مختارات من:

هل تتوقف زراعة القلوب

جميل خباز

عملية زرع القلب الواحدة تكلف في بريطانيا 12 ألف جنيه إسترليني، وإضافة إلى مشاكل ما قبل الجراحة وما يعقبها، بدأت تظهر مشاكل ما يسمى "بالمرحلة الثانية" للزرع وتتلخص في إصابة القلوب المزروعة بأمراض الشرايين التاجية بنسبة 40% خلال 3 سنوات، وارتفاع نسبة الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية بين الزارعين، وحدوث سكتات قلبية مفاجئة تؤدي إلى الوفاة دون إنذار. ولهذه الأسباب، ثارت في بريطانيا عاصفة من المراجعات كادت تؤدي إلى تصفية مستشفى "هارفيلد" الذي يعمل به أحد أنشط وأكفأ فرق جراحة وزرع القلب في العالم بقيادة البروفيسور الدكتور مجدي يعقوب. لهذا وجب طرح السؤال، وإلقاء الضوء على هذه الجراحة.

"لقد مرت زراعة القلب بعدة مراحل بدأها عام 1905 الطبيب البريطاني الشهير "اليكس كارليل" صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول" عندما قدم أمام الجمعية الطبية بمشفى جون هوبكنز عملية زرع تجلب قلب في رقبة كلب. وتتالت بعدها التجارب لزراعة القلب عند الكلاب دون نتائج مهمة حتى العام 1961 حين قام "شاموي" بأول عملية زرع قلب ناجحة عند الكلب، حالا بذلك مشكلة خياطة الطعم. ولكن ولادة زرع القلب عند الإنسان كانت على يد كلود برنار عام 1967، حين قام في كاب تاون في جنوب إفريقيا بزراعة أول قلب لمريض لكن النجاح لم يدم سوى 18 يوما توفي بعدها المريض بسبب رفض حاد. وبعد عملية كلود برنار دخلت زراعة القلب عند الإنسان مرحلة تميزت بتكنيك جراحي واضح. وتقريبا بدون مشاكل فنية تذكر. لكن الوفاة السريعة بعدها كانت القاعدة سواء بسبب الرفض أو الالتهابات، وحدثت فترة من التوقف النسبي استمرت حوالي 15 عاما وإن لم تكن بسبب اختلاطات مرحلة ما بعد الزرع فقط وإنما كذلك بسبب التطور الهائل الذي حدث في مجال العلاج الدوائي لقصور القلب سواء كان ذلك بالمقويات القلبية الحديثة أو الموسعات الوعائية والتي أدت إلى تحسن كبير في الحالة الوظيفية للمريض وإطالة فترة حياته. استمرت فترة شبه التوقف هذه حتى العام 1981 الذي ظهر فيه أحد أهم مثبطات المناعة وهو السيكلوسبورين والذي أحدث انقلابا في زراعة الأعضاء بشكل عام "الكلية والكبد". وأدى ظهور السكلوسبورين إلى دفع زراعة القلب شوطا كبيرا إلى الأمام بتخفيض نسبة الرفض بشكل كبير، ومثل أي مجال علمي آخر فإن العقبات لا تنتهي والتطور لا يتوقف، وتكمن العقبة الأساسية حاليا في تأمين عدد أكبر من المعطين فلم تعد زراعة القلب تتم بين معط وآخذ من نفس المشفى فقط، فالأمر تجاوز مشافي المدينة أو المنطقة الواحدة إلى تعاون مبرمج عن طريق مؤسسات مختصة بهذا المجال تقوم بتأمين القلوب على مستوى البلد كله والبلدان المجاورة مع الأخذ بعين الاعتبار المستوى الإسعافي المتقدم في البلد الواحد والدول المجاورة لنقل القلوب بالسرعة اللازمة مستخدمة شتى وسائط النقل المتوافرة اعتبارا من "الموتوسكل حتى طائرات الهليوكوبتر". والنقطة الثانية والتي هي أيضا مجال دراسة وتطور علمي تكمن في حفظ قلب المعطي فترة أطول ليستفيد المعطي والآخذ منه بشكل أكبر ونذكر هنا إحدى الوسائط الحديثة المتبعة وهي شل عضلة قلب المعطي قبل نزعه بواسطة دم غني بمواد مغذية "سبارتات وغلوتامات" مما يسمح بفترة حفظ أطول وكذلك تحسين وظيفة العضلة القلبية بعد الزرع.

