للعولمة وجه آخر يتمثل في جبهة الرفض التي تكوّنت في العديد من الجماعات. كيف يمكن أن تستفيد الثقافة العربية من هذا التيار الرافض للعولمة?
يشهد العالم تبلور ثقافة عالمية جديدة تتجاوز الثقافات المحلية والوطنية, والإقليمية, وقد جاء ذلك نتيجة للتطوّر التقني الذي عرفه منذ منتصف القرن العشرين.
أدت الثورة الاتصالية, وما رافقها من بروز بنيّة ثقافية عالمية إلى ميلاد نخبة مثقفة معولمة فيما تنكب عليه من قضايا, وما تدرسه من موضوعات, وهي نخبة عابرة للقارات, والثقافات, والقوميّات, واللغات على غرار الشركات العابرة للحدود, وهكذا نستطيع القول: إن أمميّة رأس المال: حاملة مشعل العولمة الاقتصادية لم تسهم في بعث أممية عمالية من نوع جديد بدأت تتراءى لنا ملامحها في المجتمعات الصناعية فحسب, بل أسهمت كذلك في ميلاد نخبة مثقفة عالمية, وهي تعدّ - في نظري - من أبرز المكاسب الإيجابية لعصر الكوكبة, وقد جاء دورها حاسمآً في تأسيس (دافوس) الأخرى في المدينة البرازيلية (بورتو القر) وتزامنت في مطلع القرن الجديد ندوتها الدولية مع اجتماع مدينة الرياضة الشتوية المطلة على قمم الجبال السويسرية: دافوس القديمة. وقد تميّزت ندوة المدينة البرازيلية بميزتين أساسيتين:
أ- انتهاء عهد التبشير (بالعولمة السعيدة).
ب - التركيز على الوجه الثقافي في دافوس الجديدة.
إن المجتمعين في دافوس البرازيلية ليسوا ضد العولمة, بل هم من أنصارها, ومن أشدّ الناس حماسة إلى سماتها الإيجابية, فهم مؤمنون بعولمة التقدم الحقيقي, عولمة الإنتاج والابتكار, وخلق فرص العمل, وليس عولمة السمسرة والمضاربات في الأسواق المالية على حساب مصالح الشعوب, عولمة متضامنة مع دول الجنوب من أجل مكافحة الفقر والجهل والمرض, والقضاء على بؤر الحروب الأهلية.
فقد برهنت الأبحاث التي نوقشت في (بورتو القر) أنه من الخطأ, بل من الخطر أن تحجب الجوانب الإيجابية لظاهرة العولمة - وهي كثيرة, وتمثل كسباً ثميناً للبشرية بأسرها - نقائصها, ومساوئها, وقد بدأت قوى المجتمع المدني في عقر دار العولمة: المجتمعات الغربية تشعر بالقلق والحيرة أمام هذه المساوئ, فهنالك خوف متزايد من أمواج العولمة العاتية, وهي تكاد تتلخص في كلمتين (تسليع المجتمع) تسليع كل شيء بحجة النجاعة, وتراكم الربح, ابتداء من البضائع البسيطة التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية إلى تسليع التربية, والثقافة, والصحة, والرياضة, ووسائل الترفيه, بل قل تسليع القيم والعواطف لتصبح نظرة الإنسان إلى الحياة في نهاية المطاف خاضعة لمنطق الربح والتسعير!
إن النيوليبراليّة المتطرّفة تخلط بين التقدم الاجتماعي والتسليع الشامل, وتسعى إلى أن يكون الإنسان في خدمة الاقتصاد السلعي, وليس العكس, ومن هنا برز القلق والخوف من المستقبل في صفوف قوى المجتمع المدني في الغرب بالدرجة الأولى, القلق مما سيفرزه هذا التوجه الخطر من تحوّل سياسي, اجتماعي, وثقافي لا يعرف اليوم أكثر الناس اختصاصاً مداه, فضلاً عن التحكم فيه, تحوّل سيؤثر في القيم, وفي الهياكل الاجتماعية, وسيتنكّر لمكاسب اجتماعية حققها نضال أجيال متعاقبة, وسيمس استعمال الفضاء والبيئة, والخصوصيّات الحضارية للشعوب, وسيؤثر كذلك في السياسة, وفي مصير الدولة الوطنية, وبخاصة في البلدان السائرة في طريق النموّ, فليس من الصدفة إذن أن تبعث دافوس الجديدة في إحدى بلدان الجنوب لترفع شعار عولمة بديلة, وليست عولمة مضادة, والفرق شاسع بينهما.
