض والأسود "باستثناء مشهدين ملونين بالكمبيوتر ومشهد في النهاية"، وحرص على استبعاد الشخصيات المعهودة والحلول الروائية التقليدية. في البداية قام سبيلبرغ بإسناد كتابة السيناريو إلى كيرت ليوتدكه الذي أخفق في تقديم سيناريو يقتنع به الطرفان، هو وسبيلبرغ.
والمشكلة الأساسية حينها كانت في أن ليوتدكه، وهو صحافي يرفض المقولات الجاهزة بطبيعته، لم يكن قادرا على تصديق دوافع شيندلر الإنسانية ولا التعاطف معه، ومشكلة تحديد دوافع شيندلر موجودة في الفيلم الماثل الآن على الشاشات على الرغم من معالجة السيناريست الآخر ستيفن زاليان ("يقظات"/ AWAKENINGS) له، وما بين ليوتدكه وزاليان هناك مرحلة وصل فيها المشروع إلى أحضان المخرج سكورسيزي الذي تمهل في اتخاذ قرار بشأنه في الوقت الذي أدرك فيه سبيلبرغ أنه يريد الاحتفاظ بالمشروع كاملا فقام بعرض مشروع فيلم "كايب فير" CAP FEAR على سكورسيزي لقاء أن يعيد إليه سكورسيزي مشروع "لائحة شيندلر".
وفي البداية، كتب زاليان سيناريو من 115 صفحة "أي نحو 115 دقيقة" لم يثر حماسة المخرج الذي قرر أن الفيلم ينقصه "العنصر اليهودي"، صحيح أن الحكاية كلها تدور حول كيف قام شيندلر بإنقاذ اليهود من معسكرات الاعتقال واحتمالات الموت، إلا أن السيناريو الأول كتب من وجهة نظر شيندلر "أكثر مما يجب" كما رأى سبيلبرغ. هذا ما دفع المخرج إلى التوجه إلى بولندا مع الكاتب "من أجل استيحاء المادة"، وتثقيف الكاتب بما وقع حينها، ورغبة سبيلبرغ من وراء كل ذلك، كما يقول، هي أن "يعبر الفيلم عن 6 ملايين يهودي ماتوا بسبب النازية".
سحر الأبيض والأسود
كان سبيلبرغ يعلم أن مسألة تحقيق فيلم عن "الهولوكوست" صعبة على الرغم من النفوذ الذي له في هوليوود والعلاقة المتينة التي تربطه بشركة يونيفرسال، ممولة معظم أفلامه بما فيها فيلمه الأخير "جوراسيك بارك" الذي جمع من داخل وخارج الولايات المتحدة 850 مليون دولار وذلك من العروض السينمائية وحدها حتى الآن. وخاض سبيلبرغ مباحثات طويلة مع يونيفرسال، ولو أنه من باب التهويل أو التضخيم القول بأن المباحثات كانت في الواقع حروبا بينهما، خصوصا عندما أصر على تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، وعندما صرح لهم بأنه يريد للفيلم طابعا شبه تسجيلي "ولو أن هذا الطابع غير موجود فعليا وسنشرح لاحقا لماذا"، في النهاية، منحت يونيفرسال مباركتها للمشروع حسب مواصفات سبيلبرغ على شرط أن يصور فيلم "جوراسيك بارك" أولا، وهذا ما أقدم عليه سبيلبرغ وإن نقل معداته إلى بولندا حيث كان يقوم بمراقبة مونتاج الفيلم الذي يتم في هوليوود خلال الليل ويصور في النهار.
الأدوار
من المثير ملاحظة كيفية قيام المخرج سبيلبرغ بتوزيع الأدوار الرئيسية إذ منحها جميعا- حتى دور اليهودي إسحاق ستيرن الذي يقوم به بن كينغسلي- لغير يهود، والأدوار اليهودية المساندة الناطقة أعطاها لممثلين يهود غير محترفين طلبهم من إسرائيل على أساس أنهم من أبناء وأحفاد اليهود الناجين بفضل شيندلر، أما المجموع الغالب من الممثلين الثانويين والمجاميع فكانوا من الكاثوليكيين البولنديين. واستعان سبيلبرغ بكل ناج كان قد بقي حيا ليصف له الأحداث أو ليصحح له موقع تصوير، علما بأن أكبرهم سنا في تلك السنوات العصيبة لم يزد عمره على 11 سنة، لكن حتى ولو كانت قصص الناجين من ذاكرة متعبة أو ضعيفة، فإنها نفعت في رصد المزيد من الحس الواقعي للغيتو اليهودي، وللأحداث التي دارت آنذاك بينهم ومعهم. وبعد معاناة من الطقس شديد البرودة ومن تصوير اقتضى ضغطا شديدا على أعصاب وعواطف العاملين "مثل مشهد 300 امرأة يتعرين بأمر من الضباط النازيين في العراء من أجل اختيار من تستطيع منهن العمل فتنجو، ومن هي العجوز أو الضعيفة التي لا تقوى على العمل فتقتل"، انتهى سبيلبرغ من تصوير الفيلم في بولندا بعدما أمضى 71 يوما، وهي نفس المدة التي اقتضاها تصوير فيلم "جوراسيك بارك" علما بأن ميزانية "لائحة شيندلر" لم تزد على 23 مليون دولار، أي ثلث ميزانية فيلم الديناصورات.
