مختارات من:

قصص على الهواء

محمد المخزنجي

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية. أصوات شابة في القصة العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟


أعترف بداية أنني قد لا أكون متحمسا للمسابقات الأدبية التي تعتمد على الانتقاء من بين متقدمين لها، فمهما تمخض الانتقاء عن اكتشافات قد تكون ممتازة، يظل بعيدا عن الاختيار الحقيقي المفتوح الذي يحدد لنفسه مواصفات ما يختاره طبقا لمُنجَز النوع الأدبي في الإطارين، المحلي والعالمي. ثم إن آلية اكتشاف المواهب لها دروب ومسالك، تمر عبر النقاد ومشرفي الصفحات الثقافية والمبدعين المتحققين والحركة الأدبية التي تقوم في مجملها بدور الانتخاب والانتقاء المستمر. هكذا بزغ الكتاب الموهوبون أو معظمهم. وهناك ملاحظات عامة، فيما قرأت، منها: عدم عناية باللغة التي من الواضح أنها تراجعت في نظم التعليم العربية جميعها. كما أن قضيتي الهجرة والاغتراب والبطالة كانتا موضوع أكثر من قصة مما فحصت، لكن ذلك لم يشفع لهذه القصص أن تكون وثائق فنية، إذا لم تتجاوز كونها وثائق اجتماعية. وأرجو ألا يؤخذ هذا كتعبير عن التعالي، فهو في حقيقته الأعمق تواضع أمام فن عظيم هو القصة القصيرة التي يسميها فرانك أوكونور «الفن المطلق» ، وهو فن يمثل امتحانا حقيقيا لكاتب السرد، سواء كان هذا السرد رواية أو تحقيقا أدبيا أو أيًا من فنون النثر العديدة المجيدة التي أرفض أن يضِّيق النقد المدرسي أفقها. أما القصص التي اخترتها فهي:


*****


قصة «حجرتي» ـ....، حجرة بلا مخرج، مظلمة إلا من شعاع ضوء واحد يغير مواضعه، استعارة بعيدة المنال جيدة التشخيص، تخرجنا من الكابوس إلى احتمالات الأمل، كابوس يشف عن حلم. نص جميل.


*****


قصة «الفتى الطائر» نجيب كعواش، نموذج لعلاقة الأدب بالحلم، سواء كان حلم يقظة او حلم منام، فتقنية الكتابة الحلم تكثف الإيحاء، وتحلق بالإحساس، ثم إن الكاتب يعلقنا في الهواء مع الراوي الذي يهوي، ولا يجعلنا نرتطم بالأرض في النهاية، فيما يمكن ان نسميه نهاية مفتوحة تتعدد معها الدلالات وتفسح المجال لمشاركة القارئ في وضع احتمالات متعددة لخاتمة الحدث القصصي.


*****


قصة «عمارة تطل على البحر» ـ سعيد بوكرامي ـ المغرب، نموذج طيب لجعل القصة تحلق بما هو ساخر وضاحك، بالرغم من النموذج المأساوي الذي تعالجه، وتتسامى بالجنون في الواقع إلى ختام سحري ينزع عن المأساة كآبتها ويمنحها أجنحة لطيفة لتطير ونطير معها.


*****


قصة «انتظار» ـ جاسم الحمود ـ سورية، بالرغم من نمطية الحبكة وتواتر الموضوع، فإن هذا الكاتب يمتلك حس القصة، حيث يختزل النص المكثف حكاية ماض، تطفو عبر سرد الحاضر، ثم تأتي النهاية مشكلة صدمة ما، أو مفارقة، فتكتمل دائرة القصة.


