مختارات من:

15 يونيو على السطيحة

محمد بنعبود

الصورة الكهربائية أصبحت عنده دالة تماماً. يتذكر يونيو لسنة قديمة. كان الجو لافحاً كالآن تماماً. كان صاحبه ضحك وقال مازحاً: "انظر إلى الحيوان الخرافي أمامك على الكهرباء, عد أرجله. إن فعلت وجدت ستاً. هي إذن عدد السنوات التي عليك قضاؤها قبل أن تحلم بالتحرّك, وأنت يا الله في سنتك الأولى". نظر إلى الحركة القليلة في محطة البنزين البئيسة. عاد لتأمل الحيوان. أمل في لقاء صـديقه ثانيـة ليقول له: "صارت الأرجل تسعاً". كان المغيب حالماً. في تثاقل بدأ زملاؤه يتقاطرون. حمرة خفيـفة موحدة في الأعين: "كيف الحال?". لم يجب. تكونت أربع مجموعات. جالسه صاحبه الجديد. تأمل الصورة. تفرس ملامح جليسه. كاد يسمعه مقولة صديقه من تسع سـنوات. بدا مشفقاً. مرت أمامهم سـيارة "الرجل الطويل". طاردها كلب ونقع. أتى النـادل الصغير الأسمر بالمشروب الغازي الأسود.. "هات السداد". أمر الأستاذ. انثنى الأسمر الصغير وابتسم عن بياض ناصع. ألهاه صاحبه: "ألا تزال تصدق?" رفض النصيحة بملامحه. مبالاة صاحبه تستفزه. أصغر سنّاً وجديد ودائم النصيحة: "ارتحنا... هيه... وأسبوعان وننسى". عاد لتأمل الحيوان. عد أرجله عاشرة. أشفق على صاحبه مما ينتظره. مسح مجالس زملائه. رثى لحالهم وحاله. نسمات مقدم الظلام منعشة. ارتفع لغط زملائه. كأنهم يرون بعضهم بعضاً من أصوات بعضهم البعض. سلط عينيه في العتمة. خيّل إليه أن النخيل باسم استهزاء. "سيـدي عمرو" راقد في ضريحه غير مبال. يزداد قلق صاحبه من صمته: "على الأقل الليلة لحم خروف.. حتى لحم الجدي لا بأس به.. لكن دائماً..." النور فـي الحيوان أكثر من غيره.. فكّر في صهـد الليل وأرقه وعرقه. فكر في النوم على السطيحة بين بني السـبـيل وغيرهم. تذكر خوفه من العراء.. أمر صاحبه: "يا الله...".

تمنُّع الماء خروج من حزن

مسافة قصيرة قاسية. المؤسسة فوق تل أو جبل. الثانية إلا خمس عشرة دقيقة, قلبه يرتطم عنيفاً بالضلوع, يتنفس بصعوبة. صغيره يرمي حبلاً من أعلى التل/الجبل. عندما يستجمعه يبدو أطول من جبل. عندما يلقيه لا يطول الأب المنهوك. المحفظة ثقيلة. الحذاء ضاغط. الياقة خانقة. الشمس سياط. الصغير يرمي ويستجمع ويرمي. المسافة القصيرة طويلة. يتنفس بعمق. الهواء جاف. تصلب سائل علك على حافتي فمه. بحث عن المنديل في جيبه. ألفاه مسكوناً بحصيات عجاج أمس. أصبحت الدنيا طنجرة ضغط كبيرة تتأهب للانفجار. بدا العجاج مسالماً. العرق حبال سرية للقنوط. أسلم وجهه جهة الشرق. لطمه الهواء لافحاً. الثانوية على مسافة نخلة. العجاج يعنف. حصيات كشفرات الحلاقة. بعنف تضرب خده وأنفه ورقبته وجفونه. الباب الخارجي.. باب الإدارة.. القاعة.. "الله.. هات الماء". يأخذ القنينة البلاستيكية المغشاة بخيش مبلل. فمها في فمه. دفع بها إلى أعلى. صارت خطاً مستقيماً مع السقف الحائل. أحشاؤه تعتمل. الماء لا ينزل.. "أتهزأ بي أيها الكل..?" "لا.. أستاذ.. لا.. نصفها ماء. ها الدليل".

يأخذ القنينة من جديد. فمها في عينه. يدفع بها إلى أعلى. يندلق الماء على وجهه وثيابه ومحفظته. ينتفض مذعوراً صائحاً.. يأتي صاحبه مسرعاً: "من جديد?" حنجرته جافّة. رائحة قهوة قوية تتسرّب إلى خياشيمه. أسرع للحمام. نصب رأسه للصنبور. لحسن حظّه كانت الساعة ساعة ماء. جلس دون أن يجفف شعره. ناوشت خيوط الماء المتسللة تحت المنامة عرقاً ثخيناً. عيناه حمراوان.

وضع صاحبه المائدة بينهما: "أفطر.. الماء دائماً?.. أنصت لابن سيرين: (فمن رأى أنه عطشان وأراد أن يشرب من نهر فلم يشرب, فإنه يخرج من حزن...) مبحوحاً قال: "من قال أردت أن أشرب من نهر?".

