تميز الكائن البشري عن بقية الكائنات الحية بما اصطلح على تسميته بالعقل الذي تكمن قدراته في ما يحتويه «المخ» من خلال تركيبه الفسيولوجي. وهذا بدوره يتكون من عشرات الخلايا ومئات الأعصاب والشعيرات المترابطة في أداء وظائفها.
وللقدرات العقلية مظاهر متعددة متمثلة في أنواع التفكير والتدبر، وكائنة بالقوة، تبرز وتتجلى بالفعل وبالتنمية، وتوظف في سياقات واحتياجات ومقاصد مجتمعية. وإذا كان لبعض الحيوانات قدرات على التذكر إلا أنها محدودة بحكم تكوينها الفسيولوجي الغريزي واحتياجاتها المقتصرة على البقاء أو الدفاع عن نفسها. وهي إمكانات لا تتغير ولا تنمو إلا في محيط ضيق لا تتعداه. بيد أن قدرات التفكير لدى الإنسان متعددة ومتطورة ومتشعبة، حتى ليقال أحيانًا بأن الإنسان يفكر أيضًا بقلبه ومشاعره، وأحيانًا أخرى بكل أعضاء تكوينه البدني، ونتذكر هنا مقولة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر.. إذن أنا موجود».
فواعل التفكير
ثم إن الإنسان لا يفكر لشخصه، وإنما يفكر للتواصل مع غيره ممن يتفاعل معهم من البشر، وبما يضطرب فيه من الأحوال والمعطيات المادية ومجريات الأحداث المجتمعية، ومن ثم فإن الفهم والتشخيص في التفكير يتطلبان مقاربات منهجية متعددة، فهناك الباحثون في علم النفس المعرفي وفي علم النفس العصبي ممن يرصدون عمليات التفكير ومواقعه في المخ. ثم إنه لعمليات التفكير البشري تاريخ، مما يتميز به عن الكائنات الأخرى. وهو ممتد عبر آلاف السنين، حيث المظاهر المتباينة لهذا التاريخ في تجسدها عبر ثقافات وحضارات متعددة في ظروفها وأوضاعها، وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
ومن ثم فإن تنمية قدرات فكرية ومعرفية معينة، أو التركيز عليها، أو طمس بعضها وتجاهله، إنما هو فعل ثقافي اجتماعي بالدرجة الأولى، تتوالى فيه المبررات لأهمية بعض القدرات، كما تقدم الأعذار لتفادي غيرها. وتقوم بتزكية المنشود منها المؤسسات التربوية بدءًا من الأسرة، والمدرسة والجامعة، فضلاً على وسائل الإعلام، والخطاب السياسي. وربما تتدخل أجهزة الأمن في ضبط ومراقبة أنواع التفكير غير المشروعة ومصادرتها من أجل سلامة المجتمع واستقرار أوضاعه الداخلية والخارجية. ولعل مصير الفيلسوف الأثيني «سقراط» من أقدم الشواهد التاريخية على مصير ما قد يلقاه الفكر المغاير للنمط السائد في تفكير ثقافة معينة.
التطور في توجهات التفكير
ولعمليات العقل بمختلف آلياته وبخاصة «المخ» أوصاف يتم اختصارها أحيانًا في مفهوم الذكاء ومستوياته، وقد طوّر هذا المفهوم الأحادي «هاورد جاردنر» أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة هارفارد حيث تبين له بالتجارب أن ثمة أنواعًا متعددة من الذكاء، تتسع مظاهرها وأوصافها لتشمل ضروب الذكاء النظري، والعملي، واللغوي، والفني، والاجتماعي، والجسماني كجوانب متميزة، وإن جرى التواصل في ما بينها.
ثم غيَّر مفهومنا إلى مفهوم «العقول المتغيرة» في كتاباته التالية منها «Changing Minds» ثم تابع ذلك في كتابه الأخير «Five Minds for the Future - خمسة عقول من أجل المستقبل» الصادر عام 2006. وهو تشخيص وتحديد لأنواع العقول وأنماط التفكير التي تتطلبها مواجهة مقتضيات التعامل والتفاعل مع العولمة والتعايش الرشيد مع المجتمع الكوكبي، بما يموج به من المتغيرات العالمية الكاسحة، سياسيًا واقتصاديًا ومعرفيًا.