--------------------------------------

حجرتى
أحمد عبدالمنعم رمضان (مصر)



أنام كثيرا هذه الأيام... هل أنا مرهق أم أن حياتى أصبحت مظلمة إلى حد يدفعنى للنعاس والانطلاق فى النوم، لا يوجد في حجرتي سوى سرير واحد ويعيش فيها رجل واحد، لا أعلم أين يقع الباب ولا كيف أخرج منها، ولكنها قد تكون أفضل كثيرا مما في الخارج، فإضافة إلى أننى لا أجد المخرج فأنا أيضا أخاف أن أخرج، ولكن المشكلة الأزلية التى لا أجد لها حلا هى، كيف دخلت هنا من الأصل؟

لم أصف لكم الحجرة كما ينبغى. دائما هناك شعاع نور واحد، يتغير مكانه ولا أعرف من أين سيأتى فى المرة المقبلة.

وهذا الشعاع سمح لى أن أرى مكونات الحجرة، مجرد سرير أنام وأقوم وأعيش وسأموت عليه، لم أصف لكم الأحداث العجيبة التى تحدث فيها، برد وحر ورعد وبرق.... نعم، في الداخل أكاد أرى الغيوم، وأكاد أشعر بقطرات المطر.

يوميا، وكل دقيقة يمر أناس، يعبرون من أمامى، أسمع خطاهم وألمح وجوههم... لا أكاد أتأكد هل هم موجودون فعلا أم لا حتى يختفوا من أمامى، ولكن من أين يدخلون ومن أين يخرجون ؟! إنى حتى لا أعلم علو سقف حجرتى، أحيانا أصطدم به وأنا جالس وأحيانا أخرى أقفز فلا أطوله... وكذلك الجدران، يبدو أنها متحركة، تتضام إلى بعضها البعض ثم تبتعد ثانية.. أحياناأشعر أننى مختنق بينها وأحيانا أشعر أننى أعيش فى براح مخيف.

كثيرًا ما حاولت أن أهتف مناديا طالبا العون، داعيا أن يأتينى من يخرجنى من تلك الحجرة التى أرهقتنى، أو حتى يدلنى على طريق الخروج، وكان الرد يجيئنى سريعا ومباغتا، لم يكن إلا صدى صوتى الخائف وتردد كلماتى، وكأن هناك شخصا آخر يطلب العون أيضا من حجرته الأخرى.

اليوم، كنت نائما، فهذا هو الشئ الوحيد الذى أفعله، واستيقظت لأرى شعاع النور إياه مسلطا على وجهى مباشرة، قلبت وجهى وأغمضت عينى هربا منه، فإذا بى أصطدم بجسم بجوارى... لم أتعود أن أرى أو ألمس أو ألمح أى جسم فى هذه الحجرة... إنها امرأة... تذكرت سريعا أن هناك مخلوقا آخر يدعى المرأة، فكنت قد نسيته ولا أبالغ إن قلت إننى نسيت الرجل أيضًا... فأنا لا أرى لا رجالاً ولا نساء، أنا فقط أرى تلك الأشباح التى تدخل وتخرج من الحجرة يوميًا ولا أكاد أميز جنسها...

كانت نائمة هى الأخرى، حاولت أن أوقظها، لا أكاد أن ألمسها حتى أسحب يدى سريعًا من قبل أن ألمسها، وأخيرًا، صرخت بصوت عال :

ـ اصحى، اصحى

وجدتها تتقلب فى سريرها، أقصد فى سريرى وكأنها اعتادت النوم فى هذه الحجرة... ثم نظرت إلى بعين نصف مغلقة، وقالت لى بصوت تخللته تنهيدة وتثاؤب:

ـ صباح الخير.

بدت أنها ليست مستغربة للموقف كما هوالحال بالنسبة لى، كأنها تعرفنى وأنها معتادة على الاستيقاظ فى أسرَّة الغرباء... سألت بصوت متلجلج ( أنت تعرفيننى؟!)، كان شعاع النور الآن موجها على وجهها كان هناك شعاع آخر يخرج من عينيها... قامت من السرير وتحولت من ملاك نائم إلى مهرة نشطة. وكأنها مستيقظة من أربعة أعوام، ليس من أربع ثوان.. وقالت لى :

ـ طبعا أعرفك

قلت لها مذهولا : ولكني لم أرك قبل الآن.

