من أبرز خصائص التنظيم المؤسسي الجيد أن يُعرّفَ دور الحكومة والقضاء والسلطة التشريعية والهيئات المحلية، كما ينبغي عليه أن يحدد إطار عمل الأسواق والإنتاج والتوزيع، وأن يهتم بتعيين حقوق الملكية الفردية والجماعية وصيانتها، فضلاً عن تعريف حقوق الإنسان وبيان أساليب حمايتها وتعزيز ممارستها.
المؤسسات توفر للمجتمع إطار عمل يمكن أفراده من تنسيق أنشطتهم وجهودهم بطريقة شفافة ومنظمة، ومهمتها أن تقي المجتمع من التقلبات العارضة والمخاطر المفاجئة، كما تحميه من التعسف وإساءة بعض الأفراد استخدام سلطاتهم أو نفوذهم بما يضر بأغلبية أفراده.
يتضمن هيكل المؤسسات مجموعة من القواعد الرسمية والعرفية المنطوية على قيود وحوافز تهدف إلى تيسير بلوغها لأهدافها وتحقيق الغرض من إنشائها. ويستند الشكل التنظيمي للمؤسسات على القوانين أو اللوائح أو المراسيم أو العقود، أو خليط من كل ذلك، كما يتضمن مجموعة من الآليات والإجراءات التي تساعد الأفراد على التفاعل مع المؤسسات وصولاً لبلوغ أهدافهم وحماية حقوقهم ومصالحهم وتحقيق تطلعاتهم.
ولأهمية المؤسسات في حياة الأمم أصبح من المسلمات اليوم الإقرار بأهمية الإصلاح المؤسسي لضمان نجاح استراتيجيات التنمية الاقتصادية بما في ذلك معدل النمو ورفع مستوى الإنتاج. فالمؤسسات الجيدة أمر جوهري لتحسين مستوى الكفاءة الاقتصادية من خلال دورها في التأثير على الحافز نحو الادخار والاستثمار والإنتاج والتوزيع. ولعل ذلك ما أدركته أخيراً المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين التي باتت بعد عقود من الإهمال والتجاهل تكرّس جانباً من جهودها لدراسة وتحليل الإصلاح والتطوير المؤسسي من حيث أهميته وأساليبه وعوائقه وانعاكاساته ونتائجه. وعلى وجه الخصوص بدأ الاقتصاديون يدرسون مدى تأثير كفاءة المؤسسات السياسية والنظم القانونية ومنظمات المجتمع المدني والقواعد الحاكمة للأسواق على الوضع الاقتصادي لدولة من الدول.
الإصلاح المؤسسي من أين؟ وكيف؟
غير أنه لا خلاف بين الدارسين حول وجود نقص كبير في المعرفة بشأن الطريقة المثلى لتطبيق الخطط الجيدة للإصلاح المؤسسي على أرض الواقع في ضوء معطيات كل مجتمع. فبعض أنواع الإصلاح المؤسسي تظهر نجاحاً بارزاً في دولة من الدول، على حين قد تواجه على العكس بمعوقات جسيمة ولا يكون لها تأثير واضح أو تنتهي بالفشل في دول أخرى.
ويثير تبني بعض المسئولين العرب زيادة معدل النمو الاقتصادي كهدف أسمى لسياساتهم الحكومية تساؤلاً عن مدى واقعيته في النهوض بمجتمعاتهم ومستوى الرفاه العام فيها ومدى قابليته للاستمرار وتحقيق تنمية متواصلة، خاصة إذا لم يُقر في الوقت ذاته برنامج طموح وجاد للإصلاح المؤسسي. الواقع أن هؤلاء المسئولين يواجهون عادة خياراً صعباً، فإما أن تنحاز السياسات التي يتبنونها لمصلحة نمو اقتصادي سريع ومضمون في الأجل القصير، وإما أن تكون تلك السياسات أكثر شجاعة وإخلاصاً فتتبنى إصلاحاً مؤسسياً جاداً قد تتأخر لبعض الوقت نتائجه الإيجابية ولكنها ستكون أكيدة المفعول ومفيدة على المدى الطويل.
