قد تفاجأ أيها القارئ لو قيل لك إنه بناء على قوانين الفيزياء يجب ألا يكون لهذا الكون وجود بهذه الصورة التي نراها!!
قد تستغرب من هذه المقولة ولكن لو عرفت التفاصيل فقد يختلف الوضع عندك. حسب التفسير العلمي بالاستفادة من نظرية الانفجار العظيم في بداية خلق الكون, كانت المادة والمادة المضادة متساويتين في الكمية, ومعلوم من خصائص المادة والمادة المضادة أنهما إذا تلاقتا تكون النتيجة طاقة فقط!! أي يجب أن يكون نتيجة خلق الكون من الانفجار العظيم كمية من الطاقة الخالصة!!. السؤال الذي واجهه العلماء كيف تمكنت المادة من الانفراد في الوجود والظهور في الكون بالشكل الذي نراه? أين ذهبت المادة المضادة? لمعرفة الإجابة لابد من الرجوع إلى بدايات خلق الكون كما يعرفها العلم الحديث, وهذا ما سنراه في الأسطر التالية. ولكن لنتعرف على المادة المضادة أولا.
ما المادة المضادة?
المادة المضادة مادة عادية ولكن بشحنات مختلفة, مثلا الإلكترون جسيم يحمل شحنة سالبة بالمقابل يوجد جسيم آخر له نفس الكتلة ولكن بشحنة موجبة (يسمى هذا الجسيم بوزيترون). كذلك هناك ما يقابل البروتون وهو جسيم موجب يسمى مضاد البروتون ويحمل شحنة مخالفة لشحنة البروتون, أي شحنة سالبة.
وقد بدأ الحديث عن المادة المضادة من الناحية النظرية في سنة 1928 مع الفيزيائي الإنجليزي بول ديراك Paul Dirac بسبب بعض المعادلات الغريبة التي تمكن من التنبؤ بوجود جسيمات مضادة لجسيمات المادة. بدأ البحث عن المادة المضادة عمليا من سنة 1930, وفي سنة 1932 تم اكتشاف البوزيترون وذلك بإجراء التجارب على الأشعة الكونية. ويرجع الفضل في هذا إلى العالم كارل أندرسون Carl Anderson . لقد فتح هذا الاكتشاف الباب للبحث عن جسيمات أخرى, فإن كان البوزيترون هو مضادًا للإلكترون فلنبحث عن الجسيم المضاد للبروتون, وهذا ما حصل وبعد حوالي 20 سنة من اكتشاف الإلكترون الموجب تم اكتشاف البروتون المضاد!!. لقد تم اكتشاف مكونات ذرة مضادة فهل توجد بالفعل ذرة مضادة? أو هل من الممكن أن يصنعها الإنسان?
بالفعل تم صنع ذرة هيدروجين مضادة, أي أن البوزيترون حل محل الإلكترون ومضاد البروتون حل محل البروتون. هذا عن ذرة بسيطة وجدنا لها ذرة مضادة, لنستمر في التساؤل: هل هناك كوكب من مادة مضادة?! هل هناك نجمة من مادة مضادة?! بل أكثر من هذا, هل توجد مجرة من مادة مضادة ولو سرح بنا الخيال أكثر لقلنا ماذا تكون النتيجة لو اصطدمت هاتان المجرتان? ولو سرح بنا الخيال أكثر وسألنا هل هناك كون آخر يتألف كله من المادة المضادة?! وماذا تكون النتيجة لو تصادم الكونان?!. هذا عن الخيال, لكن بعض العلماء يقول: إن المادة المضادة موجودة في مكان ما في الكون, وما بين حين وآخر تدخل فيما بين المادة وتؤدي إلى نتائج مثيرة.