قامت من على السرير وأعطتنى ظهرها شبه العارى وتثاءبت وهى تقول:

ـ ولن تراني طوال عمرك، من قال إنك تراني أصلا..، حاول أن تلمسنى وسوف تعرف.

مددت يدى كى ألمسها، وكلما اقتربت ابتعدت، لم أستطع أن ألمسها... نظرت لى وضحكت ضحكة عالية أحدثت لها صدى واضحا فى الحجرة ثم اختفت، تمامًا مثل كل الأشباح التى أراها يوميا تدخل وتخرج من حجرتى التى عادت تضمنى أنا وحدى... وحدى.

الفتى الطائر
نجيب كعواشي (المغرب)


المشهد غريب، أرى السماء ساطعة من فوقى، وضوء الشمس يغمرنى والأرض بعيدة عنى،موقفى سئ للغاية، فأنا معلق فى الهواء، لست معلقا على مشانق موتى، ولكن الغريب أنى معلق فى شرفة منزل، وأغلب الظن أنه ليس منزلنا، لأنه منزل علوى، كأنه ناطحة سحاب فى إحدى الحوارى، شارع ضيق وصاخب، مليئ عن آخره بالورش والعمال والصنايعية والأطفال الذين يلعبون الكرة والأمهات اللاتى يحدثن بعضهن عبر الشرفات، أنا معلق فى الهواء، ممسك بأطراف قطعة من القماش تتدلى من الشرفة ويبدو أنها مثبتة فى شئ ما داخل الشرفة، وهذا ما يجعلها تحملنى ولا تنزلق من بين أطراف أصابعى... ومن حسن حظى التعيس، أن تلك الخرقة أوالقماشة متماسكة نوعا ما.

يدى تتصبب عرقا، وعينى تنظر عاليا نحو السماء المشرقة، كأنه ليس يوم موتى، وقدمى تتحرك فى الفضاء تبحث عن أرض تلمسها، لا أسمع أصوات المارة فى الشارع، ليس فقط لأن الشارع بعيد، ولكن أيضا لأنى لست بحاجه أن أسمعهم فى هذا الوقت بالذات، لا أسمع إلا صوت تمزق الخرقة في يدى... فهى لا تحتمل جسدى الممتلئ، طالما نصحنى والدي أن أكون رشيقا ولكنى لم أكن أهتم...الآن علمت قيمة تلك النصيحة، لو كنت أقل وزنا من وضعى الحالى لظللت معلقا فترة أطول فى تلك القماشة الملعونة.

فلتت يدى وسقطت من أعلى الكون إلى أسفله، انفتحت عيناى عن آخرهما، فرأيت شرفات منازل الجيران وجوه المشاهدين ونظرات الشفقة فى أعينهم، رأيت أسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران، كان الوقت طويلا جدا ما بين سقوطى إلى حيث هبوطى، أحسست أننى أحيا حياة أخرى طويلة جدا... وجاءنى إحساس غامض أن نهاياتى لم تأت بعد.

أعتقد أننى اقتربت من الأرض، أشعر بلهيب يحرق جسدى وأنفاس حارة تتجول من حولى. يا ترى هل هناك أحد ينتظرنى فى الأسفل ليستقبلنى على ملاءة بيضاء مثلما يحدث فى الأفلام التى استغرقت حياتى فى مشاهدتها، أم أن أحدا لايهتم بحياتى سواى، أخذنى التفكير فى تلك اللحظات التى قد تكون الأخيرة، من سيفرح بنهاية عمرى ومن سيحزن لفراقى.. أفكار حمقاء، ولكن حياتى لم تسمح أبدا بأن أفكر فيها... فقد كنت مشغولاً جدًا بالتفكير فى أشياء أكثر حماقة.