أسطورة الهولوكوست
تولت وسائل الإعلام الأمريكية تعميم أن "لائحة شيندلر" هو أول فيلم عن الهولوكوست تنتجه شركة أمريكية من حجم يونيفرسال، أي واحدة من شركات هوليوود الكبيرة والرئيسية، وهذا ليس صحيحا إلا إذا اعتبرنا أن فيلم "محاكمة في نورمبيرغ" (أنتجته يونايتد آرتستس من إخراج ستانلي كرامر عام 1941) كان يدور حول قضية طلاق مثلا أو حكم في مسألة لمن تئول ثمار شجرة نبتت في حديقة وترعرعت في حديقة أخرى.
لكن ما هو أهم في الحقيقة هو أن الفيلم يتقدم، في ثلاث ساعات و 25 دقيقة، تحت مظلة وهيمنة المخرج سبيلبرغ الإنتاجية والإعلامية، ليعرض لا مسألة تخص أحداثا سوداء عاشها يهود بولندا تحت ظروف النازية، بل- وكما أراد سبيلبرغ بالفعل- ليعرض المسألة اليهودية بكاملها، من قضية الاضطهاد والتقتيل، الذي لا يرضى بهما أحد لأي عنصر أو شعب، إلى مسألة نشأة الدولة العبرية في فلسطين والذي ينهي المخرج الفيلم به وعلى نحو استفزازي لا يمكن استئصال أهميته من قراءة واعية للفيلم.
يبدأ الفيلم كما الكتاب، بتقديم شخصية أوسكار شيندلر، ذلك الصناعي النمساوي وعضو الحزب النازي الذي وصل إلى كراكوف "البعض يقول إنه كان فيها من قبل احتلال القوات الألمانية للعاصمة البولندية عام 1939"، وتقرب من كبار رجال المجتمع العسكري والحزبي الألماني هناك، كان يحب الخمر والنساء والثروة، وحبه للناحية الأخيرة دفعه إلى التفكير بتشغيل عمال يهود في مصنع للمعادن من دون أن يدفع لهم أجرا، بل مقابل احتوائهم وإعطائهم بطاقات عمل تجعلهم قادرين على التوجه بسلام من الحي اليهودي الخاص بهم إلى العمل في المصنع غير البعيد عن ذلك الحي. ومع أن الدافع كان ماديا، إلا أنه كان الوسيلة التي أتاحت لشيندلر التعرف- عن كثب- على المعاناة اليهودية، هذا واضح من الكتاب وواضح من الفيلم الذي يستمر، فيعرض كيف أن يهود شيندلر "الموضوعين على لائحته الخاصة والذين بلغ عددهم- حسب الفيلم- 1100 شخص" تميزوا قليلا عن باقي يهود بولندا فيما يتعلق بمحاولات النجاة من القبضة النازية، ويرينا الفيلم كيف شاهد شيندلر من فوق صهوة فرسه ومن فوق هضبة عالية قيام الجيش الألماني بجمع اليهود من الحي لوضعهم في معسكرات الاعتقال وما تخلل ذلك من قتل جماعي لا مبرر له.
لكن هذه الحملة وما يتم خلالها من قتل ليست- في الفيلم- سوى واحدة من المشاهد المشابهة التي يقوم الفيلم بتقديمها والتي توالي استعراض الحالات المؤلمة، فهناك مشاهد الفصل بين النساء القادرات على العمل والأخريات غير القادرات، ومشاهد لصبية يهود يختبئون في صناديق وقنوات خوفا من الاعتقال ومشاهد لقتل عشوائي وقنص يقوم به الضابط آمون غوث "يلعبه على الشاشة رالف فاينز" وأخرى لدخول النساء غرفة غير مدركات ما إذا كانت غرفة غاز أو غرفة غسيل "على حد وصف الفيلم كأنما الغرفتان كبيرتان ومتشابهتان بحيث لا يمكن معرفة وظيفة كل منهما على حدة".