حسب نظرية الانفجار العظيم بدأ الخلق بالانفجار من نقطة طاقة مركزة وامتلأ الكون بالطاقة فقط ولكن بعد مرور أقل من جزء من بليون جزء من الثانية بدأ الكون بفقد حرارته العالية جدا وبدأت الطاقة في الالتئام في كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. من هنا تبدأ المشكلة لأنه إذا كانت المادة والمادة المضادة كل منهما تُدمر الأخرى وكانت كميات المادة والمادة المضادة متساوية في بدء خلق الكون فلابد - إذن - أن كل شيء تحول إلى طاقة!. كيف يمكن في ضوء المعارف العلمية تفسير وجود المادة? من الممكن أن يؤدي وجود فرق بين كمية المادة والمادة المضادة إلى وجود هذا الكون , بمعنى آخر إن زيادة كمية المادة عن كمية المادة المضادة هي التي أدت إلى وجود هذا الكون ووجود المادة فيه ومن ضمنها جسمي وجسمك!!. لكن ما الذي أدى إلى وجود الفرق بين المادة والمادة المضادة أي ما هو العامل الحاسم الذي أدى إلى هذا الاختلاف?
إلى الآن لم نحصل على الإجابة عن السؤال المطروح, كيف تمكنت المادة من الانفراد في الوجود والظهور في الكون بالشكل الذي نراه? أين ذهبت المادة المضادة?
لكي يمكن معرفة الإجابة لابد من معرفة ما يسمى بقانون التماثل فما قانون التماثل?
ينص هذا القانون أن المادة لا يمكن أن تُخلق بزيادة على المادة المضادة ما لم تتصرف أحد أنواعها تصرفا مختلفا. على هذا الأساس يقول ميشيل داين Michael Dine ( أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة كاليفورنيا): إلى الستينيات من القرن العشرين كنا نعتقد أن قوانين الطبيعة تؤيد التماثل بين المادة والمادة المضادة ولكن نعلم الآن أن هذا التماثل ليس تماثلا كاملاً والسؤال: من أين يأتي عدم التماثل? لمعرفة مصدر عدم التماثل يجب أن نرجع إلى الدراسات التي أجريت بالنسبة للجسيمات الأولية ذات الطاقة العالية.
طاقة الجسيمات الأولية
الجسيمات الأولية جسيمات أصغر من الذرة وهي كثيرة ومتنوعة وأغلبها غير مستقرة وتنحل خلال ثوانٍ إلى جسيمات أخرى إلى أن تستقر على جسيم معين.
في سنة 1964 عمل الفيزيائيون تجربة مع أحد الجسيمات الأولية (يسمى ميزون K meson) وأثبتوا للمرة الأولى أن الانحلال في المادة المضادة أسرع منها في المادة العادية. أثارت التجربة الأوساط العلمية نظرا لمخالفتها لما كان معروفا عند الفيزيائين عن قانون التماثل لأنه ثبت للمرة الأولى أن هناك تصرفا للمادة المضادة يختلف عن المادة وهذه بداية لمعرفة سر وجود المادة في الكون!!
و تحتاج دراسة الجسيمات الأولية إلى استخدام جهاز يسمى بالمسرعات وهي أجهزة تقوم فكرتها على إسراع جسيمات معينة وجعلها تصطدم بجسيمات أخرى. تم اختراع المسرعات في الثلاثينيات من القرن العشرين وبدأت بطاقة ضعيفة إلى أن وصلت في عصرنا هذا إلى طاقات هائلة ولاتزال في حالة تطور وزيادة طاقتها. بدأت الولايات المتحدة بصنع أحد المسرعات وأقامت الدول الأوربية في سنة 1954 مسرعا في سويسرا وسمي اختصارا سيرن CERN.
لكن كيف بدأ التفكير بوجود المادة المضادة عند بدء خلق الكون?
عندما تم خلق الانفجار في المسرعات لاحظ العلماء وجود المادة والمادة المضادة بكميات متساوية, من هذا استنتجوا أن الانفجار العظيم الذي بدأ منه خلق الكون كان شبيها بهذا وتم خلق المادة والمادة المضادة بنفس الكمية. إلى بداية القرن الواحد والعشرين كان المعروف وجود جسيم واحد يخالف قانون التماثل من تناقص ميزون k mesons حسب ما مر بنا ولكن بعد 37 سنة ثبت أن جسيما آخر هو ميزون Meson B أيضا يخالف قانون التماثل.