يوم جديد، شمس مشرقة، بالتأكيد هو ليس يوم موتى أو اعتلائى المشانق، أغسل وجهى الملئ بآثار الرحلة الطويلة وأنظر إلى ساعتى، أسرع فى تجهيز نفسى من أجل أن أخرج إلى ذلك الشارع الذى كنت أطير فيه منذ ثوان معدودات... نزلت إلى أرض الشارع، أنظر فوقى، أتأمل تلك الشرفات وأسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران... ولكنى ما ألبث أن أنظر أمامى وأسرع خطواتى نحوالعمل كما اعتدت أن أفعل حتى الأمس.

لا أنام، تسلط علي أرق لعين.. أصبح إحساسي بالتوتر حادا وسريعا. لم أشأ في البداية أن أذهب عند الطبيب. قلت حالة عابرة، لكن تركيزي قل وانخفض نشاطي في العمل. وفي النهاية، ذهبت عنده لكي يصف لي علاجا.. أقراصا مثلا.. قال لي الطبيب:

- أولا الأقراص فاتحة للشهية.

عقبت: عز الطلب. أنا نحيف كما ترى. مللت نحافتي.. وثانيا؟

سألني: أين تعمل؟

ما علاقة عملي بالوصفة؟ كرر سؤاله متجاهلا اعتراضا دار فقط في دماغي:

- أين تعمل؟

- في ورشة.

- ما نوع عملك؟

جئت لأنام أم جئت لأخضع لتحقيق؟

- أقطع الصفائح المعدنية بمنشار كهربائي.

- لا ينبغي لك أن تتناول الأقراص المفترض أنها ستعالج أرقك.

سألت: ولماذا؟

- نظرا للنعاس الذي يمكن أن يصيبك.

- لم أفهم دكتور..

- الأقراص ستقلص يقظتك.. وربما تتعرض لحادث.

كررت سؤالي. أجاب أنه لايستطيع أن يصف لي أقراصا منومة. فيها مساءلة ومتابعة قانونية لو حدث لي حادث. انتفضت:

- ولكنني إذا لم أعالج من هذا الأرق اللعين فسيصيبني ما هو أخطر..

- ماذا سيصيبك؟

- سأجن.

- أنت الآن تعرف المضاعفات. يجب أن تأخذ الأقراص طيلة أسبوع. وهذا يعني ألا تشتغل أسبوعا كاملا..!

- ولكنني استنزفت كل حصص إجازاتي. العادية منها والاستثنائية.

رد بكل برود:

- توقف إذن عن العمل.

أجبت محتجا:

- وماذا سآكل؟

انتفض:

- إلى الجحيم معدتك. أنا أتكلم كطبيب. ونصيحتي طبية صرفة.

طيب. الأفضل في رأيه أن أموت جوعا على أن أموت مجنونا..! لن يصف لي الوصفة التي جئت من أجلها. سألته ماذا كان سيفعل لو أصابه أرقي. أجاب بهدوء - فاحت منه رائحة الاستفزاز والوقاحة - أنه سيعمل بالنصيحة التي هو بصدد إسدائها لي.. طبعا.. يشتغل لحسابه.. ولا رب عمل يتحكم في رزقه.

عمارة تطل على البحر
سعيد بوكرامي (المغرب)


العمارة تطل على البحر. والبحر يحضن العمارة. والعمارة وحيدة في شارع الكورنيش.

العمارة تستفرد بالمحيط في عزلة مجازية عن العالم.

أيام الغضب والدكنة الباردة تضع حيطانها حضنًا متسامحًا لشططه.

أما أيام الهدوء والصفاء فتترك لبريقه بياض قلبها الصامد في وجه الرطوبة.

السنوات تتشابه والعمارة والبحر في طلاق مطلق، وفي التصاق مطلق. كيانان وهميان لجزيرة حزينة في محيط شارد.

