لا أظن أن شاعرًا عربيًا عبر عنه عنوان ديوانه الشعري الوحيد وكأنه صورة فوتوغرافية له كما عبر ديوان «إشراقة» عن صاحبه التجاني يوسف بشير.
وهذا الشاعر السوداني الذي رحل قبل أن يكمل الخامسة والعشرين من عمره في العام 1937م كان بالفعل إشراقة شعرية أضاءت ديوان الشعر العربي بالكثير من الصور الإنسانية البالغة العذوبة، وجعلت منه أحد الشعراء العرب القلائل الذين رحلوا في سن مبكرة بعد أن عانوا الكثير ليس من الأمراض التي استوطنت أجسادهم الفتية وحسب، بل أيضا من الأمراض التي أنتجتها مجتمعاتهم الرافضة لأفكارهم المتمردة، ولعل تلك الأمراض المجتمعية كانت هي الأقسى والأمر.
حدث هذا مع شاعر تونس أبي القاسم الشابي، وشاعر الكويت فهد العسكر، وشاعر الأردن عرار، وآخرين أيضًا تحققت لهم الشهرة بعد رحيلهم. أما التجاني يوسف بشير فهو مع الأسف مازال شبه مجهول من قبل العرب بالرغم من أن السودانيين أعادوا الاعتبار إليه أخيرًا، ومازالوا في طور تقديمه لمتذوقي الشعر ودارسيه ونقاده كما يليق به وبتجربته المتفردة.
ولد أحمد بن بشير بن الإمام جزري الكتيابي في أم درمان في السودان العام 1912م، ولقب بالتجاني تيمنا بصاحب الطريقة الصوفية التجانية والتي كانت الطريقة التي تتبعها أسرته كعادة كثير من الأسرة السودانية. لكن تلك الطريقة الصوفية التجانية لم تكتف بأن تهديه لقبه الذي عرف به وحسب بل أثرت عليه لاحقًا بطريقة جعلت من شعره مرآة صوفية تتردد فيها صور التصور وإشراقاته بطريقة غير مسبوقة على هذا الصعيد عربيًا.
نشأ التجاني في تلك البيئة الدينية الغارقة في تهويمات التصوف وإشراقاته وفي كنفها تلقى دروسه التعليمية الأولى على يد عمه الشيخ محمد الكتيابي فحفظ القرآن الكريم، وعيون الشعر العربي، وتعلم مبادئ النحو والصرف وعلوم اللغة العربية، ثم توجه لاستكمال تعليمه العالي في المعهد العلمي في أم درمان لدراسة الفقه وآداب اللغة العربية وغيرهما من دروس يهتم بها ذلك المعهد في أوائل القرن العشرين.
ولأن الشعر كان قد تغلغل في وجدانه الإبداعي منذ صباه ، فقد كانت تلك الفترة الدراسية فترة النضج المبكر لتلك الموهبة الفائرة.
كتب التجاني وهو على مقاعد الدراسة في المعهد العلمي الكثير من القصائد التي أبرزت شخصيته الإبداعية بشكل واضح، ودلت على منابع الإلهام لديه، كما أنها كانت تعبيرًا عن التمرد المجتمعي الذي بدأ يتصاعد في نفسه الحزينة على أوضاع وطنه ومواطنيه تحت وطأة الاستعمار البريطاني من جهة، واستعمار الجهل والتخلف والمرض والفقر من جهة أخرى.
وكمعظم زملائه من الشعراء العرب الذين تمردوا على تلك الأوضاع في بلدانهم، وضعه المستفيدين من بقاء تلك الأوضاع على ما هي عليه نصب أعينهم فكانوا يتحينون الفرص لتصيد ما يمكن تصيده من قصائده ومواقفه وبما يشجع على المجتمع المحافظ ضده. وفي إحدى قصائده كان لهؤلاء المستفيدين ما أرادوا، ففي تلك القصيدة انتصر التجاني يوسف بشير لأحمد شوقي إثر مقارنة أجراها البعض بينه وبين مجايله حافظ إبراهيم. ونتيجة لتشبعه باللغة القرآنية والتعبيرات الدينية الإسلامية فقد وصف شعر شوقي في سياقات تلك اللغة، وقال فيما قيل وروي عنه ما معناه أن فضل شعر شوقي على شعر معاصريه كفضل القرآن على سائر الكتب. وعلى الرغم من استخدام الشاعر الفني لتلك العبارة إلا أن خصومه وجدوها فرصة سانحة للنيل منه، حيث اتهموه بالزندقة والإساءة للقرآن وللإسلام، ودفعوا مدير المعهد العلمي الذي كان مازال يتلقى تعليمه فيه إلى فصله منه بشكل نهائي، عقوبة له على تلك التهمة التي اختلقوها له اختلاقًا.
فصل الشاعر الموهوب من المعهد إذاً وحرم من إكمال مسيرته التعليمية في وطنه أولا، ثم في مصر التي أراد أن يرحل إليها لإكمال دراسته فيها لولا أن أهله حرموه من السفر. لكنه بقي شاعرا، بل إن تلك الحوادث عززت روح التمرد في داخله، فعمل بائعا في محطة للوقود بدلا من أن يخضع لاشتراطات تنال من حريته الإبداعية، ثم عمل بائعًا في متجر لبيع مكائن الخياطة، بالإضافة إلى عمله المتقطع في الصحافة، وهو في أثناء ذلك كان يضع لمساته الأخيرة على إصداره الشعري الأول، والذي قدر له أن يكون الأخير. فقد تهاوى تحت وطأة مرض السل العضال الذي ألم به وملأ صدره بالأدران، وروحه بالأوجاع والوساوس أيضًا. وقد عبّر عن كل تلك الأوجاع والوساوس في قصائده التي جمعها في ذلك الديوان اليتيم والذي أسماه «إشراقة»، تدليلاً على تفاؤل صوفي شفيف لم يتمكن منه المرض وتبعاته، فبقيت تلك الإشراقة صورة أبدية لشاعر النيلين.
والقارئ لإشراقة التجاني يوسف بشير يستطيع أن يحس بتلك الروحانية الغامرة التي ميزت شعره وأضفت عليه خصوصية جعلت من تجربته تجربة فريدة من نوعها على الصعيد الفني من بين مجايليه من الشعراء العرب، ويتحسر على هذا الشاعر الفذ والذي تركه وراءه إشراقته الخالدة وبعض قصائد أخرى لم يقدر لها أن تصل إلينا كما يقول بعض معاصريه ومن كتب عنه وأرخ لمسيرته الشعرية. فقد أشار بعض هؤلاء إلى أن أسرته أحرقت الكثير من القصائد التي تركها وراءه بعد أن حكمت عليها بأنها غير صالحة للنشر لأسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية.. أو بلا أسباب. تمامًا كما فعلت أسرة شاعر الكويت فهد العسكر بقصائده.. لكم الله أيها الشعراء في كل زمان ومكان.