لقد وجد العلماء الفرق بين المادة والمادة المضادة من خلال معرفة هذا الجسيم والجسيم المضاد له (ميزون Meson B) وتم أول إعلان في هذا الشأن في يوم 26-7-2001. حصل العلماء على هذه النتائج بعد بحوث متواصلة لمدة ثلاث سنوات وتحليل 88 مليون تجربة في هذا الشأن! إنه نتاج جهد مشترك من 500 عالم وفني. وتزامن هذا الإعلان مع تجارب قام بها اليابانيون وتوصلوا إلى النتائج نفسها واتفقت النتائج العملية مع المتوقع حسب النظريات عن المادة المضادة.
وتستعمل المسرعات لإسراع الجسيمات المراد إجراء التفاعل معها بدءًا من الطرف الأبعد (حسب الصورة). تبدأ عملية التفاعل بقذف الإلكترونات وجعلها تدور في حلقات. وفي وسط الأنبوب الطويل المشاهد على الطرف الأبعد يوجد مصدر للبوزيترون (إلكترون موجب) وعند الحلقة الكبيرة تتفرق كل من الإلكترونات والبوزيترونات لتلتقي عند نقطة وجود المجس حيث يتم التفاعل. إن السرعة التي تسير بها الإلكترونات والبوزيترونات سرعة قريبة من سرعة الضوء وباتجاهين متعاكسين ليتم التصادم بينهما عند المجس. تغذية الجسيمات (الإلكترونات والبوزيترونات) تأتي من المسرع والذي يجعل هذه الجسيمات تسير مسافة أكثر من 3 كيلومترات في أنبوب معدني قطره 10 سنتميتر.
مصنع لإنتاج الميزون ب
نظرا لأهمية الجسيم ميزون ب meson B تم إنشاء مصنع لإنتاج هذا الجسيم!! والمصنع ينتج 30 مليونا من زوج هذا الجسيم في السنة الواحدة. يتنافس مع هذا المشروع مشروع خارج الولايات المتحدة وهو المشروع الياباني والذي يسير بكفاءة عالية في الاتجاه نفسه لدراسة المادة المضادة.
إن اهتمام الدول الصناعية الكبرى بمثل هذه الدراسات بجانب أنها لإشباع فضول الإنسان لفهمه للكون والكشف العلمي فإننا لا نعلم في المستقبل ماذا ستكون نتائج كشف هذه الأسرار على الصناعة والتطور التكنولوجي? وما يدرينا ما يخبئه المستقبل للجنس البشري.
كيف يعمل هذا المصنع?
تدخل حزمة من البوزيترونات (إلكترونات موجبة) من الطرف الأيمن, وتتلاقى مع حزمة من الإلكترونات القادمة من الطرف الأيسر, ويحدث التفاعل في الوسط حيث يشير السهم. يوجد مجس معروف بإسم بابار Babar ولإعطاء فكرة عن ضخامة هذا الصرح التكنولوجي لاحظ المقارنة مع حجم الإنسان. هذا المجس أبعاده 6 متر X 6 متر وكتلته 1200 طن, وهو موجود في مركز المسرع في ستانفورد بكاليفورنيا في الولايات المتحدة. الهدف من هذا المجس هو الكشف عن ميزون ب ومضاد الميزون ب وتم بناء هذا الصرح التكنولوجي بالتعاون العالمي بين أكثر من 500 عالم ومهندس من بين 75 مركزًا من مراكز الأبحاث من مختلف دول العالم كندا, الصين, فرنسا, المانيا, بريطانيا, إيطاليا, النرويج, روسيا والولايات المتحدة.
لقد تبين لنا أهمية دور الميزون ب في تفسير وجود المادة في الكون ولذلك يقول العلماء عما جرى في بدء الخلق: يجب أن يكون تم التفضيل بأجزاء من الثانية بعد الانفجار العظيم, لأنه كان المطلوب فقط كمية قليلة من المادة أكثر من المادة المضادة بنسبة 1 لكل بليون وهذا ما قام به جسيم الميزون ب . هذا يعني أن أحد أسرار خلق المادة وجد في هذا الجسيم الذي حسم مسألة خلق المادة بدلا من أن يبقى الكون على شكل طاقة فقط!!. إن دراسة الميزون ب استغرق كل هذا الوقت نظرا لعدم وجود التكنولوجيا اللازمة لخلق هذا الجسيم.
مراحل التفاعل في بداية خلق الكون
بالاستعانة بالرسمة المرفقة يمكن تفسير كيفية خلق المادة في الكون.
في الواقع الحالي للكون المادة هي الغالبة, إذن لابد من وجود آلية تنتج مادة أكثر من المادة المضادة لتكون المحصلة وجود المادة والفوتونات في الكون. يقدر العلماء أن عدد جزيئات المادة إلى عدد الفوتونات في الكون هي بنسبة 1 إلى 10000000000!! مما يعني أن مقابل كل 10000000000 جزئ المادة المضادة هناك 10000000001جزيء مادة!!. لذلك تلاشت لـ 10000000000 من المادة مع 10000000000 من المادة المضادة وبقي جزئ واحد من المادة ومع هذا الجزئ من المادة هناك 10000000000 فوتون. إن التفسير المقبول حاليا هو أنه لا يوجد تماثل في عدد جزيئات المادة والمادة المضادة عند خلق الكون, ولذا بقيت المادة واختفت المادة المضادة, وهذا هو سبب هيمنة المادة على الكون, واختفت تقريبا المادة المضادة مع أنهما وجدتا في بداية خلق الكون بشكل متساوٍ? أخيرا رُفع اللثام أو بعضه عن هذا السر وعرف العلماء أن هناك جسيما يسمى الميزون هو العامل المهم في عملية هيمنة المادة على الكون ولاتزال الأبحاث مستمرة في هذا الميدان لإشباع فضول الإنسان وليعرف ما خفي من أسرار تدل على دقة الصنعة ومنها نستدل على عظمة الصانع.
وأخيرا علاقة وجودنا في الكون مع المادة المضادة:
كلما تعمق الإنسان في معرفة الكون وجد أن هناك أسبابا عميقة لكي يتحقق وجود الكون بهذا الشكل الذي نعرفه ونشاهده, وبغير هذه الصورة للكون لا يمكن لك أو لي أو لأي إنسان أن يكون موجودا في هذا الكون!!
كلما اكتشف الإنسان سرا عرف هذا الكون أكثر وأكثر وبالتالي عرف نفسه أكثر وأكثر وإن كان من الذين يربطون بين ما يكتشفه العلم وبين ما يعتقد به من خالق حكيم وراء هذا الكون العظيم الدقيق كان فهمه لدينه ولوجوده أدق وأعمق وعرف أنه لابد أن يكون لوجوده في هذا الكون هدف.
كيف تصور العلماء بداية الكون حسب نظرية الانفجار العظيم?
1- الانفجارالعظيم يؤدي إلى تكوين الطاقة والمادة في جزء من مليون مليون من الثانية الأولى للخلق (أقصى اليسار في الصورة)
2- خلق كمية متساوية من المادة (أزرق) والمادة المضادة (أحمر) من بعد الانفجار العظيم
3- من كل بليون جسيم مضاد (مادة مضادة) جسيم واحد يتحول إلى جسيم (مادة).
4- المادة والمادة المضادة كل منهما تفني الآخر وتبقى الطاقة فقط
5- النتيجة أن المادة المضادة دمرت 99.9999999% من المادة في الكون
6- المادة التي بقيت بعد اندماج المادة والمادة المضادة تجمعت في مجاميع لتشكيل البروتونات والنيوترونات والتي مع الإلكترونات تشكل الذرة, وأول ذرة تشكلت هي ذرة الهيدروجين ونظير الهيدروجين والهيليوم وتشكلت أولى الذرات بعد مرور ثلاث دقائق بعد الانفجارالعظيم, وبعدها بفترة طويلة خلقت النجوم ومن داخل النجوم خلقت العناصر الأخرى ومن بعدها أخذ الكون الشكل الذي نراه اليوم.
شكر وعرفان
الشكر موجه إلى البروفسور بايبر Karl Van Bibber رئيس فريق عمل المشروع الذي كان له الدور الكبير في تعرفي على مشروع إنتاج ميزون ب من خلال إتصالي معه وكذلك البروفسور رايت Doug Write.