رؤية في أنواع التفكير وسياقاتها
واستهداء بتلك التصنيفات، وربطًا بينها وبين ما يوجد أو يهمل في مؤسسات التربية والتعليم ومختلف القوى الاجتماعية المعلِّمة، والتزامًا ببعض الأحكام القيمية في توجه التنمية للقدرات العقلية ومظاهر التفكير المتنوعة التي ترد في الأدبيات التربوية، نلخصها في ما يلي:
1 - التفكير التذكري الاتباعي.
2 - التفكير القياسي.
3 -التفكير الاستنباطي.
4 - التفكير التجريبي.
5 - التفكير الواعي.
6 - التفكير الاجتماعي النقدي.
7 - التفكير الإبداعي.
8 - التفكير الإلهامي المفاجئ.
9 - التفكير التعاوني الحواري.
وقد تتشابك هذه الأنواع في بعض العمليات العقلية وفي مجالات البحوث والاستكشاف. وهي كلها تجليات فكرية تتطلب التنمية ويوظفها الإنسان حسب فاعليتها في مجالات الحياة المختلفة ومشكلاتها. بيد أن مناط الإشكالية يتجلى في ضوء مطالب التنمية الثقافية والتعليمية بل والتنمية المجتمعية الشاملة، حين يتغلب بعضها، ويهيمن في المجتمع على بقية الأنواع الأخرى، كالأنواع الثلاثة الأولى مثلاً والمستندة إلى الذاكرة والقياس والاستنباط. ومن ثم تتوارى بدرجات متفاوتة أو ترد من قبيل التزييف بوجودها خطابًا. وبذلك تنحسر أهمية التجريب الذي هو أساس التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات، والتفكير الواعي الذي يتأمل ويتدبر مدى المفارقة أو المواءمة بين الخطاب المعلن والواقع المعيش. أما التفكير النقدي الذي يكشف ويُعرِّي العوامل والقوى المجتمعية والرؤى الأيديولوجية الكامنة لنظام قوى الحكم والسيطرة التي تكرس الأوضاع السائدة وإعادة إنتاجها. والتفكير الإبداعي هو المغامرة بإيجاد البدائل والأفكار والإجراءات التي تقتضيها النقلة النوعية إلى رؤى جديدة مغايرة. كذلك الشأن في التفكير الإلهامي المفاجئ الذي تأتي به اللمعة الذهنية في لحظة فكرية وفي آونة غير متوقعة. يسمى أحيانًا بالتفكير «في طرفة عين - blink» أوقوة التفكير من دون تفكير the power of thinking without thinking، كما أطلق عليه ذلك العنوان «بلنك» الأستاذ مالكوم جلادول «Malcom Gladwell» في كتابه الصادر عام 2007.
التفكير في السياق الشمولي
سبقت الإشارة إلى أن شيوع أي مجموعة من أنماط التفكير إنما يتوقف على السياقات المؤسسية والأجواء المجتمعية التي تنمي أيًا منها لتكون في خدمة أهداف مجتمع ما، سواء من أجل المحافظة على أوضاعه الراهنة، أو ساعيةً وحريصةً على التجدد والتطور نحو حياة أفضل وأكمل. ويمكننا بصورة عامة أن نصنف معظم الدول النامية أو المتخلفة علميًا وتكنولوجيًا، والمتدنية في أوضاعها المعيشية، بانتمائها إلى مجموعة التفكير الذي يقتصر على تنمية الذاكرة،واتباع المنهج القياسي والاستنباطي في ثقافتها، وفي مؤسسات تعليمها.
وبذلك يقتصر تفكيرها وينحشر في القضايا الراهنة، وفي تذكر الواقع وحفظ معطياته، وفي الحكم أحيانًا على كل قضاياه الجديدة قياسًا على ما جرى في ماضيه، واستنباط الأحكام على أساسها، متجاهلة أن التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، وكثيرًا ما تقع فيها الأزمات والتناقضات بين احتياجات الحاضر والمستقبل، وبين السعي إلى تثبيت الأوضاع الراهنة وما تقتضيه من تغيير لمقاومة عوامل التخلف الكامن في أحوال البشر والعمران.