قد يتعين الاعتراف بداءة بأن مدى الإصلاح المؤسسي الذي نحتاج إليه في بلادنا العربية يبدو واسعاً للغاية وعميقاً. فحتى إذا نظرنا للإصلاح من وجهة نظر اقتصادية بحتة. فإن النجاح الاقتصادي يتوقف على الاستقرار الاقتصادي الكلي macroeconomic stability الذي تأثر بدوره بمدى كفاءة وشفافية المؤسسات الحاكمة للمجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فهذه المؤسسات تمارس تأثيراً مباشراً وغير مباشر على الاقتصاد الكلي من خلال التنظيم القانوني واللائحي للأسواق ومدى تشجيعها للمنافسة الحرة ومحاربة الاحتكار، ومدى كفاءة الحماية القانونية لحقوق الملكية، ومدى مكافحة الفساد والتقليل من التعقيدات البيروقراطية، ومدى الحرص على محاربة الفقر والتفاوت الاجتماعي، ومدى جودة وكفاءة تخصيص الموارد، كذلك لاشك في أن البيئة القانونية الجيدة تشريعياً، والحاسمة بعدل قضائياً، والتنظيم الجيد للقواعد الحاكمة لسوق العمل وللأجور والأسعار، والمؤسسات المالية العاملة على تعبئة الموارد المحلية والخارجية اللازمة للتوسع في الاستثمار المنتج، والنظام التعليمي القادر على تأمين عاملين ذوي قدرات ومهارات متميزة، ونظم التأمين الاجتماعي التي تحقق تماسك اللحمة الاجتماعية وتمتص القلاقل والاضطرابات الاجتماعية، إنما تشكل جميعاً قاعدة جوهرية لأي نجاح اقتصادي متميز ومستمر. والتغلغل عن هذه الحقيقة سيقود لا محالة لانهيار معدل النمو الاقتصادي سريعاً مهما ظهر مرتفعاً وباهراً في المدى القصير.
جدير بالقول إن النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية التي يتبناها بعض هؤلاء المسئولين تركز على أهمية الحفاظ على معدل نمو اقتصادي مرتفع، ولا تشرح كيف يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة التي تنعكس على حياة مختلف فئات وطبقات المجتمع، وذلك لأن هذه النظرية - ببساطة - قد صيغت لخدمة الاقتصادات المتقدمة. ويختلف الوضع في حالة البلدان النامية التي مازالت تحتاج إلى إطار نظري أوسع يركز على أهمية وجود مؤسسات سياسية واقتصادية تتميز بالنزاهة والكفاءة، وتكون قادرة على توفير المناخ الذي يحفز النشاط الاقتصادي الإنتاجي والمشاركة السياسية الإيجابية الواسعة، وتحمي حقوق الإنسان وحقوق الملكية في آن واحد. ومثل هذا الإصلاح الواسع لابد أن يستوعب المعارف والمعتقدات والأعراف المحلية، وأن يراعي الظروف والأوضاع القائمة على أرض الواقع، كما لابد لنجاحه من أن يتسم بالتدرج ولكن في ظل رؤية استراتيجية واضحة وراسخة.
لهذا نجد اليوم أن معظم كبار المفكرين والاقتصاديين الغربيين أنفسهم يعترفون بفشل سياسات التنمية في الدول النامية لأنها تقوم على افتراض وجود مؤسسات سياسية واقتصادية على قدر مقبول من الكفاءة، على حين أن الخطوة الأولى التي كان يجب القيام بها هي إقامة أو إصلاح هذه المؤسسات - إن وجدت، فضلاً عن تحقيق الشفافية وانسياب المعلومات ليتمكن المواطنون من اتخاذ خياراتهم الرشيدة.
الإصلاح السياسي أولاً
التحدي الحقيقي الذي يواجه البلدان النامية هو إنشاء مؤسسات ذات كفاءة عالية ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن أيضاً على المستوى السياسي، فيجب ألا نتغافل عن حقيقة أن المؤسسات السياسية هي التي تضع القواعد الحاكمة للمؤسسات الأخرى، وتقوم على تنفيذها، فإذا افتقد المجتمع النظام السياسي النزيه والكفء غاب أمله في تحقيق التنمية والتقدم.