بالتدريج يزداد تورط شيندلر العاطفي مع اليهود ويصل إلى حد خيانته للنازية عندما يأمر عماله بإنتاج قذائف غير صالحة للاستعمال، ونراه يدفع ثروته كلها في سبيل إنقاذ اليهود ونقلهم من المعسكرات، ثم يتدخل لإنقاذهم من الموت عندما يحدث خطأ فيتوجه قطار بهم إلى مكان للتجميع تمهيدا لحرقهم، وفي النهاية، نراه، وبعد كل ما أقدم عليه من تضحيات وأفعال، يرتاب في حجم إسهاماته ويبكي بين عماله مكررا أنه كان يستطيع أن ينقذ ثمانية يهود آخرين من الموت لو أنه باع سيارته أو قايضها.
هذا الفعل العاطفي في النهاية لا يوفر للفيلم مزيدا من التعاطف مع الحالة التي يتوخاها، ولفهم مفتاح هذا الرأي علينا أن نعلم أن شخصية أوسكار شيندلر منذ البداية تبدو محيرة الشأن وعلى نحو مخالف لما اعتقد المخرج أن بالإمكان تجنبه.
فإذا كان شيندلر مستعدا لإنقاذ بعض اليهود من أجل تشغيل مصانعه فهو لا يعدو كونه مجرد إنسان مستغل، وهو- كما يعرف الكتاب والفيلم معا- بنى ثروته من وراء استغلاله لما رآه فرصة ذهبية، يخلص بعض اليهود من القتل لقاء العمل في مصنع ينشئه لخدمة الاقتصاد الألماني وينال هو الثروة. والكتاب يشرح قليلا أن شيندلر عرف يهودا في صباه، لكن الفيلم يختار أن يمر عابرا جدا على هذه الحقيقة التي ربما كانت ستوفر الدافع وراء تحولات شيندلر الحاسمة من مستغل لليهود والحال العام، إلى مدافع عن حياتهم. صحيح أن هذا التغيير قد يكون بسبب وقوفه على المعاناة وتحرك الإنسان في ذاته، لكن الفيلم لا يقدم المسألة على هذا النحو أيضا مما يبقي الدافع بعيدا عن النتائج ومنفصلا عنها.
تمثيل ليام نيسون لشخصية شيندلر يخفف الكثير جدا من متاعب البحث عن الدافع ويقلل من التأثير الكلي لغيابه، كذلك فإن السيناريو يدور حول هذه النقطة بذكاء بعض الأحيان مستغلا رغبة شيندلر في تنبيه القيادة الألمانية من أن أفعالها المضادة لليهود "سيئة بالنسبة للصناعة" (أو كما وصفها قائلا Bad for business).
على أن ما يحبب المتفرج بشيندلر هو الشخصية النازية الأخرى التي يلعبها فاينز، إنه الضابط الذي يجد هوى في تصويب بندقيته القناصة من شرفة منزله في الصباح فوق المعسكر القريب لاصطياد اليهود، أي يهودي وبلا سبب.
رغبات متضاربة
ويعرض الفيلم جانبا من حياة الضابط آمون المعقدة من خلال علاقته بيهودية تشرف على المطبخ في بيته "امبيث دافيتز"، فهو معجب بها سرا، لكنه يضربها ويعنفها جهرا، لا يستطيع الاستسلام لعواطفه الصادقة خوفا من التغيير الذي قد يصيبه، ويحمي نفسه بالتعرض لها ضربا، وفي مشهد مهم نراها تشكو لأوسكار "يرد المشهد في الكتاب مبكرا لكن في الفيلم يتأخر لقرب نهاية الساعة الثانية" خوفها من قيام آمون بقتلها قائلة إنها شاهدته يطلق النار على عجوز يهودية تقطع الطريق بلا سبب، يطمئنها شيندلر قائلا لها إنه واثق من أن آمون لن يقتلها، وحين تسأله عن سبب هذه الثقة، يخبرها بأن المرأة العجوز لم تكن تعني شيئا لآمون، لكنها هي تعني الكثير ولذلك سيبقي عليها وإن كان سيتعرض لها بالضرب، ويحاول شيندلر تنبيه آمون- بطريقته الخاصة- إلى مغبة التعرض لليهود على هذا النحو، لكن آمون يعود إلى أفعاله "يقتل صبيا ثم يضرب خادمته" بعد نصف يوم من الممانعة.
بعض المشاهد المذكورة أشبه بالكاريكاتورية، لكن هناك تقديما جيدا للشخصيات وتمثيلا يقيها الرخص، على أن ما يضير الفيلم كثيرا هو ما يعتبره المخرج والمعجبون بالفيلم "تسعة من بين كل عشرة نقاد في الولايات المتحدة اعتبر الفيلم واحدا من أفضل عشرة أفلام في العام" مركز قوته: مشاهد القتل الفردي والجماعي لليهود.