عولمة بديلة
تهدف العولمة البديلة إلى كبح جماح الليبرالية الجديدة المتطرّفة, وتعيد لقيم الحداثة - حداثة عصر الأنوار - أصالتها, وتكشف القناع عن جميع أنواع التطرّف, والقوى الكامنة وراءه, ساعية إلى دعم روح التضامن والتسامح بين الشعوب, ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا أفادت الشعوب الضعيفة من مكاسب العولمة سياسياً, واقتصادياً, وعلمياً وثقافياً, وهكذا فإن قضايا بلدان الجنوب تمثل دعامة صلبة من دعائم العولمة البديلة.
وتبوّأت المسألة الثقافية مكانة مرموقة في حلقات الحوار الثريّ الذي جرى في (الندوة الاجتماعية العالمية), ولا غرابة في ذلك, فقد أسهمت في معالجة موضوعاتها فئة من كبار المفكّرين في العالم جاءوا إلى جنوب البرازيل من كل فجّ عميق وعيا منهم بأنّه قد بات من الضروري التصدّي لانتشار ظاهرة اللامعقول في المجتمعات الغربية, وقد تفاقمت مع بروز ظاهرة تسليع كلّ شيء, وبدأت تفرز أمراضاً مجتمعيّة تنذر بالويل والثبور, مثل انتشار الطوائف المتطرّفة والانتحار الجماعي, وعودة الفكر اليميني المتطرّف المعادي للأقليّات المهاجرة, ولقيمها وثقافتها, وظاهرة انتحار المراهقين, وغيرها من نتائج أيديولوجية اللامعقول, ومحاولة نسف قواعد الحداثة, البنت الشرعيّة لعصر التنوير والتقدّم.
إنه من المعروف أن الإنسان يشعر بالضياع عندما يصبح عاجزاً عن إيجاد جواب منطقي للأسئلة التي تطرحها الحياة اليوميّة, غير مؤثر في العمل والإنتاج, وفي العلاقات البشرية, وكذلك في القيم والثقافة.
وعندما نحاول الربط بين فلسفة اللامعقول والثقافة تعترض سبيلنا النظريات الثقافويّة مثل نظرية (نهاية التاريخ), أو نظرية (صدام الحضارات), وما أحيطت بهما من دعاية غير بريئة, هرعوا إلى دافوس الجديدة, محاولين تقديم أجوبة عن الأسئلة الملحّة, وبرهنوا على أن تعقّد المشاكل وتنوّعها يفرضان مزيداً من التفكير الجديّ, وتعميق الحوار, واستشراف المستقبل كي يتمكّن الإنسان من اتقاء الظواهر السلبية التي رافقت العولمة, كما بشّرت بها النيوليبرالية, وكانت نقطة الانطلاق إعادة الاعتبار للعقل, أس الحداثة, فالعقل مرادف للتحرّر والتقدم, كما برهنوا على أن الضجة التي أحدثتها موجة ما بعد الحداثة هدفت إلى نسف أسس الحداثة.
ليس من المبالغة في شيء القول هنا: إن خطاب ما بعد الحداثة يلتقي في نهاية المطاف مع مقولة (نهاية التاريخ) التي ترى في الليبرالية الجديدة نهاية لا يمكن تجاوزها من جهة, ومع الأصوليين في إعلانهم فشل مشروع الحداثة من جهة أخرى, فلا غرابة أن نجد فيلسوفاً بارزاً من فلاسفة مدرسة فرانكفورت (يورفن هابرماس) يعد التنظير لعصر ما بعد الحداثة ردّة فعل محافظة, ويائسة ضد التنوير, ويؤيده الفيلسوف الألماني الشاب ماركارد, داعياً إلى المحافظة على مكتسبات عصر الأنوار, ويعارض كل موقف يقول بفشل عصر الأنوار والتنوير.
كشف الخبايا
فماذا ينفع الحديث عن الهويّة, وعن الخصوصيات الثقافية للشعوب إذا لم تتجدد المفاهيم, وتتغير الأساليب, ونعرف كيف نستفيد من هذه الوسائل الخطيرة لتحديث المجتمع, وتحقيق التقدّم عوض السير القهقرى بتصنيم الماضي, وفتح الأبواب على مصاريعها أمام ثقافة الرداءة, والفكر الغيبي الأسطوري, والإعلام الترفيهي السطحي?!