وحتى في مجال الإصلاح الاقتصادي، فإنه يجب ألا يكون خيارنا الوحيد هو تطبيق النظرية النيوكلاسيكية، لأنه إذا كنا نسلم بأن المنافسة تشكّل الأداة الأكثر كفاءة لضبط الأسواق وتنظـيم النشاط الاقتصادي، فإن الواقعية يجب أن تدفعنا للاعتراف بأن الأسواق ليست جميعاً سليمة، وأن المنافسة فيها نادراً ما تكون تامة، ومن ثم فإن مصلحة المجتمع تقتضي عدم السماح بإهدار الموارد العامة المحدودة في خيارات تتسم بعدم الكفاءة أو سوء الاستغلال تحت دعاوى الحرية الاقتصادية. فحين تفتقد بعض الأسواق عنصر المنافسة وتسود السلوكيات الاحتكارية ويتسم سلوك المنتجين أو الموزعين بالذاتية والأنانية التي تضر بالمستهلكين كما في حالة تقليل الإنتاج لأهداف احتكارية أو زيادة الأسعار بشكل مصطنع، أو إبرام اندماجات بين الشركات للسيطرة على الأسواق. فإن تدخل الدولة التنظيمي يصير مفيداً وضرورياً لحماية المستهلكين، خاصة إذا طبّقت وفعّلت قوانين جيدة لمحاربة الاحتكار والغش التجاري والدعاية الكاذبة، وهو ما سبقت إليه وطوّرته الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الدول الرأسمالية في التاريخ.
ومع ذلك، ينبغي ألا نقلل من شأن المخاطر والنفقات المترتبة على التدخل التنظيمي من جانب الدولة، فإلى جانب النفقات المباشرة التي تتحملها الحكومة والمتمثلة في الأعباء المالية من وراء إنشاء وتشغيل الإدارات والأجهزة المختصة بالرقابة، فإن هناك نفقات أخرى يقع عبؤها على المشروعات والأفراد تتخذ صورة أثمان أعلى ونفقات أكبر. وكذلك قد يفضي هذا التدخل إلى نتائج غير مباشرة كتقليل المرونة وتحجيم المبادرة وتخفيض الإنتاجية وتقليص القدرة التنافسية وتشجيع سلوكيات غير رشيدة لدى بعض منشآت القطاع الخاص. فضلاً عن إتاحة الفرصة لغياب الشفافية والتلاعب، سواء من جهة موظفين غير شرفاء أو من جانب منشآت محرّضة على الرشوة والفساد.
التدخل سلاح ذو حدين
وهكذا يتبين أن التنظيم بالرغم من أهميته يظل مثل أي أداة من أدوات السياسة الاقتصادية قد يكون مفيداً ويحقق أهداف المجتمع في تأمين النشاط الاقتصادي ضد المخاطر التي ترتبط به، وقد يتحول في أحيان أخرى إلى عائق جدي يصيب النشاط الاقتصادي بمخاطر الجمود وعدم الشفافية والفساد. ولذلك لابد من صياغة القوانين واللوائح التي تنظم عمل المؤسسات الاقتصادية بقدر كبير من الذكاء، وأن تظل في أضيق نطاق ممكن وأن تستدق آليات تمكن من المتابعة والرقابة والتقييم المستمر للجهات التي تطبقها لضمان عدم انحرافها أو إعاقتها غير المبررة للكفاءة الاقتصادية. ويمكن أن نعمم المفهوم نفسه على المؤسسات الأخرى غير الاقتصادية، والتي نجد بعضها تحاول أن تضع نفسها في مكانة أسمى، مقارنة بغيرها من المؤسسات وتفتئت على استقلالها واختصاصاتها بالادّعاء أنها سيادية وغيرها ليست كذلك.
