مختارات من:

الفوضى المنظمة .. هي المنقذ

شوقي رافع

السيدة قتلت زوجها لأنه مدمن على العمل


السيدة الإيطالية قتلت زوجها مهندس الجسور. قالت في المحكمة: لقد كان مدمنا على العمل (!). جريمة القتل جاءت تجسيدا واقعيا للعبارة الشهيرة التي أطلقها الروائي الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، قبل أن يقضي منتحرا، قال: "الإدمان على العمل مثل الإدمان على الكحول، كلاهما يدمر الروح". المفكر البريطاني برتراند رسل يطرح القضية نفسها في إطار فلسفي، فيتهم الإنسان الغربي بأنه يجهل معنى الحرية، "لأنه يعتبر أن ما يتصل بين نهاية الدوام في الوظيفة وما بين بدايته في اليوم التالي هو فراغ.. ووقت ضائع.. وهذه هي العبودية المعاصرة". أما في عالمنا العربي فإن طقوس الروتين المقدسة كفيلة بتجفيف ينابيع الخلق والإبداع، ليس لدى الموظف أو العامل فحسب، بل لدى الطالب أيضا. هل يمكن إذن للإنسان أن يكون منتجا بعيدا عن الفرح والأغنية و... الفوضى المنظمة؟ هنا محاولة للإجابة.

"لابرسيوسا" سيدة إيطالية وربة منزل تعيش مع زوجها مهندس الجسور البولوني اليهودي كلارج بيليد في نيويورك، مضى على زواجهما ما يزيد على 10 أعوام، وفي أمسية ربيعية كان الزوج يقف مع زوجته فوق أحد الجسور في نيويورك، ويحدثها عن الجسر، عندما انتفضت الزوجة فجأة ودفعته بكل ما تملك من قوة، من فوق الحاجز الخشبي للجسر، فهوى في النهر وابتلعته لجة المياه. قالت لابرسيوسا في المحكمة: "طيلة أعوام وأعوام وأنا أعيش مع جسر وليس مع رجل، في السهرات مع الأصدقاء كان يتحدث عن الجسور، في غرفة الجلوس وبعد عودته من العمل كان الجسر هو همه الوحيد، وكان الجسر يدخل معنا غرفة النوم. حسنا، إن في نيويورك ما يزيد على 860 جسرا، وقد شاهدتها كلها، وعندما قررنا زيارة بنغلادش في إجازة، فإنه كان يدفعني منذ الصباح للبحث عن الجسور، وعندما كان يعثر على واحد، فقد كان يمضي طيلة النهار، وأنا معه، فوق ذلك الجسر... وفي ذلك المساء، كانت الأزهار تغطي ضفتي النهر، وكانت المياه تتدفق بالصخب والحياة.. ولكنه لم يكن يشاهدني أو يشاهد الأزهار أو المياه، وتابع حديثه عن تأثير الصقيع على الخشب والحديد وكيف يمكن أن نطيل حياة الجسر... وفي لحظة فقدت السيطرة على نفسي... فدفعته...".

وتحولت جريمة السيدة لابرسيوسا إلى قضية اجتماعية واقتصادية ونفسية، كان أبرز عناوينها هو "الإدمان على العمل" والعبارة بالإنجليزية مشتقة من الإدمان على الكحول. أما أبرز الشهادات التي توقف المحللون أمامها فهي أن زملاء الزوج في العمل، وصفوه بأنه كان يفتقد إلى " الإبداع " في عمله، وأنه كان شديد " الانضباط ".

انتحار

ولعل المصادفة وحدها هي ما جعل من نيويورك مسرحا لتجسيد إحدى العلامات المميزة في ثقافة الثلاثينيات من هذا القرن، ففي تلك الفترة كانت الولايات المتحدة تعيش فترة "الكساد العظيم"، وكان العمال - كما أصحاب العمل - يلهثون للاحتفاظ بوظائفهم أو منع أرصدتهم من الانهيار، بينما كانت الغالبية العظمى من العمال تقف يوميا في طوابير بانتظار من يلتقطها للعمل لديه... وقد التقط الروائي سكوت فيتز جيرالد هذا الجو العام، فأطق عبارته الشهيرة "الإدمان على العمل، كما الإدمان على الكحول، كلاهما يدمر الروح ". ومع أن العبارة منحت بعض العزاء للعاطلين عن العمل، إلا أن الروائي اندفع بعبارته لتكريسها واقعيا، فقذف بنفسه من الطابق الثلاثين ليقضي منتحرا، بعد إدمانه على الكحول، ثم جاءت السيدة لابرسيوسا بعد حوالي نصف قرن لتكون شاهدا على هذا الفقر الروحي للمدمنين، سواء على الكحول أو على العمل.