إنني لا أنكر أننا نعيش في عصر ثقافة ما بعد المكتوب, عصر الصورة, والمجتمع الفرجوي, ولكن هل يعني هذا موت الكاتب, وزوال تأثير الكتابة, كما يبشّر بذلك أنصار مدرسة المابعديات (ما بعد الحداثة), و (ما بعد المجتمع الصناعي), و (ما بعد المجتمع الرأسمالي) و (ما بعد نهاية التاريخ), و (ما بعد صدام الحضارات)?
وقد نسمع غداً مَن يبشّر بـ (ما بعد العولمة)?
أبدا إن رسالة الكتابة لاتزال خطيرة الشأن, مؤثرة, ومثيرة, ولايزال الكاتب, أو المبدع حيّاً يرزق يدق الأبواب بقوّة, يناضل, ويصارع, ويقض المضاجع, يثير العواصف الهوجاء دولياً, ويفجّر النقاش والجدل وطنياً وعالمياً, يسقط الأقنعة عن الوجوه القميئة, ويكشف ما في الزوايا من خبايا.
الليبرالية الجديدة
وعندما نعود إلى الساحة العربية, فإننا نجد ضمن التساؤلات الكبرى المطروحة اليوم على النخبة الفكرية والسياسية السؤال التالي: ما الموقف من ثقافة العولمة, ومن عولمة الثقافة? وهي ليست مسائل نظرية, بل شقّت طريقها بسرعة في عالم الفعل? إن كثيراً من هذه المجتمعات قد تفطّنت خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي إلى خطر العزلة والتهميش فتحمّست إلى اقتحام اقتصاد السوق, وتبنّت مقولات الليبرالية الجديدة, إنها حقاً مقولات اقتصادية بالدرجة الأولى, ولكنها تعبّر في نهاية الأمر عن رؤية متكاملة تحمل في طياتها النظرة إلى النمط المعيشي في المجتمع, وبالتالي إلى الثقافة, فالبضائع, ورءوس الأموال التي تصدّرها الرأسمالية الجديدة ترافقها قيم ونظرة, وأحياناً ترافقها شروط مملاة.
إنه من المعروف أن المعركة التي تدور رحاها اليوم بين الدول الصناعية الكبرى هي معركة السيطرة على الصورة بشتى أشكالها, ومختلف معانيها بدءاً بالصورة السينمائية والتلفزيونية, ووصولاً إلى الصورة في مجال الإشهار, وكتب الأطفال, وهي ليست محايدة, بل تحمل أهدافاً ورسالة, فهل النخبة العربية واعية بهذه التحوّلات الكبرى?
إنها واعية كذلك, دون ريب, بل عبّرت عن وعيها في الإبان, فأسهمت إسهاماً نظرياً في العقد العالمي للتنمية الثقافية بما قدمته من دراسات, وحوارات ثمينة ضمن مشروع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لما أصدرت في الثمانينيات (الخطة الشاملة للثقافة العربية) بدعم سخيّ من دولة الكويت, وبإشراف رائد بارز من روّاد العقل العربي المستنير في القرن العشرين المرحوم عبدالعزيز حسين.
وليس من المبالغة القول هنا: إنها كانت أنضج ثمار العمل الثقافي العربي المشترك, بل قل إن الخطة قد تحوّلت إلى مشروع ثقافي نهضوي جديد, وهي تمثل مرجعاً أساسياً لكل عمل ثقافي عربي مستقبلي, إذ إنها انطلقت من دراسة دقيقة للواقع الثقافي العربي يومئذ لترسم بعد ذلك آفاق المستقبل العربي في المجال الثقافي.إنها تحتاج اليوم إلى إعادة نظر وتقويم في ضوء التحوّلات العربية الدولية الجديدة, ولكنها تبقى وثيقة أساسية ليس للحفظ, بل للاستنارة بها.
من الأخطار التي تنبأت بها الخطة قبل عقدين من الزمن:
- فرض النموذج الثقافي التقني المتقدم الواحد, وهو ما يسلب الهويّة العربية مقوماتها, ويوقف الذاتية الثقافية عن الإبداع والتطوّر وينتهي بالتالي إلى تدميرها.
- تفكّك البيئة الاجتماعية والطبيعية معاً وتدهورها, لتنسجم مع التبعيّة الجديدة المفروضة, وتنتظم معها.
وتزداد الأخطار تحديّاً وأثراً بسبب ما ينتاب الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف, ومن ذلك:
- الأميّة الثقافية التي توقف الكثير من العمل الثقافي, وتنتقص إنسانية الإنسان.
- فقر بعض الأقطار العربية في المال, أو الخبرات, أو في الخطط أو في الوسائل.
- عدم تطابق برامج التربية والتعليم, في كثير من الحالات, مع حاجات المجتمع العربي وتطوّرات العصر.