ولعل مشكلة المؤسسات في البلدان التي تتميز بتقاليد بيروقراطية مستحكمة هي أنها تصاب بالجمود وتصبح تدريجياً غير قادرة على التكيّف مع الحوافز مما يظهر فجوة واضحة بين أدائها حسبما يجب أن يكون وفقاً للقواعد الرسمية ونتائج الأداء الفعلي حسبما يشعر به المتعاملون معها. وقد وصل الأمر أحياناً إلى أن تدير الدولة هرماً من المؤسسات والهيئات والمصالح والإدارات والمرافق بدلاً من أن تضع إطاراً مؤسسياً تزدهر فيه مبادرات الأفراد والجماعات ومواهبهم الخلاقة.
يبدو جلياً مما سلف صعوبة الموقف الذي تواجهه بلادنا حيث يتعين عليها أن تحافظ على مؤسسات تحمي مواطنيها من تغول أنانية البعض وتعسفهم في استغلال نفوذهم أو قوتهم الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، تضع القيود التي تحد من بيروقراطية وتعسف هذه المؤسسات لما لذلك من تأثيرات سلبية على المبادرة الفردية والجماعية، وتضع الحوافز التي تسمح للمؤسسات بالاحتفاظ بقدر عال من الكفاءة في تنفيذها للمهام الموكلة إليها.
والحقيقة أن الإصلاح المؤسسي ليس مهمة سهلة، فتحويل الأفكار الجيدة إلى سياسات ملائمة ومتميزة يعد دائماً تحدياً صعباً، خاصة إذا كانت له انعكاساته على حياة البشر ومستقبلهم، وكان من الصعب توقع نصيب هذه السياسات من النجاح الواقعي، فالعلاقة بين السبب والنتيجة هنا معقدة وتمتد لعقود عدة، وليست مضمونة، فضلاً عن طبيعة الإصلاح كعملية مستمرة طويلة الأمد وارتباطها الوثيق بالرؤية والإرادة السياسية، ومع ذلك، لا مخرج من هذا المأزق سوى إقامة مؤسسات ذات كفاءة عالية ومهام محددة وواضحة أو إصلاح المؤسسات القائمة، والتي تكاثرت في بلادنا في العقود الأخيرة.
غياب اليقين ليس عيباً
وتظهر جدوى الإصلاح عندما نقتنع بوضوح أن بقاء الوضع على ما هو عليه أقل كفاءة من النتائج الموقعة للتغيير المقترح، وإن لم يحقق هذا الأخير بالضرورة الوضع الأمثل، فالإصلاح سيقود في هذه الحالة بالرغم من كل شيء إلى تعظيم الرفاه الاجتماعي. بيد أننا سنواجه بوجود بدائل إصلاحية عدة تتفاوت في مدى كفاءتها وقد لانستطيع قياسها بيقين قبل الشروع في العملية الإصلاحية. ومع ذلك، فإن غياب مثل هذا اليقين ينبغي ألا يكون سبباً لإعاقة الإصلاح أو تأخيره، حيث من السهل الإحاطة بمؤشرات الكفاءة في السياسات الإصلاحية المقترحة إلى الحد الذي يقنعنا بأن الأوضاع بعد التطبيق ستكون أفضل نسبياً من الأوضاع السيئة القائمة.
ومن المنطقي أن يثور في النفس تساؤل عن سبب عدم تطبق إصلاحات تبدو منطقية وناجحة ومؤثرة في بلادنا على الرغم من مضي سنوات وسنوات من المعاناة المؤلمة والقصور الجلي والأوضاع المتدهورة والبيئة الراكدة والمشاكل المتفاقمة؟!
وبماذا نفسر النجاح الكبير للإصلاحات التي جرت في روسيا في السنوات الأخيرة بعد عقود سادت فيها مظاهر الفوضى والفساد والانهيار؟! وكيف نفسر النجاح الاقتصادي الصيني بالرغم من ضخامة المشاكل التي يعانيها هذا البلد؟ وينطبق ذات الأمر على دول عدة من بينها سنغافورة وماليزيا وتركيا والبرازيل وغيرها.