الناحية شبه التسجيلية التي عناها المخرج هي استخدام الكاميرا كراصد للحدث، وهذا الدافع جعله يصور مشاهد كثيرة "فصل المشاهد الذي يدور في الحي اليهودي مثلا" بكاميرا محمولة على الكتف "مدير تصويره هو البولندي الأصل يانوس كامينسكي"، كذلك دفعه لتصوير الفيلم بالأبيض والأسود، لكن المعالجة والإدارة التصويرية لتلك المشاهد في الوقت الذي كانتا فيها قائمتين على توخي التسجيل والرصد، كانتا واضحتي المعالم فيما يتعلق بتقليد النوع وليس إتقانه.
كذلك فإن مشاهد القتل نفسها تكدست واحدا وراء الآخر على نحو منفر لكل من لديه بعد أشمل من البؤرة التي يعمل سبيلبرغ وفيلمه على جره إليها، وللإيضاح هنا، فإن ما يتوخاه المخرج من وراء تصوير مشاهد القتل بعنف وواقعية، هو تجيير الانفعال لصالح الضحايا ضد النازية، والإيحاء بالمذابح الجماعية التي حدثت خارج نطاق اهتمام الفيلم، لكن في الوقت الذي يندفع لتصوير الوضع على هذا النحو الذي يعيد ما يعتبره المخرج واقعا، ينجز عمليا مهمة خطرة هي في تحييد باقي أحداث التاريخ ونقل الشرخ الحاصل بين الألمان والعالم بسبب الموضوع النازي إلى مرحلة أخرى نلحظ فيها شرخا ما بين العالم والحقيقة، فإلى جانب أي عدد من اليهود الذين سقطوا ضحية للنازية، هناك ثلاثة ملايين كاثوليكي بولندي تم أيضا قتلهم في ذات الظروف "أي لم يسقطوا في معارك الحرب العالمية الثانية" وفي نفس الفترة التي يتناولها "لائحة شيندلر"، وإن كان الفيلم ومن يقف وراءه يختار الصمت حيالهم تماما، (الفيلم الأمريكي الوحيد الذي تحدث عنهم هو "اختيار صوفي" SOPHIE'S CHOICE، أنتجته يونيفرسال أيضا عام 1982، وأخرجه آلان باكولا من بطولة ميريل ستريب في دور ناجية بولندية كاثوليكية من معسكرات التعذيب النازي).
من ناحية أخرى، فإن خروج فيلم عن أي "هولوكوست" في هذه الأيام بات عليه أن يشير إلى استمرار الوضع القائم على "التصنيف والتطهير العنصري والديني والعرقي"، أن يوحي من داخل الفيلم وليس بمجرد الحديث عنه إلى الوضع في البوسنة وإلى الوضع الكردي وكل وضع مشابه حول العالم. هذا ما لا يفعله الفيلم مختارا الالتزام بيهودية الموضوع والأبعاد كلها وضرب حصار حول نفسه بحيث يتحول إلى شهادة يهودية أخرى مشابهة، في خامتها الإعلامية على الأقل، لكل تلك الأفلام السابقة التي أنتجت أوربا معظمها خلال العقود الماضية.
لكن هذا لا يعني أن الفيلم لم يطرح رابطا حاليا وإن قرر أن يختار هذا الرابط من ثنايا الفيلم وخدمة للموضوع الذي يشغله.
في مشهد من المشاهد الختامية نرى جنديا روسيا يركب حصانا يتقدم إلى مئات اليهود الذين أمضوا ليلتهم في العراء بأن بولندا تحررت والحرب انتهت، يسأله البعض إلى أين الاتجاه، فيرد عليهم بقوله:
"ليس إلى الشرق، وبالتأكيد ليس إلى الغرب، بل إلى هناك"، ويشير بيده إلى اتجاه متوسط.
اللقطة التالية هي ملونة ولصحراء شاسعة وأفق يهبط من عليه اليهود، إنها أرض فلسطين وها هم يصلون إليها فرحين ومحاطين بمباركة ستيفن سبيلبرغ، علما بأن وصول النازحين الأوربيين اليهود إلى فلسطين، كان بداية لفصل آخر من الأحداث الدامية، ضحيته هذه المرة هم الفلسطينيون والعرب، لكن هذا نوع من الفصول التي لن تثير اهتمام سبيلبرغ أو رغبته في التعرض إليها لأنها الوجه الآخر من قضية التاريخ اليهودي الحديث وهو التاريخ الذي تحول فيه هؤلاء من ضحايا إلى جلادين.