سرج الحصان والهندي

أما "الانضباط" فإن له حكاية أخرى يرويها المؤلف جون شتاينبك في قصة قصيرة عنوانها "سرج الحصان" وهي تتحدث عن سيدة تصر على زوجها أن يرتدي تحت ثيابه سرجا من الجلد، يحافظ على قامته منتصبة بقوة، فيبدو مهيبا أمام الآخرين، ويلبي الزوج رغبة زوجته مع شرط واحد هو أن يخلع سرج الحصان شهرا واحدا في كل عام، ونجح الاتفاق، فكان الزوج يشد السرج إلى ظهره 11 شهرا في كل سنة، أما في الشهر الثاني عشر فكان يخلعه ليتمرغ مخمورا في الرمل والطين بعيدا عن جحيم القامة المنتصبة بقوة (!).

ولعل هذه "الفوضى المنظمة" هي ضرورة للنجاح، ومظهر لعودة الروح المكبلة بأغلال الانضباط، وهو ما نجحت هوليوود في التعبير عنه من خلال فيلم مقتبس عن قصة واقعية تروي حكاية هندي أحمر اعتاد أن يركض فوق التلال وهو يغني بعذوبة، وفي أحد الأيام، وبينما الهندي الأحمر يجري، يلمحه أحد المدربين، فيقرر أن يضمه إلى فريق الجامعة للركض، وهنا تبدأ رحلة التدريب الشاقة والمرهقة، حيث يتعلم الهندي الركض على الأصول، وعلى "الانضباط" وقت الإيقاع الذي يقرره المدرب، وينتهي الفيلم وعنوانه "الركض بوحشية" بأن يفوز الهندي ببطولة العالم في الأولمبياد، لكنه بعد الفوز يكتب إلى أخته رسالة، يقول فيها بحزن: "إنني ما زلت أركض ولكنني توقفت عن الغناء".

إن النجاح بالمفهوم الشائع يقترن بالفرح عادة، ولكن فجأة يكتشف أحدهم أن القمة التي بلغها لا يلفها إلا الصمت الموحش، ولعل الحب في هذه الحالة هو المنقذ، لكن هل يمكن للحب، كما للغناء، أن يدخل بوابة قلب بحرسها الانضباط ويتآلف مع سرج الحصان؟.

الفيلسوف البريطاني برتراند رسل يرفع من مستوى الحوار ويحوله إلى قضية فلسفية مازالت تشغل مساحات واسعة سواء في المصانع وعلى مستوى صانعي القرار أو في الجامعات والمعاهد الأكاديمية المتخصصة.

يصف رسل في مقال يدرس في الجامعات البريطانية الإنسان الغربي بأنه "ضيق الأفق " فهو يكرس حياته للعمل باعتبار أن العمل هو قيمة بحد ذاته، بينما الواقع هو أن العمل قيمة بمقدار ما يجعل الإنسان أكثر حرية. ويقول رسل إن العامل أو الموظف، عندما يغادر عمله فإنه يشعر بالفراغ، لأنه يكون بانتظار العودة إلى العمل، وبالتالي فإنه يعمل على " قتل " الوقت الفاصل بين فترتي عمل (!)، وهو يلغي بالتالي مفهوم الحرية، ويحل محله مفهوم الفراغ، فيكرس بذلك عبودية عصرية تتجاوز عبودية الزنجي الأمريكي الذي يعمل عبدا في مزرعة سيدة الأبيض لأن الزنجي عندما يأوي إلى كوخه ليلا يشعر أنه بات "حرا " حتى ولو لساعات قصيرة (!). أما الموظف أو العامل الغربي فإن عبوديته، في غياب الوعي بالحرية، تبدو شبه مؤبدة (!).

ومع أن الممثل الرائع شارلي شابلن التقط بدقة هذه العبودية في فيلمه الشهير "الأزمنة الحديثة" حيث يغادر العامل المصنع بينما تبقى يداه تمارسان الحركة ذاتها التي يقوم بها داخل المصنع، فإن هناك نماذج عصرية لا تقتصر عبوديتها على حركة اليد أو الجسم بل تحتل الحياة كلها، ومن بين هذه النماذج التي التقاها كاتب هذه السطور، عامل في مطار بيروت الدولي، أمضى أربعين عاما في نقل بضائع وأمتعة المسافرين، بينما هو يرتدي الزي المخصص للعمال، ومع أنه أحيل إلى التقاعد منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، فإن هذا العامل مازال "يداوم" في المطار، ويرتدي الزي إياه، ويعرض خدماته مجانا للمسافرين، وهو يدفع من جيبه الخاص، بدل انتقاله يوميا من منزله في القرية إلى المطار، ويصل دائما على "الدوام". قال لي: "لست سعيدا، ولكن المطار هو حياتي كلها، وإذا بقيت في البيت أمرض. ما عندي حيلة..."... وكم بدا ذلك العامل في ذروة اليأس (!).