كان الخريف عملاقًا جبارًا يركل الساحل بلا هوادة. وكانت أم عبد الحق تصرخ أمام الأمواج بأعلى صوتها بلهجتها الغريبة. هل يستطيع البحر ابتلاع صراخها الجبلي وزمجرتها المتطايرة كمصير في مهب الريح. تمسكت أم عبد الحق بالبرد اللولبي الجبار. الذي كان يضغط قفطانها الأرجواني بقوة ويقوس جسمها الضامر حتى يكاد يكسره.

نزل سكان العمارة إلى البحر بالرغم منا. نزلوا المنحدر الحجري المؤدي إلى أرخبيل الصخر الأسود وهم يصارعون البرد ورغبتهم المستبدة لمعرفة مصير عبد الحق.

كنت قد عدت من المدرسة، ينخر معدتي الجوع، ويرجف حواسي الخوف. أختبئ بالواقفين من البرد، مضطرب المشاعر. أنظر إلى أم عبد الحق وهي تهجم على الأمواج مولولة صارخة وكأنها تحارب كائنا لا مرئيا. أصبحت تملك قوة الرجال جميعهم. هكذا كنت أراها، تقاوم منعهم حتى يصل الماء إلى ركبتيها ثم يسحبونها حتى يبرز ساقاها الأزرقان النحيلان. اختفى فجأة نعلها البلاستيكي الذي جره الجزر العنيف. كانت للبحر نوايا شريرة في تلك اللحظة لا بد أنه كان يريد أن يجر أم عبد الحق أيضا. لو تركت لحال سبيلها لكانت الآن تهوي إلى أعماقه المجهولة العنيفة.

بعض النسوة ينظرن إليها بشماتة، بل إن امرأة قالت:

-انظروا إلى الحمقاء، تخلصت من أبله ومع ذلك تولول.

وقالت امرأة أخرى:

-تغلبنا حتى على الذين بعقولهم حتى نبكي مجنونا لايفرق بين البر والبحر.

بجانبي كانت أختي التي تكبرني بأربع سنوات، تشد كفي بقوة متأثرة بالمشهد تكاد الدموع تقفز من عينيها البلوريتين. أنفها المصقّع يرتعش ورأسها يزداد تطلعا إلى البحر. كل هذا يفعله البحر - مع أنه في الصيف يحنو حنينا يعوضنا حنين أمنا التي نتفقدها ساعة الفجر فنجدها كالفراشة تقفز من مكان إلى آخر مستعدة متأهبة للذهاب إلى العمل في مصنع الجلد.

وفجأة أغمي على أم عبد الحق، فتحولت إلى وسادة بين أذرع حامليها. أين اختفت تلك القوة الجبارة ؟ أما البحر فلم يزدد إلا غضبا. هاجمت موجة ضخمة ظهورنا. وتبلل البعض وصرخ البعض الآخر من هول المفاجأة. كنا نحن أول الهاربين الصاعدين إلى الشارع ثم إلى العمارة.

لم أتمكن من معرفة التفاصيل الأخرى لكن خالتي لخصتها قائلة: ( المسكينة تنزل كل يوم إلى البحر، تصب عليه نصف لتر من الحليب، وتحدثه كما يحدث إنسان إنسانا. قد يستغرق الوقت ساعات إلى أن ينزل أحدهم وراءها فيحاول إقناعها بالصعود إلى بيتها. تستسلم لتعبها وليس لإقناعه. غدت مرفوعة عن العالم. لاتكلم أحدا ولا تقوم بأشغال بيتها. زوجها وحده يقوم بكل شيء. حتى الحمام لم تعد تذهب إليه. ومع الوقت انشغل الناس عنها بهمومهم إلى أن جاء اليوم الذي اختفت فيه نهائيًا. وبالرغم من جميع المحاولات لم يعثر عليها أحد. ومع الوقت نسيها الناس مرة أخرى.