- نقص الحريات, فالديمقراطية الثقافية أساس الديمقراطية السياسية والاقتصادية, وانعدام المشاركة الشعبية في وضع السياسة الثقافية وفي تنفيذها يباعد ما بين منابع الثقافة وبين المستفيدين منها.
- عدم شمولية السياسات الثقافية (الاهتمام بقطاعات محددة, أو بطبقات, أو فئات عمريّة, أو مناطق جغرافية, أو جماعات عرقية دون غيرها).
- ضعف الصناعات الثقافية مما يؤثر على الإنتاج الثقافي, ويتركه رهينة أصحاب هذه الصناعات.
- سيادة الإعلام الترفيهي السطحي.
(راجع مقال الدكتور سليمان العسكري في (مجلة العربي), سبتمبر 2000).
دور رافد
لنقف قليلاً عند مفهوم الديمقراطية الثقافية الوارد في الخطة باعتبارها أساس الديمقراطية السياسية والاقتصادية, تعني الديمقراطية الثقافية أمرين أساسيين:
أولاً - أن تعم الثقافة المجتمع بأسره, وأن تشعّ على المدينة والريف معاً, وأن تكون في متناول جميع الفئات الاجتماعية, وأن تشغل حيّزاً بارزاً في حياتها اليومية, وقد أصبح تحقيق هذه الأهداف أمراً هيّنا بفضل وسائل الاتصال الحديثة إذا عرفنا كيف نفيد منها في نشر الوعي الثقافي, فالمهم ليس توفير قنوات التبليغ, ولكن المهم محتوى المادة الثقافية التي تنقلها هذه القنوات.
ثانياً - أن يسهم المثقفون في رسم أهدافها, وأساليب تنفيذها, فالديمقراطية والثقافة عدوتان لدودتان للروتينية ولسياسة الإملاء من فوق.
وهي مرتبطة بمسائل أخرى لا يمكن فصلها اليوم عن الثقافة, كما لمحنا إلى ذلك, وسأكتفي هنا بالإلماع إلى بعضها.
أ- أهمية حريّة قوى المجتمع في التنظيم, والعمل, والتعبير لنشر ثقافة جديدة تؤدي رسالتها في معركة التقدم والتحديث, فما حققته الثقافة من مكاسب كبرى في المجتمعات المتطوّرة يعود أساساً إلى ديناميّة قوى المجتمع المدني, وإلى حريّتها في المبادرة والإبداع. يتضح ذلك في مجال النشر, وقد أصبح قطاعاً اقتصادياً حيوياً, وفي مجال الإعلام, والفنون بشتى أنواعها, ولا مناص من الإشارة في هذا الصدد إلى أن دور الدولة يبقى أساسياً في هذا الباب, وبخاصة في المجتمعات النامية, وهو دور رافد لقوى المجتمع المدني, وداعم لها, وليس دور قمع وإلجام, كما هو الشأن في نظم الحكم المطلق.
إن المجتمع المدني والدولة ليسا مفهومين متقابلين في نظرنا, بل هما مفهومان متلازمان, ومتكاملان فلا يمكن أن ينهض المجتمع المدني ويؤدي رسالته في المناعة والتقدّم دون دولة قوية تقوم على مؤسسات دستورية ممثلة, وتعمل على فرض القانون, كما أنه من الصعب أن نتصوّر دولة وطنية قوية يلتف حولها أغلبية المواطنين دون مجتمع مدني يسندها, وإلا فإنها تتحوّل إلى دولة معزولة قد تؤدي دورها من خلال أجهزتها البيروقراطية, ولكنها تنهار في نهاية المطاف فينهار معها المجتمع, ويقدم لنا التاريخ المعاصر أمثلة متعددة على ذلك من انهيار دولة الرايخ الثالث إلى سقوط دول معسكر أوربا الشرقية في التسعينيات.
إنه من الخطأ - إذن - مقاومة الدولة باسم المجتمع المدني, إذ إن ضعف الدولة الليبرالية الحديثة يهدد المجتمع المدني ويفتح الباب أمام القوى المناهضة - بحكم أيديولوجيتها - لقيمه.
ب - إن أهمية قوى المجتمع المدني في دعم الديمقراطية الثقافية مرتبطة بمسألة التعددية السياسية والفكرية, فلا يمكن أن نتصوّر حياة ثقافية حقيقية تعبّر عن مبدأ الديمقراطية الثقافية في مجتمع محروم من التعدديّة السياسية والفكرية, ولا ننسى أن الديمقراطية الثقافية مرتبطة بثقافة الديمقراطية, والتعددية تمثل دعامتها الصلبة.