دوام أقل... إنتاج أكبر

في الغرب، لا يدور النقاش حاليا، حول سرج الحصان ولا على مفهوم الحرية، بل حول الإنتاج، وحول تكريس قيم الخلق والإبداع لزيادة هذا الإنتاج، وبالتالي الأرباح، وعندما قرر صاحب إحدى المزارع في هولندا أن يجعل الموسيقى في خدمة البقر، فزرع أجهزة للموسيقى في كل حظيرة، فهو لم يكن يهتم بتنمية الحس الفني عند البقر، بل بزيادة إنتاجها، وقد نجح في ذلك، وتبعه مزارعون كثيرون... ومثل ذلك يحدث على مستوى البشر، حيث يرفع المجددون شعار " دوام أقل يعني إنتاجا أكبر"، وهذا الربط بين الدوام والإنتاج لا يهمه من تجديد الحيوية أو إعادة الروح إلا بمقدار ما يزيد صاحب تلك الروح من إنتاجه وإبداعه في حقل عمله، ومن هنا تلقى فكرة دورتي العمل التي بدأت بعض الدول في تطبيقها، ألمانيا خاصة، تشجيعا كبيرا لأنها تساعد من ناحية على امتصاص الأيدي العاملة، ولأنها من ناحية ثانية، تقطف زهرة نشاط العامل أو الموظف، وتعيده إلى منزله باكرا وقبل أن يصيبه التعب، فلا يضطر رب العمل إلى دفع بدل ساعات عمل لعامل فقد نصف جهده ومعظم تركيزه في ساعات العمل الصباحية (!).

الموظف... معاق

والمقارنة بين ما يجري في الغرب، وما يجري في دول العالم الثالث، تبدو ظالمة، خاصة إذا ما استعدنا تلك الإحصائية عن دولة خليجية ثبت فيها أن إنتاج الموظف الفعلي لا يتجاوز 15 دقائق فقط من أصل دوام يصل إلى 6 ساعات في اليوم، وعلى مدى 6 أيام في الأسبوع، أي أن إنتاجه لا يغطي إلا ساعة واحدة من دوام يصل إلى 36 ساعة أسبوعيا. ولكن هذه الإحصائية تكشف مساحة الخراب التي يمكن أن يخلفها دمار الروح وغياب الحوافز، ويعيد بالتالي طرح القضية من جذورها، فالدوام أو العمل ليس مهما لذاته، بل بمقدار ما يقدم خدمة للإنسان العامل أو الموظف وفي طليعتها الشعور بأنه حر، والحرية هي بالتأكيد شرط الإبداع والإنتاج. إن الموظف أو العامل يستطيع دائما أن يوقع صباحا، أو أن يدفع ببطاقته داخل ساعة الدوام ليعود فيوقع أو يدفع تلك البطاقة مجددا عند انتهاء الدوام أو الوظيفة، ولعل هذه أسرع طريقة، كما أثبتت دول العالم الثالث، لتحويل الإنسان المنتج إلى "معاق" مهمته إعاقة الإنتاج وليس زيادته ولا تنشيطه، بل وحتى منع الآخرين من استعادة الروح أو خلع سرج الحصان...

إن شعار "دوام أقل وإنتاج أكثر" يصح في الوظائف وفي المصانع كما يصح في المدارس وفي الجامعات، شرط أن تتوافر للعامل والموظف مرافق عامة ترفيهية وتعليمية تستوعب ما يتيحه الشعور بالحرية من نشاط وإبداع، ولا خوف على العامل أو الموظف أو صانع القرار من الكسل لأن أخطر القرارات التي صدرت عن البيت الأبيض خلال العقد الأخير، اتخذها كل من رونالد ريغان وجورج بوش في منتجع "كامب ديفيد"، ولأن القائد الروسي جوزيف ستالين الذي هزم الآلة العسكرية النازية كان، على ما يروي القائد اليوغسلافي المنشق ميلوفان جيلاس: "كان ستالين يجمع قادته في الكرملين ويبدأون مبكرا احتفالات العشاء، يأكلون ويشربون ويتناقشون، وعندما تعلن الساعة الرابعة صباحا، وبعد أن يكون الرفيق ستالين قد شرب 3 غالونات من الفودكا مع عشاقه، كانت تتخذ القرارات "... وهذه ليست دعوة للأكل والشرب، بل للفرح وتحرير ينابيع الإبداع من سرج الحصان، ولا يضير امرأ القيس أنه هتف، عندما بلغه مقتل والده: "اليوم خمر، وغدا أمر" فهو كان مبدعا حاول ملكا وأعذرا (!) .

شوقي رافع مجلة العربي نوفمبر 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016