لقد ظلت الجامعة مرتبطة بالتطلع إلى التقدم، خلاصا من التخلف، وإلى حرية الفكر تمردا على التسلط، وإلى تشجيع الاجتهاد الذي يقوم على حق الاختلاف ويتدعم به. وكان الارتباط بين معنى الجامعة ومعنى الاستقلال، يسقط كلا المعنيين على الآخر، بما يؤكد أن التبعية هي الوجه الآخر من الاتباع، والعبودية هي البعد الذي يكمل التقليد ويكتمل به، في مقابل الابتداع الذي هو شكل من أشكال التحرر، ووجه من أوجه الوعي بالهوية، في حضورها الخلاق الذي يؤسس نفسه بالتسامح، والحوار، والانفتاح على الآخر، والتطلع إلى ميراث الماضي بوصفه نقطة للبداية وليس نقطة للنهاية.
وكانت الجامعة في ذلك كله هي زمن العقل الذي استبدله التطور الثقافي الاجتماعي بالنقل، ساحة السؤال الذي أحله تقدم العلم محل التسليم، الشك الذي أنزلته معرفة العصر المتصاعدة منزلة التصديق، العلم الذي نجح في إزاحة الخرافة، حق الاختلاف الذي أبطل معنى الإجماع، روح المبادرة الفردية التي قضت على ضرورة لزوم الجماعة وعدم الخروج عليها. وكما ارتبطت الجامعة في تاريخها العالمي بتدمير سطوة التعاليم المدرسية والانصياع إلى القواعد الكلاسية الصارمة، برغم كل ما قيل عنها من أنها مؤسسات محافظة بحكم حرصها على تقاليدها، فإن الجامعة ارتبطت في الوطن العربي بالاستنارة والحداثة والتحديث، فبدأت فكرة في أذهان الطليعة التي عملت على الانتقال بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، ومن الضرورة إلى الحرية، ومن حقب الإظلام إلى عهد الاستنارة، وعندما تجسدت هذه الجامعة واقعا على أيدي هذه الطليعة تحولت إلى سلاح من أسلحة مواجهة كل ما يعوق أحلام التقدم والحرية والاستنارة.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن حلم الاستقلال السياسي للفرد والأمة على مستوى التحرر من التبعية، كان الوجه الآخر من حلم الاستقلال الفكري، على مستوى التحرر من الاتباع، وهو التلازم الذي فرض على الجامعة، منذ إنشائها مواجهة التسلط السياسي والقمع الاجتماعي ومحاربة التخلف والتعصب والجهالة والخرافة، بالقدر نفسه الذي كان عليها أن تحارب نقائضها التقليدية في مجالات التعليم المثاقفة. ولذلك كان تاريخ إنشاء الجامعة في الأوطان العربية نتيجة دعوة الطليعة المستنيرة وليس الحكام التقليديين، وبجهود الصفوة الواعدة من أبناء الأمة لتحقيق أحلامها بمجتمع مدني جديد.
أقدم جامعة عربية
وعندما نسترجع تاريخ الجامعة المصرية من هذا المنظور، بوصفها أقدم الجامعات العربية، نجد أن الدعوة إلى إنشائها جاءت مقترنة بوصول طليعة الاستنارة في مصر إلى درجة من القوة التي أصبحت معها قادرة على فرض حضورها على المجتمع وإشاعة دعوتها إلى الحداثة والتحديث في دوائر متزايدة. صحيح أن هذه الطليعة عرفت فكرة الجامعة الحديثة عن أوربا بعد أن تعلم الكثير من أبنائها في الجامعات الأوربية، ولكن هذه الطليعة تحولت بمعنى الجامعة إلى معنى من معاني استقلال الأمة والفرد، فأسهمت في تأكيد روح التحرر حتى عن أوربا التي نقلت عنها فكرة الجامعة الحديثة. ولذلك كان الجيل الأول من الطليعة التي تعلمت في أوربا، ورأى نموذج الجامعة الأوربية وعايشه معايشة دفعت به إلى التأثر والإفادة والنقل، هو نفسه الجيل الذي أكد الوعي الوطني القومي، وأسهم في تخليص معنى الوطنية من نقائضه، ودليل ذلك رفاعة الطهطاوي الذي كان في طليعة الذين أسهموا في تأسيس دلالة الرابطة الوطنية الحديثة، شأنه شأن تلميذه علي مبارك الذي أكمل مهمته التثقيفية.