للإجابة عن هذا التساؤل لابد أن نضع في مقدمة اهتماماتنا دور المصلح، سواء كان قائداً فرداً يمارس سلطة ديكتاتورية على نحو أو آخر، أو كانت حكومة منتخبة انتخاباً ديمقراطياً نزيهاً، دون أن نغفل دور المصلحين على مستوى أقل من السلطة الحاكمة العليا والذين قد يحصلون على تفويض منها باقتراح وإجراء إصلاحات جزئية، أو قد يكتفون بمجرد تسامحها لإطلاق مبادراتهم. فمن المهم دراسة المؤسسات السياسية القائمة للتعرف على ثلاثة أشياء: مَن هم اللاعبون على الساحة السياسية وما مدى القوة والنفوذ الذي يحوزه كل منهم؟ وما هي تفضيلاتهم وأهدافهم المعلنة والخفية؟ وأخيراً ما هي قدرتهم على المساهمة في العملية الإصلاحية أو إعاقتها؟
وتلعب السمات الشخصية لقادة الإصلاح وقدراتهم القيادية ورؤيتهم الشاملة لأحوال المجتمع وإيمانهم بأهمية الإصلاح دوراً جوهرياً في المبادرة نحو الإصلاح وفي إنجازه. ولهذا السبب نجد أن الكتابات الحديثة أخذت تركز بشكل أكبر على تحليل المؤثرات والقيود ذات الطبيعة الشخصية للفاعلين السياسيين بدلاً من الاكتفاء بالتحليل الموضوعي لعوائق الإصلاح.
للفرد دور وللتفاوضية مكان
لا خلاف في أنه قد يترتب على التغيير الإصلاحي التأثير سلباً على أوضاع وامتيازات بعض القوى والشرائح الاجتماعية، ومن ثم فإنهم لن يدخروا جهداً في إعاقته أو إجهاضه. فضلاً عن خوف البعض الآخر المبدئي من أي إصلاح، بمنطق أن كل تغيير يشكّل بدعة وشر الأمور محدثاتها. فالإصلاح شعار من السهل قوله ومن الصعب تنفيذه، بسبب المقاومة التي يواجهها من داخل الكيان الحكومي ومن خارجه. فبعض قوى المجتمع حريصة على عدم المساس بأي وضع من الأوضاع المستقرة أو المزايا الموروثة، منطقية كانت أو غير منطقية. فأي إصلاح جزئي - فما بالك بإصلاح أكثر اتساعاً - يكاد يكون مستحيلاً أمام التكتل والتضامن المهني أو الفئوي أو الطائفي أو القبلي أو القائم على المصالح الخاصة الذي يملك عادة أدوات ومناورات كثيرة للإزعاج والإحراج ووقف الخطوات الإصلاحية.
ويتحقق الإصلاح عادة عندما تتوافق إرادة المشاركين في العملية السياسية على تحقيقه، وهو ما قد يتم بعد مفاوضات ومساومات بينهم، ولذا تلعب تفضيلات وحسابات هؤلاء المشاركين وقوتهم التفاوضية دوراً محورياً في مصير العملية الإصلاحية. وفي هذا المجال تشير نظرية دونالد كوز Coase Theorem القانوني الذي نال جائزة نوبل في الاقتصاد إلى أنه لا غنى عن استخدام أسلوب التفاوض، وربما المساومة لتعويض المضرورين من الإصلاح وجبر مشاعر المتخوّفين منه، وهو ما يدخل في إطار ما يطلق عليه نفقة المبادلات transactions cost. ويجب ألا نغفل أيضاً عاملاً آخر يؤثر في مصير الإصلاح وهو مدى بعد المسافة بين كل من الأوضاع والسياسات القائمة والأوضاع والسياسات المستهدفة، فكلما زادت المسافة واتسعت الفجوة بينها زادت نفقة المبادلة وشاب العملية الإصلاحية قدر أكبر من عدم اليقين.