ويغلب على معظم تلك الأقطار النامية هيمنة نظم حكم شمولي استبدادي سواء كان أبويًا أو أوتوقراطيًا أو ثيوقراطيًا أو متشحًا بأسمال ديمقراطية زائفة.
وفي مثل هذه الأنظمة يتوجه التفكير عادة إلى التمركز حول رب العائلة وراعيها، أو مالك الحل والعقد فيها، أو صاحب القبضة الحديدية على حركتها، أو الزعيم الضرورة. منه وإليه تبدأ وتنتهي إدارة الدولة، يصدر أوامره وتوجيهاته وتكليفاته، ولا معقب لرأيه. وفي جميع الأحوال تحاط شخصيته بنوع من المهابة أو القدسية والدعاية لقدراته الفائقة.
وفي مثل هذه الأنماط من إدارة الحكم، يصبح التفكير المطلوب من نوع التلقين والتعبئة، ومن تنمية تفكير الذاكرة الاتباعي الذي يلتزم بإرادة الحاكم ومن يحيط به من أصحاب المصالح والنفوذ المستمد من إرادات الحاكم المطلقة.
وفيها تسيطر قوى المركزية والبيروقراطية العمياء، وبذلك تسير الأمور في طريقها المرسوم من دون اجتهادات أو محاولات لإعمال التفكير الناقد أو المبدع. وبذلك أيضًا يمكن ضمان مسيرة المجتمع في استقرار الأوضاع واستمرار الحاكم المطلق مطمئنًا على سيطرته التامة في مواجهة أي تحديات فكرية أو مطالب للتغيير يمكن إخمادها بمختلف الوسائل القمعية. وفي مثل هذه الأنماط والقوالب الفكرية الأوتوقراطية يشيع التفكير الخرافي أو التفكير الماضوي في القياس على ما جرى في عهد السلف الذي يوصف دائمًا بأنه صالح، ومن ثم ضرورة الاقتداء به. وتظل أيديولوجية المؤسسات التعليمية محافظة على مضامينها وقيمها وتحيزاتها وتمجيدها للأوضاع الراهنة أو الأوضاع القديمة وتقاليدها التاريخية.
من أنماط تفكيرنا السائد
في ما يلي سوف أشير إلى عشرة من أنماط العمليات السائدة من مظاهر التفكير في مثل تلك الأجواء.
1 - التفكير من خلال البطل وانتظار تعليماته، يكفي ذكر صدام حسين في هذا النوع من التفكير، فهو «معصوم لا يخطئ أبدًا».
2 - التفكير من خلال الأسطورة، وهي التماس الحلول من مصادر غيبية تفرج الكروب وتقضي الحاجات، وتتنبأ بالمستقبل أو تحقيق المراد من رب العباد، وتبسّط المسائل المعقدة.
3 - التفكير من خلال الفروسية، وتضخيم الذات، والتغلب على المشكلات والتحديات دون توافر الإمكانات والوسائل المطلوبة. إنه تفكير أبو زيد زمانه.
4 - التفكير من خلال الخوارق، وهي التي يعتبر حدوثها أو الالتجاء إليها وسيلة لحل المشكلات الشخصية أو المجتمعية مثل كرامات الأولياء، أو ظهور صورة العذراء في سماء مصر في أعقاب حرب 1967.
5 - التفكير من خلال السلطة المتمثلة في رؤساء الإدارة ونظم البيروقراطية، أو سلطة المعلم في الفصل، وهناك سلطة التأشيرة وخاتم الدولة وسلطة «المحاسيب» أو المال والرشوة.
6 - التفكير من خلال الإسقاط على الخارج، وتتضمن كل عوامل التبرير لعوامل خارج الذات، وبخاصة في حالات الفشل أو عدم النجاح في الامتحانات، لا لخيبة الطالب بل لأسئلة خارج المقرر، أو عندما يهزم الفريق الرياضي لا لضعف فيه، بل لسوء التحكيم.