والواقع أن الدور الذي قام به هذان العلمان في الإرهاص بوجود الجامعة دال، فبعد أن عاد الطهطاوي من فرنسا محملا بأفكار كثيرة، كان أول ما فكر فيه إنشاء "مدرسة الألسن" التي أنشئت فعلا عام 1836 فكانت نواة نوع جديد من التعليم العالي. وأكمل تلميذه علي مبارك المسار، فأضاف إلى مدرسة الألسن دار العلوم التي نقل فكرتها عن فرنسا التي أسهمت في تكوين وعيه المحدث، فكانت دار العلوم التي استهلت دورها عام 1871 البداية التي سرعان ما تطورت في مناخ متحول أشاع فيه رواد الاستنارة نوعا جديدا من الوعي بأهمية الجامعة وضرورة حضورها.
وجاء الجيل اللاحق ليؤصل فكرة الجامعة الأهلية في سياق جديد، سياق بدأ يعرف معنى الجامعة في العالم الثالث، منذ أن تواترت الأخبار عن إنشاء جامعة عليكرة في الهند عام 1875 بجهود الوطنيين الهنود وعلى نفقتهم لتقدم تعليما جامعيا يمزج بين التراث الإسلامي والفكر الحديث وتعليم اللغات الشرقية إلى جانب اللغة الإنجليزية. وظهرت المؤشرات على الدور الذي يمكن أن تقوم به المؤسسات التعليمية الأجنبية في توجيه عمليات المثاقفة القومية والوطنية، وذلك منذ تأسيس "المدرسة الكلية الأمريكية السورية" التي أنشئت عام 1866 ، وأصبحت تعرف فيما بعد باسم جامعة بيروت الأمريكية، وكانت تلك الكلية فيما يقول المؤرخون، مقصد بعض أبناء الأقباط البروتستانت الذين توجهوا إليها لدراسة القانون والاقتصاد والعلوم وغيرها من المعارف. ويبدو أن نجاح "المدرسة الكلية السورية" في أن تفرض تأثيرها هو الذي دعا جورجي زيدان إلى أن يكتب على صفحات "الهلال" مطالبا بأن تنشئ هذه المدرسة فرعا لها في القاهرة، يكون نواة لقيام المدرسة الكلية المصرية وبداية للجامعة الحديثة، وأسهمت مجلة المقتطف إلى جانب الهلال في هذه الدعوة، وتحدث صاحب المقتطف في السنة نفسها (1903) عن أهمية الجامعات ووظيفتها في أوربا وأمريكا ودورها في نهضة الأمم، وأكدت المقتطف أنها تتحدث هذا الحديث عن الجامعة تلبية لطلب أحد أعيان المصريين الذين يفكرون في إقامة جامعة مصرية.
حلم الجامعة
وكان الشيخ محمد عبده ، فيما يقول الدكتور رءوف عباس في كتابه عن تاريخ جامعة القاهرة، معنيا بإقامة جامعة بعد أن يئس من إصلاح نظام التعليم بالأزهر وتطويره، ورأى أن إقامة الجامعة يجب أن تكون بجهود الأغنياء الذين نعى عليهم بخلهم، غير أنه استطاع إقناع المنشاوي باشا بالفكرة، فأبدى الثري المصري استعداده لإقامة الجامعة في ضياعه الخاصة بقرية قريبة من القناطر الخيرية، ولكن وفاة المنشاوي باشا وأدت الفكرة، ثم لحق به محمد عبده بعد ذلك عام 1905 وفي الوقت نفسه، كان الزعيم مصطفى كامل شديد الاهتمام بفكرة الجامعة، فنشر مقالا على صفحات اللواء (26 أكتوبر 1904 دعا فيه القراء إلى الاهتمام بمشروع الجامعة وإمكان تحقيقه بوصفه حجر الأساس في النهضة الوطنية. وعاود مصطفى كامل الكتابة مرة أخرى (8 يناير 1905 مقترحا أن تحمل الجامعة اسم كلية محمد علي بمناسبة