إن بذرة التطرّف لا تنبت في تربة التعدديّة السياسية والفكرية.
ج - تقتضي النظرة المستقبلية للثقافة العربية دعم الحوار مع الآخر, وإعادة النظر في هذا المفهوم في ضوء التطوّرات العالمية الراهنة. إن الحوار مع الآخر وثيق الصلة بالحوار مع الذات, كما فهمه روّاد النهضة العربية الحديثة, إن إعادة النظر في مفهوم الحوار مع الآخر يجرّ حتما إلى إعادة النظر في مفهوم الهوية, ولا ننسى أن هنالك عناصر ثابتة, وأخرى متحوّلة في الهوية العربية الإسلامية, ويختلف الناس كذلك في تحديد مفهوم الهوية حسب الزمان والمكان.
هوية تواصلية
وأودّ هنا إبداء الملاحظات التالية:
أولاً - إن سمات الهوية العربية الإسلامية قد تبلورت في ذهن نخب السياسيين والمفكرين العرب في حوارهم مع الذات من جهة, وفي حوارهم مع الآخر من جهة أخرى, ومن المعروف أن روّاد الفكر الإصلاحي المستنير قد ميّزوا بين وجهي الغرب: الوجه البشع للغرب الاستعماري والقائم على منطق القوّة المدمّرة, وعلى طمس هوية الشعوب المستعمرة, وتشويه ثقافتها من جهة, ووجه الغرب في عقر داره: وجه الحريّة والتقدم من جهة أخرى, لذا فقد اتسمت الهوية لدى هؤلاء بصبغتها الصراعية في الاعتماد عليها لإثبات الوجود ومقاومة السيطرة الأجنبية, وهي في الوقت ذاته هوية تواصلية متفتحة على الغرب ساعية إلى الاستفادة من تجاربه.
ثانياً: لقد أفرزت ثنائية الحوار مع الذات ومع الآخر مقولات: الأصالة والحداثة, الشرق والغرب, نحن والآخر, التراث والاستشراق, الهوية والاستلاب الحضاري.
ولابد من الاعتراف هنا أن الفكر العربي الإسلامي قد بقي سجين هذه الثنائيات عوض التحرر منها, وطرح السؤال الحقيقي: ما العمل اليوم?
أين هذه المقولات مما تمر به التحوّلات العالمية في مطلع الألفية الثالثة?
ثالثاً - الفشل الذريع الذي منيت به نزعات القطيعة مع اللغة والثقافة العربية الإسلامية ومحاولة الانصهار في ثقافة المستعمر بالأمس القريب, وتبنّي لغته, وقد كان لخطاب الهوية الوطنية والقومية أثر كبير في كشف القناع عن دعاة هذه النزعات وقد كلّف الصراع السياسي والفكري بين التيّارات العروبية, وأنصار الفرانكفونية في بعض أقطار المغرب العربي ثمناً باهظاً, ولايزال. وعوض أن تتضافر جميع الجهود لاستعمال العربية كأداة ناجعة لبناء مجتمع عقلاني حديث اضطر خطاب الهوية الوطنية والقومية إلى أن يستعمل في خضم المعركة أدوات تقليدية محافظة عاقت عملية التحديث. وأميل إلى الاعتقاد بأن أخطاء هذا الخطاب من جهة, وارتباط النخب الفرانكفونية سياسياً واقتصادياً وثقافياً بالبلد المستعمر بالأمس القريب من جهة ثانية قد أسهم كل ذلك في ميلاد خطاب هوية منغلقة ذات نزعة صراعية, ألا وهو خطاب الحركات الأصولية المتطرفة, ولم يدرك أنصار الحداثة السطحية أن الشعوب التي لا تملك إرثاً حضارياً عاجزة عن الانخراط في نادي الإنتاج والإبداع الحضاري.
إن الحوار مع الآخر الذي ندعو إلى تعميقه, وإعادة النظر في أهدافه, وأساليب إجرائه ليس الحوار مع الغرب فقط, بل أيضاً الحوار مع الآخر الآسيوي, والإفريقي, والأمريكي اللاتيني, وبذلك يتحوّل الحوار بين الثقافات إلى حوار كوني.
د) ضرورة تمسك الثقافة العربية بالمشروع الحداثي, فلا بديل عن الحداثة لكسب رهان المستقبل, وتحقيق المناعة في الظروف الدولية الراهنة, وقطع خطوات جديدة وثابتة على درب التقدم.