مختارات من:

بطاقة بريدية تصل إلى أبي بعد موته

شوقي عبد الأمير

أبي,

إنّى أمضي هذه الأيام في بيروت التي تُعانقُ أهوالَها وأهواءها بشغفٍ وعِشقٍ جُنوني, أَجدُني أمامَ مَرأى النخيل.. نَخلاتِ البساتين - هل تذكر - تلك التي كنت تأخذني إلى حُقولها مثل نَخلةٍ تقودُ فَسيلَها الصغير قبل أن يَشبّ ليُقتلعَ من جسدِها كما اقتلعتني الغُربةُ يوماً من يديك, هأنا أقتربُ منها, ألمسُها فيقشعرَّ بدنُها مع ارتجافِ كلِّ جوارحي, أتسلّقُها كما كنتُ.. أرضعُ جُمّارها - قلبَها - وأهبطُ كما تَساقطُ صفائحُ الطلع من قامتها, وهي تغطيني برداء حلميّ, حَصيرِ البهاء ووُشاحِ الزمن المتشقق يعلو كُلَّ اختلاجاتي وارتباكِ خُطواتي, لِتنسحب تاركةً أعضائي نِثاراً يلتفُّ باليود والزبدِ والصدفِ مُعلقاً في كعبةِ المنفى قَصيدةً وثنيةً ولا وثنَ إلاّ جُثتي المعبودة المنتظرة كمهديّ..

أبي,

أعرفُ أن كلماتي ستَصلُك حيثُ صار جسدُكَ الآن مفردةً أُخرى في قاموس العدمِ العراقيِّ الممدّد في وادي النهاية كما اعتاد العراقيون تسميةَ المقبرةَ العُظمى لهُم في صَحراء النجف.

ستصِلُكَ وستقرؤها حَرفاً حَرفاً وستَتلفّتُ حواليكَ بابتسامةِ طفلٍ يَقطفُ ثمراتٍ أولى طَلعتْ وترعرت بين يديهِ, وستأتلقُ عيناكَ - عينايَ بدمعةٍ واحدةٍ أراها الآن تسقطُ بين أجفاني فهأنا أكتشفُ الآنَ فقط أنك لم تغربْ كليّاً فقد تركْتَ لي بُؤبُؤ عينيكَ بلونه وحجمه وارتباكه.. إنني أُحِسُّ الآن بجُزءٍ بشريٍّ نابضٍ دامعٍ دامٍ منكَ يأتلقُ في محاجري..

هكذا إذن سنبقى نُحدّقُ معاً في نَهرِ الدمِ والذهبِ والطمي العراقي.. ونبكي معاً.

أبي,

هل تتذكرُ بساتينَ (المجيحشيّة) جنوب (سوق الشيوخ)(1) قبل أن يُلقي الفراتُ بخاصرتهِ الدامية في (هور الحمار), هناك حيث عرّفتني إلى نخلةٍ عجوز لتُصافِحَني وتَشدّني إلى صَدرها وأنا ألمحُ دموعَها تتساقطُ فرحاً بلقائي عندما قلت لي: هذا (سوباط) أقدم فَلاحٍ في بساتيننا.. لا أعرف عُمرَهُ ولا هو يعرف شيئاً عن هذا.. لقد حملكَ صغيراً ليعبرَ بك شط (الغرّاف) الذي فاضل علينا وكنتُ وأمُّكَ في ريفٍ جنوبي بعيد أُشيِّدُ أوّل مدرسةٍ لأبناء الفلاحينَ هناك..

أحسستُ حينها بأنك - بالفطرة والبداهة - لاتحسن التمييز بين الناسِ والنخيلِ في بلادي وأنك تعرفُ جيداً أنه عندما نُدرك هذا الفصل والانشطار بينهم ينكسرُ التجاسدُ في قطيعة لا تُدرك أعماقها..

القطيعة أراها وهاهي صورتها, أمامي على شوارع بيروت... فالنخيل هو الآخر يهاجرُ, كما الفرات يجفُّ على سريره والعراق بكيانه يُشَقَّقُ كالأرض اليابسة ليبتلعَ كلَّ مَنْ وما عليه..

أبي,

ستعرفها, لو رأيتها هذه (الأشرسيّة)(2) وكم كُنتَ تُحبُّ ثمراتِها التي تُقاومُ أكثرَ تحتَ الأسنان ولا تتعفن بسُرعةٍ... لم أنس قط ضحكتَك العالية عندما جِئتُكَ ببعضِ ثمارها وقد غَسلتُها بالماء..

عندها أدركتُ دُونَ أن تفوهَ لي بكلمة.. أنَّ ثمرَ القداسةِ هذا لا يعلُوه الماءُ ولا تنظّفُهُ المساحيقُ والمناديلُ.. إنه يظلُّ, بغُباره وبكل ما في أحشائهِ, نقيّاً شهيّاً أبداً.

أبي,

على مقربة نافذتي أرى النخلة التي كنتَ مُتَّ في حُضنِها إنها هي نفسها يا أبي.

بكمّاداتِ القُنّبِ المبتلّةِ فوقَ رقبتِها وَسطَ الرياح المتوسطيّةِ,

بلا اكتراثِ مَن رَضعَ من ماءِ التكوينِ,

باحتمالِ مَن يُدُبُّ في قامتهِ نَسغٌ من دمٍ وغُموضِ عائدٍ من بَرزخ,

تستوقفني كُلَّ صباحٍ

أعرفُ ارتباكَها, شظفَ قامتِها وتردُّدَها في الامتثالِ لمرآها فهيَ لا تحتملُ أن تَرمُقَها البيوتُ والعيونُ من أعلى كما تَفعلُ سُفوحُ الجبال المطلّةِ فوقها ولا هي تُحسنُ النظرَ في المالانهاية كما في شواطئ البحرِ الممتدِّ أمامَها والزرقَةُ عندها كانت سماويّةً فقط.

ثم إنها لم تعرف غير نَهرها الذي ورثتْهُ عن أبيها, الجنوب العراقي وأُمّها الأسطورة السومرية, يومَ كانَ اختلطَ الزمنُ بالطوفان... ومنذ ذلك, وهي تشهد حنينَ نهرها الجارف الذي يكابدُ ليصنَعَ طوفانَه الصغير فيغمُرَ كل الأرجاء إلاّ رأسها العالي, ليعودَ في كل مرّة إلى سريرهِ حاملاً مَعهُ بعضَ الزاد من أشلاء القرى الصغيرة التي كانت تقتاتُ على ضفّتيه.. غير أنَ المدَّ الأزرقَ المُحْدِقَ بها هنا من كل جانبَ مهما أزبدَ وأرعَدَ لا تَصِلُ موجاتُهُ إليها.

في سريرها السماوي, الريحُ - تمّوز يخصِبُها كلّ عام في فصلها المفضّل..

الصلصالُ مرآةُ ضفائرها

وأهوارُ العنبر بحيراتٌ لغسلِ أقدامها. وفي ليالي الشتاء تَسْتَدرُّ نشيجَ الدرابك والأغاني الجنوبيّة للبكاء على قتلاها... تعرفُ أن تقودَ الأنهار إلى المصبّات,

الغائبينَ إلى القُرى,

الطميَ إلى الحُقولِ والغرقى

إلى أمّهاتهم...

إنها نخلتي

مسلّتي,

يا أبتي

شوقي عبد الأمير مجلة العربي مارس 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016