7 - التفكير من خلال الرومانسية أو من امتلاك سمات الصلاح والرشد، وذلك يتمثل في النظرة الرومانسية للتراث الذي خلفه السلف الصالح، و«ما أحلاها عيشة الفلاح، وما أجمل ما مضى من الأيام».
8 - التفكير الهارب من المواجهة: تأجيل النظر في الموضوعات المعقدة، إحالتها إلى لجان ثم لجان، وقد تستخدم الشعارات أو المقارنات مع دول أدنى في مستوياتها أو تزييف الواقع بعبارات وإكلشيهات براقة، أو إحصائيات مضللة.
9 - التفكير من خلال الزمن، وهو نوع خاص من الهرب، يرتبط بتجاهل الزمن، إذ إن المشكلة ستحل نفسها مع مرور الوقت. وهي ممثلة في ما قالته أم كلثوم لمن جفاها «حاسيبك للزمن»، وحكاية «جحا وتعليم الحمار».
10 - التفكير من خلال المصلحة الخاصة والنفاق، متمثلاً في شخصية «الفهلوي» وطموحاته.
ولا فكاك من أسر مثل هذه المنظومة الشمولية الاستبدادية وأنواع التفكير السائد بين معظم مواطنيها إلا من خلال التحول الديمقراطي، وسيظل قائمًا هذا التوجه الفكري الذي لا يستند إلى واقع معلوم مُشخّص، ولا يلتزم الأسلوب العلمي ومناهجه في معالجة الشئون والشجون الحياتية. ومن ثم فإن النضال من أجل التحرك الديمقراطي الذي يتضمن إلى جانب ملامحه السياسية، التأكيد على حرية الفكر والمجتمع في إعمال العقل، والتفكير الإيجابي بمختلف صوره الواعية والناقدة والمبدعة والملهمة، هي ضمان للتجديد والتطور. هذا فضلاً عن المشاركة الجماعية وحقها في التعبير والتنظيم والمعارضة بالرأي المغاير، وبتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وتوافر مقومات حقوق الإنسان، وفيها أيضًا تصبح المؤسسات والقوانين ذات دور فعال في مسيرة المجتمع، وفي إثراء حياة الفرد والجماعة. ولن يقضى على الأوهام والأساطير الفكرية إلا بما يصاحب الديمقراطية من ثقافة تبنِّي الأسلوب العلمي في التفكير ونشر الثقافة العلمية بين الجماهير.
أوصاف التفكير للمستقبل
ولعله من المفيد هنا أن نعود إلى ما أسماه «هوارد جاردنر» «العقول الخمسة» اللازمة للمسيرة البشرية الديمقراطية في المستقبل، وفي إطار تحديات العولمة كذلك. وسوف نلفت إليها باختصار، وإلى ما يترتب عليها من مفاهيم وسياسات وقدرات ومهارات لتنمية هذه العقول من خلال المؤسسات التربوية والمجتمعية، وترسيخها. وبذلك يتحقق مفهوم العيش المشترك على المستوى العالمي، وليس على المستوى «العولمي» المهيمن حاليًا بكل تناقضاته وأزماته.
ويؤكد جاردنر أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة هارفارد على ضرورة اكتساب الأنواع الخمسة من التفكير واتخاذها إحدى ضمانات المواجهة لتحديات الحاضر والمستقبل، بحيث لا تتيح للبعض سواء من الدول أو الأفراد أن يعيش في بلهنية ورخاء، بينما تظل الفئة الباقية في حالة فقر بائس، وإحباط عميق.
وتنطلق تلك التوجهات العقلية الخمسة من إسهامات علم النفس المعرفي في تفهم العقل البشري وعمليات المخ، إلى جانب العوامل التي أبرزتها فواعل التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة، ومن القيم الإنسانية للعيش المشترك.