مرور مائة عام على تولي محمد علي حكم مصر، وجذب المستنيرين من أسرة محمد علي لدعم المشروع ماليا أو سياسيا، كي يكونوا أسوة لغيرهم من الأعيان، وبالفعل دعم الأمير حيدر فاضل دعوة مصطفى كامل وتبعه بعض الأعيان في الاكتتاب للمشروع، ولكن سرعان ما فترت الهمم لتجاهل الخديو المشروع، مع تزايد نفوره من نزعة مصطفى كامل الوطنية. أحسب أن ارتباط الحماسة المتصاعدة لإنشاء الجامعة باسمي محمد عبده ومصطفى كامل أمر له أكثر من دلالة، فهو من ناحية يشير إلى ضرورة وعي مشايخ الاستنارة أنفسهم بالحاجة إلى مؤسسة تعليمية جديدة، مدنية وليست دينية، تكون قادرة على مجاوزة التخلف الذي كان عليه الجامع الأزهر كمؤسسة تعليمية في ذلك الوقت، ومن ثم استبدال طوائف جديدة من المتعلمين تعليما حديثا بطوائف المشايخ التقليدية، التي ظلت تجتر حواشي عفا عليها الدهر. وحينما انتقلت الفكرة من الشيخ المستنير محمد عبده الذي ظل يعمل على إصلاح حال الأزهر، دون أن يحقق كل مسعاه إلى الأفندي مصطفى كامل الذي تزعم حزبا بالمعنى الحديث، ودعا إلى نوع جديد من الدولة فإن هذا الانتقال نفسه دل على تحول الاهتمام في أدوات التثقيف، والانصراف عن مؤسسة التعليم الديني إلى التعليم المدني. وفي الوقت نفسه كان هذا التحول علامة على انصراف الأذهان عن نموذج الدولة الثيوقراطية الأوتوقراطية المحتذى إلى نموذج الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي أخذت تتطلع إليها العقول، بعد الجهد التنويري الذي قام به الرواد.ولم يكن من المصادفة أن يحمل لواء فكرة إنشاء الجامعة بعد ذلك سعد زغلول الأزهري المستنير الذي أصبح زعيم الأمة، وتلميذ الشيخ محمد عبده الذي ضاق بجمود الأزهريين، وظل يحارب استبداد الحكام طوال حياته بالقدر الذي ظل أستاذه محمد عبده يحارب التقاليد الجامدة للمشايخ. يبدو أن تزايد الرغبة الوطنية في الاستقلال، في موازاة حلم الفرد بالتحرر، كان أهم متغير استغله سعد زغلول لتحقيق الحلم، وكان ذلك حين دعا سعد زغلول إلى الاجتماع الأول في منزله للهيئة التي قامت بالتحضير لإنشاء الجامعة بالفعل، وشكل لجنة كان هو وكيلها، وقاسم أمين سكرتيرها. ووجهت هذه اللجنة نداء إلى سكان مصر على اختلاف أجناسهم وأديانهم، تعلن فيه أن الجامعة مدرسة علوم وآداب تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه أو دينه، وأنه ليس لها صبغة سياسية، ولا علاقة لها برجال السياسة ولا المشتغلين بها، فلا يدخل في إدارتها، ولا في دروسها، ما يمس بها على أي وجه كان، يضاف إلى ذلك ضرورة أن يكون للجامعة تلامذة خصوصيون، يقيدون أسماءهم في الدراسة. كي يحصلوا على شهادات الجامعة التي لا بد أن تكون لها قيمة أدبية، ولا بد أن تمنحها الحكومة من المزايا ما هو جدير بها في المستقبل، ولم تنس اللجنة في البيان الذي أذاعته أن الجامعة التي تدعو إلى إنشائها ستفتح أبوابها إلى كل من يريد حضور دروس الجامعة من غير تلامذتها الخصوصيين المتفرغين.