المعطي والآخذ

إن المرضى المرشحين لزراعـة القلب هم عادة المصابون بقصور في وظيفة العضلة القلبية في مراحلها النهائية حيث يتوقع حدوث الوفاة خلال أقل من 12 شهرا. كذلك فإن المرشح للزرع يجب أن يمتلك صفات معينة: فالعمر يجب أن يكون تحت 60 سنة ويجب ألا يكون مصابا بمرض آخر ينقص من عمره وغير مصاب بالتهابات شديدة أو داء سكري شديد أو قرحة اثنى عشرية نشطة (تحول دون استعمال الكورتيزون خاصة) كذلك ينبغي أن يكون ذا وضع نفسي مستقر وراغبا في الحياة، ذلك أن المتابعة والعلاج بعد الزرع يحتاجان إلى صبر طويل. وبعد ذلك يوضع المرشح على لائحة الانتظار مع زمرته الدموية والنسجية وحسب شدة الإصابة وضمن فئة المرشحين للزرع السريع نذكر أولئك المصابين باحتشاء عضلة قلبية "جلطة مع صدمة قلبية والذين يحتاجون إلى حل سريع وإسعافي ريثما يتأمن المعطي الملائم. وفي مثل هذه الحالات يمكن اللجوء إلى ما يسمى بجسور الزرع (كالقلب الصناعي جارفيك/ 7) والتي ما زالت حتى الآن علاجات مؤقتة يمكن أن تقدم فائدة كبيرة في فترة حرجة.

أما بالنسبة للمعطي فيجب أن تتوافر فيه الصفات التالية: عمر أقل من 45 سنة، مصاب بموت دماغي مثبت وغير مصاب بمرض قلبي سابق أو مرض صدري شديد أو التهاب، كذلك سلبية التفاعلات المصلية المتعلقة بالزهري والإيدز ولم يتعرض إلى توقف قلب احتاج إلى تدليك قلب خارجي، وطبعا وجود توافق فصيلة الدم واللمف، والوزن والطول "نسبيا". ومع أن معظم القوانين تسمح بإجراء الزرع دون موافقة الأهل إلا أن العرف المتبع حتى الآن في معظم المراكز يقضي بأخذ موافقتهم وينقل بعدها المعطي إلى غرفة العمليات لنزع القلب وينزع معه عادة أعضاء أخرى للزرع "كالكلية والكبد والبنكرياس". وتتم عملية نزع القلب على النحو التالي: تحضر الأوعية الأساسية "الأبهر - الشريان الرئوي - الوريد الأجوف والأوردة الرئوية" تحقن المادة الشالة للقلب بوضع سيروم مثلج على القلب ثم تقطع الأوعية ويوضع القلب في وعاء يحوي (سيروم) مثلجا يغطي بإحكام من ثم في حافظة مليئة بالثلج. وتوضع ضمن الحافظة عينة من دم وعقدة لمفاوية للمعطي.

وتدون المعلومات الخاصة بالمعطي كالعمر والطول والوزن ونتيجة تخطيطات القلب وصورة الصدر وآخر فحص حيوي له.

وتتم عملية الزرع على النحو التالي: بعد التأكد من وصول قلب المعطي إلى غرفة العمليات ينزع قلب الآخذ بعد ترك جزء لا بأس به من الشريان الأبهر والشريان الرئوي والأذينين. يستخرج القلب من وعائه وتجرى مفاغرته مع أوعية وأذينات قلب الآخذ، ثم يدفأ بالتدريج حيث يعود عادة إلى العمل بحالة رجفان بطيني ويرد إلى انتظامه بإجراء صدمة كهربائية.

وهذا القلب يحتاج عادة لبضعة أيام كي يقوم بوظيفته الطبيعية مما يتطلب في هذه المرحلة علاجا بمقويات قلبية.

وبعدها تأتي مرحلة المعالجة بالأدوية المثبطة للمناعة: السيكلوسبورين، والكورتيزونات، والأزاثيوبرين، والجلوبيولينات.

وفي فترة ما بعد العمل الجراحي مباشرة تتم المعالجة بإعطاء الكورتيزون عن طريق الوريد مع الأزاثيوبرين والجلوبيولينات المضادة للمفاويات واعتبارا من اليوم الثاني يبدأ بإعطاء السيكلوسبورين ومن ثم وبعد الخروج من قسم العناية المركزة تخفض جرعة الكورتيزون بالتدريج حتى يوقف ويتابع العلاج بالسيكلوسبورين مع الآزاثيوبرين. ويخرج المريض من المشفى بعد شهر تقريبا من العمل الجراحي ويتابع بعدها بشكل دوري مرة كل شهر في السنة الأولى، ومرة كل شهرين في السنة الثانية ثم مرة كل 3 شهور اعتبارا من السنة الثالثة.

وهدف هذه المتابعة تحري الرفض والالتهابات وعلاجهما وكذلك الأعراض الجانبية والسمية للأدوية المثبطة للمناعة التي لها تأثيرات سمية دموية "الأزاثيوبرين"، وكلوية وكبدية السيكلوسبورين.

ويظهر الرفض الحاد بأعراض كثيرة لكن أهمها تدهور وظيفة القلب ويتم تشخيصه بواسطة إجراء "ايكو غرافي" للقلب مع "دوبلر" والذي في حال إيجابيته يتم التأكد من التشخيص بأخذ عينة من باطن القلب عن طريق منظار عبر الوريد وهو إجراء سهل ومأمون ويمكن تكراره أكثر من مرة حتى أن بعض المراكز تلجا إليه بشكل دوري "كل ستة أشهر مثلا" لتحري الرفض بشكل باكر.

وتتم معالجة الرفض الحاد بإعطاء الكورتيزون بجرعات كبيرة عن طريق الوريد مع الجلوبيولينات المضادة للمفاويات وفي حال فشل هذه العلاجات تجرب الجلوبيولينات وحيدة النوع "OKT3"

أما الرفض المزمن فهو عبارة عن تصلب شرايين إكليلية متسارع يؤدي إلى احتشاء عضلة القلب بدون ألم (القلب المزروع يفقد التواصل مع الجهاز العصبي) أو وفاة فجائية ولتحري هذا الرفض يلجأ إلى إجراء قسطرة دورية مرة كل عام، ولكن مع الأسف لا يوجد علاج فعال لهذه الإصابة التي تعتبر من أخطر مضاعفات "المرحلة الثانية"، التي تؤرق المهتمين بزراعة القلب والرافضين أيضا، وهي بشكل أساسي التهابات رئوية وتتطلب علاجا مثيرا وفعالا وتكتشف عن طريق ملاحظة ارتفاع درجة الحرارة، كما ينبغي معالجة البؤر الالتهابية أولا بأول سواء كانت بسبب الأسنان أو الأذن أو غيرهما.

صعوبات وآمال

أخيرا نستعرض النتائج الحالية لزراعة القلب والتي تتلخص في أن فترة الحياة بعد خمس سنوات من الزرع تقارب اليوم 70% أو أكثر قليلا. ومعظم المرضى في وضع وظيفي جيد درجة أولى حسب تصنيف NYHA، أي لم يعودوا يشعرون بالتعب وضيق النفس، وقد استعادوا فعاليتهم ونشاطهم الطبيعي قبل المرض بنسبة 30 - 70% وذلك طبعا حسب نوعية هذا النشاط.

وكذلك فإن نوعية حياة المريض تكون قد تحسنت بشكل كبير حيث ازدادت ثقته بنفسه وبالمستقبل وتشكل لديه شعور بالنجاح والامتنان للجميع، كما لوحظ أيضا تحسن علاقته مع العائلة ومع زملائه بالعمل ومع الوسط الطبي وصلات الصداقة.

وعلى الرغم من مشاكل وصعوبات المعالجة والمتابعة لمرحلة ما بعد الزرع فإن النتيجة تبدو إيجابية وفي دراسة إحصائية وجه إلى عدد من المرضى الذين خضعوا إلى زرع قلب السؤال التالي: ماذا لو أعيد لكم الزرع ثانية؟ فكان الجواب: نعم بنسبة 95%.

وما دمنا بصدد الصعوبات فمن العدل أن نذكر بتلك المتعلقة بالطب والطبيب بدءا من تأمين الطعوم وانتهاء بتحري الرفض وعلاجه.

لكننا لا نهمل أيضا أن جراحات زرع القلب عبر مسيرتها الصعبة، في نجاحاتها وتعثراتها، قد فتحت الطريق أمام خطوات مستقبلية توحي بأن هذه الجراحة المتقدمة لن تتوقف بل ستستمر وتتطور، ففي مستشفى هارفيد نفسه - الذي ثارت من حوله العواصف - تم تطوير قلب صناعي قادر على إبقاء المريض على قيد الحياة لمدة شهر حتى تتم له عملية زراعة قلب جديد. كما أن باحثا للهندسة الوراثية ضمن فريق البروفيسور مجدي يعقوب يحقق نجاحات على طريق توليد حيوانات ذات قلوب يتشابه البروتين فيها مع البروتين الإنساني، ومن ثم تكون صالحة للزرع في صدور البشر. وعن هذا يقول الدكتور مجدي يعقوب: "إن هذا سيكون انقلاب القرن" فلننتظر، ونر.

جميل خباز مجلة العربي ديسمبر 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016