في ظل الخيمة

شارك الباقون صاحبه. استشعروا خطورة قلقه. تحمّلوا مجافاته. جالسوه في البيت وعلى السطيحة. قالوا: "نغير قليلاً.. نذهب للخيمة السياحية". هزاله ظاهر. اضطرابه متزايد. أشفقوا على ابن وأمه في مدينة بعيدة. نسوا بانتظاره انتـظارهم. سمعوا عن بعد أصداء عزف محلـي. اعتبروها بشارة. بدا الحارس محرجاً: "أنتم ألطف الناس.. لكن..". مسـح الخيمة بنظره. قال منكّساً بصره: "إن أتى سيكبـر المشكل.. لكن ادخلوا. أنتم كل الأدب". كان السياح من الفرحة في قمة. يضعون أكفّهم في أكفّ أفراد المجموعة الراقصة. ينحنون معهم إلى الأمام. يخطون خطـوات.. يتقهقرون مائلين برءوسهم إلى الوراء. يرقصـون أكتافهم. يصفـقون. ابتـسامتهم مشتعلة. جلس المؤدبون على كنبة. هي من جذوع النخيل كالموائد الصغيرة وكأعمدة الخيـمة.. زارهم النادل باسماً.. يسـترقون النظر للراقصين المصفـقين. أسالت رائحة الشواء لعاباً. تخرج قنينات من مبرّدات صغـيرة. إيقـاع "احيدوس" يخف ويخف. الرقص موقع. حركات فاضحة تستمد الشرعية من الإيقاع. تبتسم واحدة للمؤدبين. تقترب. تهتز مع الإيقاع.. "سلام" - بعربية -. يردون التحية بمثلها وبأحسن. خداها أحمران: "شمس فاتنة". بالفرنسية هذه المرة. ينظرون إليه جميعاً كأنه المقصود بالكلام. لأمر ما سحبته من يده. حاولت إدماجه في رقصتها. كان كالخارج عن وعيه. دندن بخفوت مرير:


مَن أباح لك غسل شمسي?
مَن أعطاك حق سحبي أو تركي?
التنور والقدر خلان
ونحن - إن تواضعت - ضدان
وإذن فلي يومي
ويومك يومان:
يومي عجوز تفك وتفلي ضفيرة وتعيد
ويومك مزهرية عليها سوسنـتان
ومائدة يلتذ حولها كلبان


"بوغافر" شاهد على الفجيعة كثر سؤاله عن النتيجة. بقي من الأسبوعين يومان. ألح على صاحبه أن يلح على الرجل الطويل. أكّد أنه فعل. أضاف أن الزملاء فعلوا أيضاً. سيعود بعد يومين من "ورززات" بالخبر. "بو غافر" مهيب كعادته. النزل الذي يحمل اسمه فارغ أو يكاد. سطيحته تعتم قبل الضريح. النادل الصغير عوض من أسبوع. كانت الإجابة عندما يسأل عنه, مواربة دائماً. استشعر صاحبه مسئولية. فجأة يقول الجليس الثاني: "قطـع العفـريت المضيق" تأكد له شيء: "السداد". خرج عن صمته. قال بخفوت: "بسـدادي أيها الكلب" أكد الجليس أن لا علاقة. أكّد صاحبه أن لا علاقة. تشبث بقناعته. تأمل سعف النخيل أمامه. عليه فارس من القرون الخوالي على صهوة جواد أعجف. بيده رمح طويلة مؤنثة. بجانبه حمار ينوء بثقل بدين بسمات بلادة. صاح وسط دهشة الجميع: "بسدادي أيها الكلب". سار صاحبه في أثره. حاول تهدئته برائحة القهوة النافذة.. لم يشربها.. انكفأ على نفسه.. عيناه معتركتان. خدر يغزو أعصابه.. زززز... أزيز سيارة الرجل الطويل من بعيد. هرولوا جميعاً. على مشارف القرية وقفوا. عن بعد بدت السيارة في موكب من غبار. حاولوا الرصانة. خانتهم. تقدموا قلـيلاً. السـيارة تقترب. تقدموا قليلاً.. "تازرين" وراءهم... الصحراء أمامهم.. السيارة تقترب. النقع يرتفع. الفرائص ترتجف. قطعوا عليها الطريق. عالج الطويل الباب. أبى أن ينفتح. تكالبت الأيدي مساعدة. رءوس بشرية متربة متزاحمة داخل السيارة. انفتح الباب. تحلقوا حوله. نظر إليهم من أعلى. حاولوا قرءة النتيجة من عينيه. هو لا يبالي كثيراً بالمشاعر. أيام العطل والمواسم والأسواق يحمل السيارة ما لا تحتمل. يشتكي الركاب... يطمئنهم: "غير يتحرك الحديد يرتاح بنادم". أخرج من جيب قميصه ورقة. تخاطفوها... عليها اسم واحد.. مشدوهاً ينسحب من لم يكن الاسم اسمه. يد تتركها ليد.. كان الأخير, تفحص الاسم, اسمه من اثنى عشر حرفاً. الاسم المكتوب من اثنى عشر حرفاً.. الأول حرفه.. الثاني ليس حرفه.. الثالث والرابع حرفاه... الخامـس ليـس حرفه.. السادس.." أتهزأ بي أيها الكل..." "لا حول ولا قوة.. ثانية? ما هكذا.. النتيجة لا تظهر إلا بعد الإمضاء.. ما بهذه الطريقة.. وأنت الذي نقول...".

محمد بنعبود مجلة العربي مايو 2001

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016