أما عبد الحق فكان أشبه بفكاهي العمارة كل ما يلمسه يحوله إلى ضحك. كل الأشياء تتحول إلى موضوع فكاهي يتطاير كالإشاعة بين أطفال حي العنق لكن لا أحد كان يصدقه. لم تكن لأمريكا طائرات تنزل عموديا حينما قال عبد الحق إنه كان نائمًا فوق صخرة (كابانو) فاستيقظ على أزيز طائرة نزلت عموديا فوق الصخرة وطلب منه ربانها أن يرافقه، لكنه رفض. لأنه يطير من دون طائرة.

لم تكن وصلات الإشهار قد انتشرت حينما قال عبد الحق إن شركة اقترحت عليه أن يقدم لها فكرة إشهار عن مشروب كوكاكولا، لكنه رفض الكشف عن فكرته فطاردته الشركة بجميع الوسائل المتطورة لكنه أصر على الرفض. وعندما سئل عن سبب بحثه الدءوب حول زوايا العمارة، أجاب عبدالحق أنه يأخذ القياسات اللازمة كي يعد لها عجلات، فقد حان الأوان لينقلها إلى غير هذا المكان. وعندما كان يسأل عن سر جمعه لصفائح الحليب الفارغة كان يجيب أنه يعد غواصة عجيبة. طبعًا لم يكن يصدقه أحد.

بعد اختفائه كنا نجتمع على سطح العمارة حيث خزانات الماء وبرج مراقبتنا لأعدائنا في العمارات المجاورة. فقدنا الفرح وأخذنا نتطارح الأسئلة والأجوبة بجدية مبالغ فيها وكأننا نتداول شئون الأرض والبشر. كنا متأكدين أن عبدالحق لم يغرق في البحر، كنا منقسمين حول مصيره. بعضنا كان يؤكد أن عبد الحق اختطف من طرف جهات جهنمية مثل شركة كوكاكولا مثلا أو شركة نيدو... والبعض الآخر كان يصر على أن عبدالحق انطلق بغواصته أخيرا نحو أعماق المحيط الأطلسي ولا محالة سيظهر في يوم من الأيام.

انتظار
جاسم الحمود (سورية)


لماذا تأخرت، انتظرك منذ الصباح استيقظت مع شروق الشمس، جهزت كل شيء، نظفت غرفتك، رتبتها كما تحب، مسحت زجاج المكتبة، سحبت طاولة المكتب إلى الزاوية التي تحب قرب النافذة وضعت فوقها أوراقا بيضاء وقلما أخضر أعرف أنك تحب الكتابة بالقلم الأخضر تكره الأسود لأنه لون الليل والدسائس، وتكره الأحمر لأنه لون الشطب و الدم وضعت وسادة المخمل الصغيرة على كرسي المكتب لتجلس كعادتك وراء مكتبك قرب النافذة التي تقابل نافذة أمل ابنة الجيران تنظر إلى أمل و تنظر إليك تتبادلان أحاديث العشق والغرام، تهيمان في عالم آخر وفجأة تنسحب أمل ملبية نداءات أمها و تعود أنت إلى الأوراق البيضاء لتخط بالقلم الأخضر عوالم من الأمل والفرح .

لماذا تأخرت يا وحيدي... حضرت لك وجبة الغداء التي تفضلها و سكبت الطعام في الصحون، أعرف أنك مهموم أمل ابنة الجيران هي السبب أعني أمها التي شكت بما يدور خلف النوافذ فصارت تراقب ابنتها أمل لتفاجئها متلبسة بالعشق...

أعرف أن مشاكل العمل تقلق راحتك، يريدون أن تقبل الهدايا الهدايا التي ستجعلك من رجال البنوك والأرصدة والشيكات لايعرفون أنك لن تستجيب لهم يعتقدون أنهم سيتمكنون من إقناعك. أنا متأكدة أنهم سيفشلون

أعرف أنك حزين وعاتب على أبيك لأنه لم يسأل عنك منذ ولدت نسي أن له ولدا هنا ذكرتني بالماضي كنت أجمل بنات البلدة و أبوك كان أجمل شباب البلدة وأكثرهم فتوة ومرحا وكان لا بد أن نلتقي و التقينا التقت العيون ثم القلوب و اشتهر حبنا وصار حديث الناس. عندما طلب أبوك من أهله أن يذهبوا معه ليخطبني رفض أهله و تعالت أصواتهم: كنا نظنه يتسلى معها كيف لابن العائلة المجيدة كريمة الحسب والنسب أن يتزوج فتاة عادية من أسرة فقيرة؟ كيف يترك بنات العائلات الأصيلة عائلات الأمراء والشيوخ ويلحق فتاة تسكن مع أهلها في غرفة من الطين؟

لماذا تأخرت الشمس، قاربت على المغيب وأنت لم تأت كل شيء جاهز وضعت طاولة الخشب و الكراسي تحت الدالية جهزت إبريق الشاي أعرف أنك لن تأتي وحدك، سيأتي معك أصحابك، كالعادة ستجتمعون حول إبريق الشاي تقرأون القصائد وتغنون المواويل تتحدثون عن أحوال البلد وتتجادلون في السياسة و النساء تتألق بينهم وأنت تتحدث بحماس و ثقة فأراك أميرًا ملكا وسط حاشيته.

أعرف أنك عاتب على أبيك لأنه هجرني أنت تعرف أهله رفضوا زواجه مني بشدة تحداهم وتزوجني رغمًا عنهم، وضعهم أمام واقع لا مفر منه اجتمع مجلس العائلة الكريمة واتفق الجميع على قرار واحد وضعوا أباك أمام خيارين: إما أن يطرد من البلدة و يحرم من الميراث ويسلخ عن العائلة أو يقبل بقرارهم ضغطوا عليه قبل قرارهم ونفذه وعندما علمت بالأمر طلبت منه أن يطلقني.

لماذا تأخرت؟ أسمع أصوات الزغاريد في بيت أمل الخبر صحيح جاءها عريس لكن تأكد أنها لن توافق هي وعدتني أن تنتظرك أبوك لم ينتظر تزوج بعد أن طلقني من ابنة عمه وصار عنده حشد من الأولاد.

لماذا تأخرت؟ سينتصف الليل وأنت لم تأت بعد تعال لن تكون مهموما أو حزينا تعال في الصباح الباكر سأذهب إلى أهل أمل وأخطبها لك لن يسع العالم فرحتها تعال، أبوك سيتذكر أن له ولدا وسيأتي ليبارك زواجك سيأتي أصحابك ويرقصون ابتهاجا بعودتك.

لماذا تأخرت وتركتني وحيدة؟ تعلم أن الذكريات الحزينة تحاصرني عندما أبقى وحيدة انتصف الليل، لا تتركني عرضة للوساوس والهموم هاهي دقات الساعة تعلن الواحدة ليلا أخشى أن يطلع الفجر وأبدأ رحلة انتظار جديدة أخشى أن تواجهني أشعة الشمس لأجد نفسي وحيدة أمام الحقيقة المرة: أن الجيران ليس لديهم ابنة اسمها أمل وأن أباك قبل قرار العائلة العائلة التي قبلت الزواج بشرط ألا تعكر دماء العائلة النقية وألا يصبح لابنها ذرية من امرأة فلاحة.

أخشى أن أواجه الحقيقة المرة التي هربت منها ثلاثين عاما الحقيقة التي اكتشفتها بعد أن استعدت وعيي في المشفى: أن عملية أجريت لي وأن الطبيب استأصل الرحم.

محمد المخزنجي مجلة العربي مايو 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016