ربما آن الأوان لتقتنع النخبتان المثقفة والحاكمة بأنه من الأفضل لمجتمعاتنا الشروع في برامج منتظمة ومتناسقة ومستمرة للإصلاح والتغيير نحو الأفضل، فغياب الإصلاح يقود إلى الشكوى المريرة والاحتجاجات وفقدان الثقة وتدهور الكفاءة الاقتصادية وتردي الأحوال الاجتماعية وانتشار الفساد وغياب الشفافية ونشأة أوضاع ريعية يحاول المستفيدون منها تأبيد امتيازاتهم إلى آخر مدى ممكن. كل ذلك سيقود عاجلاً أو آجلاً إلى نشأة أزمات مجتمعية خطيرة وتدهور الوضع الإقليمي والدولي للدولة، وسيصبح الوطن ونخبته على السواء في مأزق حقيقي. ومع ذلك، يتعين على كل دولة أن تصيغ استراتيجيتها الإصلاحية التي تتناسب مع أوضاعها ومعطياتها الخاصة، فليس هناك إصلاح حقيقي قابل للحياة يمكن استيراده معلباً من الخارج.
خطوات متدرجة متناسقة في إطار
وللنجاح في الإصلاح المؤسسي يتعين مراعاة مجموعة من الأسس أبرزها أن الإصلاح يجري على نحو أفضل عندما تتوالى الخطوات والإجراءات الإصلاحية بشكل متناسق ومنطقي وذكي، فلا تتناقض مع بعضها بعضاً، ولا يعطل بعضها بعضاً ولا تتنافر أهدافها. ولا تتعارض مع المستجدات المحلية أو الخارجية التي قد تحدث أثناء عملية التنفيذ. كذلك لابد من أن تندرج خطط الإصلاح في إطار نظرة كلية ولا تخضع لتأثير الاعتبارات الجزئية أو العارضة وحدها. فسواء عندما نعالج الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فإن السياسات الكلية والهيكلية التي ترنو نحو المدى الطويل إلى جانب الأجلين القصير والمتوسط لابد أن تحتل موقع الصدارة.
وفي كل الأحوال، يجب إعلام المجتمع بكل صراحة وشفافية عن المزايا والنفقات المترتبة على الإصلاح، وأن يتم الاستعانة في سبيل ذلك بكل الخبرات المتاحة، وأن يتقبّل دعاة الإصلاح نقد المعارضين الموضوعي والمغرض على حد سواء وأن يناقشوا أسانيدهم حتى تقتنع أغلبية المواطنين بأفضلية الإصلاح وأهمية دعمه، دون أن يتأثر دعاة الإصلاح بالنقد الشديد أو الهجوم الزاعق أو الاتهامات المرسلة التي يتوقع أن يوجهها معارضو الإصلاح دفاعاً عن مصالحهم أو خوفاً من التغيير وتجنباً للمخاطرة أو كسباً للتأثير على الرأي العام، فأثر كل ذلك محدود ومؤقت في مقابل مكاسب مؤكدة وثابتة في المدى الطويل والمتوسط للمجتمع ككل.
وإذا كان الإصلاح جدياً، فلابد أن يتم في إطار رؤية تعزز اللامركزية وتقلل تركيز السلطات في أيدٍ قليلة، وتفصل بين إنتاج الخدمات والرقابة عليها وتسعى لرفاهة المواطن البسيط دون اعتداد بالمصالح الذاتية المستقرة لطوائف البيروقراطيين والمتنفذين والمنتفعين من وراء الدور التقليدي المتوارث للدولة بوضعها الحالي. وكذلك يتعين التحلي بالمرونة والقدرة على التأقلم والاستفادة من المتغيرات الوقتية التي تمر بها أوضاع الدولة محلياً ودولياً حتى لا تنكسر أو تتوقف العملية الإصلاحية بسبب طارئ قد يحدث هنا أو هناك، ويتخذ ذريعة لإجهاض خطا الإصلاح أو التراجع عنها.
ولتحقيق كل ذلك على أرض الواقع يتعين توافر إرادة سياسية جدية ذات رؤية واسعة، مؤمنة بحتمية التطور وساعية لدعم عملية الإصلاح ومتابعته وتقييم متطلباته أولاً بأول وتقبل نتائجه، والالتزام باحترام البشر نساء ورجالاً الذين يستهدفهم الإصلاح ويؤثر عليهم، وإعطائهم التقدير والاعتبار الذي يستحقونه وتحفيزهم على تفهّم دواعي الإصلاح والسعي لجذبهم للمشاركة فيه والاستفادة من المزايا الناجمة عنه.