من التعليم الديني إلى المدني
وكان هذا الإعلان الذي صدر في أكتوبر عام 1907 بداية أول جامعة أهلية في الوطن العربي، وبداية اكتمال التحول عن التعليم الديني إلى التعليم المدني، فضلا عن تأكيد حق التعليم بوصفه حقا مقدسا لكل مواطن دون اعتبار لدينه أو جنسه أو هويته السياسية. وبقدر ما كان هذا الإعلان يعني تأكيد استقلال المؤسسة التعليمية عن السياسة والدين، ومن ثم استقلالها عن أي نوع من الوصاية تحاول السلطة السياسية أو السلطة الدينية أن تفرضه، فإن الإعلان كان تعبيرا عن تحول جذري لافت في توجه أبناء الطليعة والملتفين حولها، وانتقالهم من نموذج الشيخ المعمم إلى نموذج الأفندي المطربش، وذلك تحول جسده سعد زغلول نفسه حين استبدل زي الأفندية بزي المشايخ، وعقل الاستنارة المتحرر بعقل التقليد الجامد، وقاد أغلبية الأمة في كفاحها من أجل استقلال الوطن وحرية المواطن، إلى أن حقق بعض أمانيه بدستور عام 1923 ، الدستور الذي صدر في العام نفسه الذي تحولت فيه الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. والواقع أنه إذا كان سعد زغلول يجسد بحضوره حلقة دالة من حلقات رمزية التحول من نموذج الشيخ إلى نموذج الأفندي، على نحو استهله علي مبارك طليعة الأفندية الذي تحول عن التعليم الديني إلى التعليم المدني، فإن طه حسين يجسد ذروة هذا التحول وحلقته الأخيرة على نحو أكثر درامية. وقد بدأ طه حسين تعليمه في الأزهر لكنه سرعان ما انصرف عنه، وضاق بجمود مشايخه، ووجد في طليعة الأفندية من أبناء حزب "الأمة" الذي تحول إلى حزب"الأحرار الدستوريين "ما أشبع نهمه إلى عالم جديد، وجذبه إلى ثقافة الأفندية التي فتحت أمامه الأفق الذي جعله يكتب في الجريدة ثم السياسة ما يهاجم به التقاليد الجامدة للتعليم الديني على نحو ما انتهى إليه في وقته، ووجد طه حسين في نموذج لطفي السيد الذي سرعان ما أصبح مديرا للجامعة الجديدة البديل عن نموذج مشايخه الأزهريين، فدخل إلى الجامعة التي كانت قد افتتحت رسميا عام 1908 ليجد فيها من أفق المعرفة ما دفعه إلى أن يكون أول حاصل على درجة الدكتوراه التي تمنحها الجامعة عام 1914 بعد ست سنوات من إنشائها فحسب، وذلك بأطروحته عن أبي العلاء المعري التي نشرها في العام اللاحق بعنوان تجديد" ذكرى أبي العلاء".
وقائع الافتتاح
وكان وصول طه حسين إلى مرحلة الدكتوراة هو الإكمال الرمزي والفعلي للتحول الذي ابتدأ منذ علي مبارك، وتصاعد في شخص سعد زغلول الذي أصبح رئيس اللجنة التحضيرية للجامعة. وهو المنصب الذي اضطر إلى تركه عند تعيينه ناظرا للمعارف، غير أنه ظل يرعى فكرة الجامعة، ويدعم اللجنة التحضيرية، إلى أن اكتمل عملها، وتحولت إلى أول مجلس لإدارة الجامعة التي افتتحت رسميا في حفل أقيم بقاعة مجلس شورى القوانين في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1908. ومن الوقائع الدالة جدا أن سعد زغلول انصرف من هذا الاحتفال غاضبا من الكلمة التي ألقاها أحمد زكي بك سكرتير المجلس في ذلك الاحتفال، ووصفها في مذكراته التي حققها الدكتور عبدالعظيم رمضان وفريق من الباحثين بأنها كانت أثقل الكلمات على السمع، وأبعدها عن الموضوع، وأفرغها من حسن الذوق، لأنه تكلم فيها عن الإسلام، ومجده بأمور متكلفة، ليس من اللياقة إلقاؤها في افتتاح جامعة لا دين لها إلا العلم. ولم تكن كلمات سعد زغلول التي خطها بيديه سوى تعبير عن رغبته الملحة في أن تستقل الجامعة الوليدة عن السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهي الرغبة التي حاول لطفي السيد تجسيدها عندما أصبح رئيس الجامعة الوليدة، وظل يواجه المصاعب والتحديات في سبيلها، غير عابيء بشيء سوى حلم استقلال الجامعة، الحلم الذي وصل به طه حسين إلى ذروته الأولى، فكان من المحتم أن يصطدم أكثر من مرة بالسلطة السياسية والدينية، مؤكدا دائما أهمية أن تكون الجامعة مؤسسة حرة من مؤسسات الاستنارة في الدولة المدنية بوصفها جامعة لا دين لها إلا العلم كما وصفها سعد زغلول زعيم الأمة الأزهري النشأة، ولا سياسة فيها إلا سياسة العلم الخالص المبرأ من أهواء السياسة والاعتقادات الذاتية والمصالح الحزبية، فالحضور الخالص لهذا النوع من العلم هو معنى الجامعة في أذهان من حلموا بإنشائها.