وتوجهات التفكير التي يضعها «جاردنر» في «روشتة المستقبل» تتمثل أولاً في ما أسماه «العقل المعرفي المنظم»، وهو الذي يمتلك على الأقل قدرًا من المعرفة المتميزة في مجال واحد على الأقل، سواء في مجال العلوم أوالفنون أو المهن أو في أي مجال من مجالات الذكاءات المتعددة المشار إليها آنفًا.
ومن دون هذا الامتلاك فإن الفرد سوف «يجد نفسه مساقا لاتباع الألحان التي يعزفها غيره». وهذه هي أهم خصائص هذا العقل المعرفي المنظم The disciplined mind.
والتوجه العقلي الثاني هو القادر على «التجميع والتربيط» The synthesing mind، ويتميز بالقدرة على تناول معلومات من مصادر معرفية مختلفة ليقوم بإيجاد الروابط بينها في وحدة بينية، بحيث يتكون منها مزيج أو مركب له قيمته ودلالته. وتزداد أهمية هذه القدرة في زحمة التراكم المعرفي المتزايد بكم هائل رهيب. ويشير في هذا الصدد إلى مقولة الشاعر الإيطالي (دانتي الليجيري) في حديثه عن جهنم ضمن (الكوميديا الإلهية) (حيث إن الجحيم هو المكان الذي لا يرتبط فيه اللاشيء باللاشيء).
والتوجه العقلي الثالث يتمثل في «العقل الخلاق» (Creating Mind) وهو الذي يقتحم آفاقًا معرفية جديدة، فيمدنا بأفكار جديدة، ويطرح أسئلة غير مألوفة، بغية الوصول إلى إجابات غير متوقعة. وفي هذا الصدد يتوقع أن يكون الخلاّق متقدمًا ولو بخطوة واحدة على آفاق المعرفة الراهنة في أفضل الحواسيب المتاحة أو قدرات (الإنسان الآلي - روبوت).
والعقلية الرابعة هي ما يطلق عليها «عقلية الاحترام» (Respectful Mind)، التي تحترم الاختلافات بين الأفراد والجماعات الأخرى، ساعية إلى تفهم هؤلاء «الآخرين»، وإلى العمل معهم بكفاءة. ومرد ذلك إلى أننا في عالم متشابك، يصبح فيه عدم التسامح أو عدم احترام رؤى الآخرين خيارًا غير مقبول على الإطلاق.
ويأتي التوجه العقلي الخامس والأخير Ethical Mind متمثلاً في التقييم الذاتي لعمل المفكر بشأن طبيعة ما يعمله وعلاقته باحتياجات وتفضيلات مجتمعه. وهذا يعني أن مقاصد العمل ينبغي أن تتجاوز استهداف المصالح الخاصة، والسعي بتجرد إلى إفادة الجميع دون تحيز.
قيمة الخماسية
يسائل «جاردنر» نفسه عن سبب اختياره لهذه التصنيفات الخمسة بالذات. وهو في إجابته يؤكد لنا أنها أنواع التفكير العقلي الذي تفرضه أولويات اليوم، بل وتتزايد أهميتها في المستقبل، إذ إنها تتضمن الجانب المعرفي ممتزجًا بالجانب المجتمعي الإنساني الكوكبي. ثم إن هذه التوجهات العقلية الخمسة قد تَجمَّع لدينا قدرا من المعرفة والدراية بكيفية تنميتها. ومع ذلك، فإنه يورد أنواعًا أخرى يراها متمثلة في منظومته، منها على سبيل المثال تفكير العقلية التكنولوجية، والرقمية، والسوقية (نسبة إلى السوق العالمي) والديمقراطية، والمرنة، والعاطفية والروحانية، والاستراتيجية. وهو يرى أنها مواصفات أكثر من كونها مجرد دراسة سيكولوجية.
أساليب تنمية الخماسية
وفي سبيل تنمية هذه الأنواع من العقليات يتضح الدور الرئيسي الذي تقع مسئوليته على عاتق المدرسة أو بالأعم على جميع المؤسسات التعليمية والعوامل المجتمعية الأخرى، وهذا يتطلب إيمانًا جديدًا بحتمية التغير. وهنا نلحظ - كما سبقت الإشارة - أن نظام تعليمنا الحالي قد فشل في تحقيق كثير من طموحات الخطاب الرسمي وأهدافه المؤسسية الاجتماعية. ومادام قد استمر هذا الإخفاق فعلينا أن نجرب مسالك أخرى. وعلينا أن نتذكر دومًا أننا نضطرب في عالم قد تغير فعلاً.
