شهدت العقود الأولى من القرن السادس عشر طفرة ملحوظة في اهتمام الفنانين برسم أنفسهم. وكل المذاهب الفنية والأساليب «وحتى الاتجاهات الفكرية» التي اعتمدت خلال القرون التالية في رسم الصور الذاتية، كانت قد أطلت برأسها في تلك الفترة. ومن بين اللوحات المميزة في هذا المجال نتوقف هنا أمام الصورة الذاتية للفنان فرانشيسكو مازولا المعروف أكثر باسم بارميجيانينو، التي رسمها في العام 1523م، وكان عمره آنذاك عشرين عاماً فقط.
عندما جلس الفنان ليرسم نفسه، لم يضع قبالته مرآة عادية ليرى نفسه من خلالها كما كان رائجاً. بل اختار مرآة محدبة. وأكثر من ذلك، لم يرسم صورته على لوحة مسطحة من القماش، بل اختار قطعة محدبة ومستديرة من الخشب. وهذا الشكل العام المتميز لهذه اللوحة يكاد يشتت الذهن عن كل ما عداه. فلماذا هذا الخروج عن المألوف والسائد؟
لإدراك القيمة الحقيقية لهذه اللوحة يجب أن نتذكر أنها عندما رسمت، لم يكن قد مرَّ أكثر من جيل واحد على نضوج دراسة البعد الثالث في اللوحة. وأن سنوات قليلة جداً تفصل هذه اللوحة عن الذروة التي بلغها إتقان رسم البعد الثالث في جداريات الفنان رافائيل الذي كان مثلاً أعلى لبارميجيانينو. ويبدو تأثر الفنان الشاب بالأستاذ الكبير واضحاً في رسم الوجه والشعر، وحتى الفرو في الملابس الذي يذكرنا بالفرو في ملابس صورة بالثاذار كاستيغليوني التي رسمها رافائيل قبل عقدين من الزمن. ولكن المهم في هذه اللوحة، هو أن التلميذ أراد أن يدفع بدراسة البعد الثالث إلى مستوى يتجاوز ما وصل إليه أساتذة عصره. فاختار المرآة المحدبة التي تشوه الأحجام وتلوي الخطوط المستقيمة وتكبّر ما هو قريب منها، وتصغر البعيد عنها.
ففيما عدّل الرسام وضعيته بشكل يبقى فيه وجهه على مسافة متوسطة من المرآة، كي لايخضع لأكثر من الحد الأدنى من التشويه، فتبقى شخصيته واضحة، نرى خطوط النافذة والسقف قد أصبحت أقواساً. ولأن صاحبنا هو رسام، تكمن مهارته ومهنته في يده، نرى هذه اليد في مقدمة اللوحة، كبيرة وبيضاء وبالغة الوضوح، حتى تكاد تبدو أنها هي موضوع اللوحة.
وإضافة إلى ما تقدم، فإن الاهتمام بدراسة الخطوط «المشوهة» وترتيب الوضعية الملائمة للجلوس أمام المرآة، لم يشتت اهتمام الرسام بباقي عناصر اللوحة. فالضوء الداخل من النافذة مدروس جيداً في إنارته للوجه واليد والجدار الخلفي. والانتقال من المساحات المضاءة إلى المظللة أو الداكنة يبدو لطيفاً وسلساً وأميناً «للحقيقة الفوتوغرافية» إذا جاز التعبير. والنتيجة، صورة مدهشة في واقعيتها البصرية، أصبحت لاحقاً واحدة من الحجارة الأساس التي قامت عليها مدرسة «الخداع البصري» في أواخر ذلك القرن والنصف الأول من القرن التالي.
هناك نقاد كثيرون قرأوا في هذه اللوحة خطابات فكرية حول موقف الرسام من الواقع والحقيقة، ودور المثقف في التطلع إلى الواقع واتخاذ موقف منه، وأموراً كثيرة من هذا القبيل. وقد لا يكون هؤلاء على خطأ. ولا يمكننا الجزم بأنهم يحمّلون اللوحة أكثر مما تحتمل. ولكن من وجهة نظر أخرى، تعتبر قيمتها الشكلية والحرفية كافية لأن تحتل مكانها، ليس فقط كلوحة جميلة وممتازة، بل أيضاً كلوحة رائدة في تاريخ الفن، تجاوزت ما سبقها، وأسست لمدرسة لاحقة.