لقد كانت قضية ثقافة الذاكرة متصلة بالاهتمام بما هو مسطور في الكتب، أما اليوم فإن توفير طباعة الكتب ونشرها، فضلاً عما تستوعبه الوسائط التكنولوجية والحاسوبية، لم يجعل عقلية الذاكرة بذات الأهمية التي حظيت بها من قبل. ثم إن وسائل المواصلات والاتصالات قد ألغت عزلة الأفراد والثقافات، مما يستدعي عقلية جديدة للتفاعل الواعي والناقد، والتعاون المثمر بين مختلف الثقافات والمؤسسات، وتبادل الاحترام والإفادة في ما بينها. يضاف إلى ذلك كل ما أحدثته الثورات العلمية والتكنولوجية من آثار في حياة الأفراد والأمم.
ومن ثم فإن هيمنة التوجهات العلمية والتكنولوجية تستدعي الاهتمام الجاد بإلمام المواطن بطرق ومناهج التفكير العلمي وسياقاتها المجتمعية حتى يتمكن من فهم عالم اليوم فالغد، والمشاركة فيه. وإهمال ترسيخ هذه المناهج العلمية والتكنولوجية سوف يحرمه من القدرة على تقييم مختلف الخيارات والسياسات التي تواجهه في مجتمعه. ثم إنه من دون السيطرة على مهارات الحاسوب سوف لا يستطيع الوصول إلى ما تتيحه شبكاته من المعارف التي يحتاج إليها، وإلى تصنيفها وتنظيماتها، وإلى مجمل ما أتاحته ثورات العلم والتكنولوجيا من كشف أسرار وقوانين الطبيعة وعالم الأحياء البيولوجي. لقد توفر للعلماء والتكنولوجيين من أبحاث فهم العقل والمخ الإنساني خلال العقود الخمسة الماضية أكثر مما كان متاحًا منها خلال كل مراحل التاريخ السابقة. لقد تجمع اليوم لديهم رصيد هائل من النظريات والتجارب في موضوعات الذكاء، وحل المشكلات ومجالات الخلق والإبداع، ومعها كثير من الآليات والبرمجيات والأجهزة المرتبطة بكيفية التفكير وتنمية مكوناته ومقوماته. وهو ما ينبغي الإفادة منها في عمليات التعليم والتعلم للصغار والكبار وللقيادات التربوية والثقافية.
وهنا ينبغي الالتفات إلى أنه من دون الاستمرار في تعليم العلوم الطبيعية والرياضيات فلن ينطلق عالم التكنولوجيا وتطبيقاته إلى آفاق جديدة. وهذا يعني أنه لا يمكن أن تنمو معرفة تكنولوجية دون تطوير وتجديد في مجالات العلوم والرياضيات. ومع هذا تحشد الجهود لتبيان ما في عمليات تفكيرنا من تناقض مع المنهج العلمي العقلاني. وهذه مهمة الثقافة العلمية الشعبية بكل صورها. ثم إن الاهتمام بقضايا العلم والتكنولوجيا ينبغي ألا يضعف الاهتمام بمجالات معرفية أخرى ضرورية لمواجهة حاجات الفرد والمجتمع، ومنها العلوم الاجتماعية والإنسانيات، والفنون، والأخلاقيات، وصحة البدن، والتربية الوطنية والمدنية. وهي المجالات التي تساعد على توجيه وتحديد أهداف المجتمع ومقاصده، إذ العلم والتكنولوجيا ليسا بذات بال في صياغة غايات المجتمع في مسيرته حاضرًا ومستقبلاً، بل هي وسائل وآليات لتحقيق الغايات المجتمعية. ولعله من المناسب أن نختتم هذا المقال بمقولة ونستون تشرشل بأن «إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل».