ما كان يمكن لكتاب "في الشعر الجاهلي" طه حسين إلا أن يستقبل استقبالا عدائيا من مجموعات قرائية مختلفة، تلقت الكتاب متربصة مترصدة، مستفزة سلفا، لأسباب متعددة وعوامل متباينة. أول هذه الأسباب والعوامل سياسي يرتبط بالخصومات الحزبية التي اضطر إليها طه حسين، منذ أن انحاز إلى الأقلية الأرستقراطية التي انطوت على أفكار الليبرالية الأوربية، ووجد فيها ملاذه السياسي الاجتماعي، وحلمه الثقافي، فانضم إليها في المطالبة باسترداد حقوق الأمة الطبيعية: الحرية والدستور، في مواجهة السلطة المطلقة للحاكم والسلطة الفعلية للمحتل، ثم انضم إليها في صراعها الذي قاده عدلي يكن، في مواجهة المد الجماهيري المتدافع لأبناء الطبقة الوسطى الذين التفوا حول زعيمهم سعد زغلول .
وقد تحدد لطه حسين موقعه في هذا الصراع منذ سنوات بعيدة، تبدأ باحتضان لطفي السيد له في صدامه الأول مع الأزهر (1908) وتقديمه إلى صفوة الأفندية في "حزب الأمة" وإلى قراء الأمة في "الجريدة". ويتواصل هذا الاحتضان طوال مراحل الدرس في الجامعة الأهلية في مصر (1908 - 1914 ) وفي جامعة مونبلييه في فرنسا (1914 - 1915 ) وفي إقامته القصيرة بالقاهرة، الإقامة التي اصطدم فيها بأستاذه الشيخ المهدي الذي كاد أن ينجح في فصله من البعثة لولا حماية لطفي السيد وعبدالخالق ثروت، وهي الحماية التي امتدت إلى أيام الدراسة في جامعة بارس (1915 - 1919 ) ولم تنقطع بعد أن عاد طه حسين إلى الوطن، فاستقبله في ميناء الإسكندرية حسن عبدالرازق وكيل حزب الأمة القديم والشقيق الأكبر لعلي عبدالرازق، وكان محافظا للإسكندرية، وأو صله وزوجه إلى القاهرة معززا بالدعم المالي موفورا بالدعم المعنوي. وهناك تلقاه حماته القدامى، ليقدمه إلى الجمهو ر - حين بدأ التدريس في الجامعة - عبدالخالق ثروت باشا، العقل المدبر للأحرار الدستوريين بعد سنوات قليلة، ووزير الخارجية الذي كان يقوم مقام عدلي ويخلفه في رئاسة الوزارة. وما كان أشد الأثر الذي تركته في نفس طه حسين خطبة التقديم التي قدمه بها عبدالخالق ثروت، بعد أن أجلسه على كرسي الأستاذ، ووقف هو ليعرفه بكلمات التشجيع والتقدير إلى الذين حضروا محاضرته الأولى في الجامعة الأهلية عن تاريخ اليونان القديم.
أول معيد للجامعة
وظل عبدالخالق ثروت وأحمد لطفي السيد أعطف أهل الجامعة على طه حسين، وأكثرهم رعاية له، وأشدهم إلحاحا عليه في ألا تكون المصاعب المادية مهما تشتد صارفة له عما هو فيه من الدرس والجد. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يهدي كتابه الإشكالي الأول "حديث الأربعاء" إلى أستاذه القديم أحمد لطفي السيد الذي ظل يؤدي دوره من وراء ستار في حزب الأحرار الدستوريين، إلى أن أصبح أول مدير للجامعة المصرية، بعد أن أسهم في تحويل الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية، مشترطا في وثيقة الاتفاق مع وزارة المعارف العمومية في ( 12 ديسمبر 1923) إبقاء طه حسين أستاذا للآداب العربية في الجامعة الجديدة التي أصبح أول رئيس لها، بعد صدور المرسوم الملكي بإنشائها في الحادي عشر من آذار (مارس) 1925 ولم يكن من قبيل المصادفة، أيضا، أن يهدي طه حسين كتابه التالي مباشرة عن الشعر الجاهلي إلى صديقه وراعيه الجديد عبدالخالق ثروت، فكلا الرجلين ظل نمو ذجا لنسق القيم التي سعى طه حسين إلى تجسيدها وإشاعتها بواسطة كتاباته، وكلا الرجلين ظل يقوم بدور الموجه والراعي السياسي، في أحلك الأزمات، وأهمها أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي".
وكان طه حسين قبل هذه الأزمة، وعلى نحوأسهم في توجيه عمليات استقبال كتابه، متورطا إلى أبعد حد في الصراعات الحزبية، خاصة منذ أن تولى عدلي يكن الصديق القديم لأحمد لطفي السيد، ووزير الخارجية من قبل، رئاسة الوزارة في السابع عشر من آذار (مارس) 1921 لتشكيل وفد مصري للتفاوض على الاستقلال مع الحكومة البريطانية، وهو أمر أدى إلى تصاعد الصدام بين العدليين والسعديين. وقد انغمس طه حسين في هذا الصدام، منذ أن حمله العدليون إلى استقبال زعيمهم الذي عاد محبطا من لندن بعد فشل مفاوضاته مع الإنجليز، فرأى فيه طه حسين "المخفق العظيم" الذي لا بد أن يذهب لاستقباله في محطة القاهرة، صائحا مع الصائحين ليحيى عدلي باشا، ويتعرض بسبب ذلك إلى لعنات السعديين وحجارتهم وعصيهم، فيصيبه الأذى الأول المباشر من أنصار سعد. ولولا أن رفيقه الذي يقوده انعطف به إلى حارة جانبية، ثم نفذ به إلى حيث أمن الحصى والحجارة والشتم، لتعرض لشر كثير فيما يحدثنا في "الأيام".
وبعد أن قدم عدلي يكن استقالته من الوزارة ليخلفه عبدالخالق ثروت الذي تولى الإعداد للدستور، تولى أصدقاؤه تأسيس حزب جديد باسم "الأحرار الدستوريين" لمؤازرة ثروت في وزارته وإعداده للدستور. وتولى رئاسة الحزب الجديد عدلي يكن الذي أصبح نقيضا لسعد زغلول زعيم الأغلبية. وانضم طه حسين إلى الحزب الذي سرعان ما أصدر صحيفة "السياسة" للتعبير عن مصالحه ومبادئه، وأصبح المشرف الأدبي على الصحيفة إلى جانب محمد حسين هيكل (زميله القديم في التلمذة على أحمد لطفي السيد في الجريدة ) الذي أصبح رئيسا للتحرير. وفي "السياسة" انطلق صوت طه حسين دارس الأدب إلى جانب صوت طه حسين الكاتب السياسي الذي أصبح أكثر حدة في خصوماته السياسية. وتزايدت هذه الحدة في توقد الصراع بين "العدليين" و"السعديين"، أو بين أنصار "الوفد" و"الأحرار الدستوريين"، وتوهجت كتابات طه حسين، سواء في دعوته إلى الحرية الليبرالية التي تبناها حماته السياسيون، أو في مطالبته بالدستور الذي عملت وزارة عبدالخالق ثروت على تحقيقه، بواسطة لجنة الثلاثين التي ناصبها سعد زغلول العداء، وأطلق عليها اسم "لجنة الأشقياء"، أو دفاعه عن مواقف الأحرار الدستوريين في عدائهم للنزعة الشعبية للوفد، ونفورهم من تسلط سعد زغلول، وكراهيتهم لأساليبه في إثارة الجماهير التي رأوا فيها نقيض التعقل المستنير. وكان ذلك يعني الانحياز الكامل إلى النمو ذج السياسي الأرستقراطي الذي جسده عدلي يكن الذي أراد قيادة الجماهير إلى ما ينفعها بواسطة النظام والقانون، أي بواسطة الديمقراطية المنظمة، ومن ثم العداء للنمو ذج السياسي المقابل الذي تجسد في سعد زغلول، الزعيم الشعبي الذي رأى فيه طه حسين تضخم الاستئثار بما للجماهير من قوة وسلطان، والاستبداد باسم الشعب المضلل، وسلوك السبيل التي تؤدي إلى إكراه الخصوم على الإذعان وتكميم الأفواه وعقد الألسنة.
نفور مع زعيم الأمة
وأسرف طه حسين في النفور من سعد زغلول، خاصة بعد أن استقر في وعيه أنه النقيض الشعبي الضار للمثقف السياسي الأرستقراطي، الليبرالي على الطريقة الأوربية، النخبوي المستنير الذي وجده في أمثال لطفي السيد و عبدالخالق ثروت وعدلي يكن من "أعيان البلاد وسراتها وأذكيائها" وحماته في الوقت نفسه، وهو النفوالذي ساعد عليه اختلاف الطباع وتجارب شخصية تركت آثارها الغائرة. وكان طه حسين قد بدأ هجومه على زعيم الأمة الذي لم يقتنع قط بزعامته في جريدة "الأهرام" قبل صدور "السياسة"، وواصل الهجوم في "الجهاد"، و"الاستقلال". ولم يتردد كثيرا في الانضمام الحماسي إلى الذين هاجموا سعد بعنف وقسوة على مستويات عدة، تقويضا لسلطة الوفد الشعبية ومكانتها المتزايدة في نفوس الجماهير، فيكتب في "الاتحاد" جريدة الحزب الذي أنشأه الملك فؤاد لمواجهة تضخم النفوذ الوفدي في الحياة السياسية.
وتدافع احتجاج طه حسين على احتكار سعد لإرادة الأمة وطغيانه باسمها. وسعدت الأقلية الأرستقراطية بمقالاته التي كان عنوانها "ويل للأمة من سعد"، وأعجبت ببلاغته التي أقسم فيها على طغيان سعد وأصحابه، وعلى مطالبته كل مصري، في جريدة السياسة، أن ينهض للطائفة الباغية الطاغية التي يتزعمها سعد، فيردها إلى طورها، وينزلها منزلتها، ويأخذها بالإذعان لكلمة الحق والخضوع لأمر الجماعة والنزول على إرادة الوطن. وكان ذلك قبل أقل من عامين على صدور كتابه "في الشعر الجاهلي". وبالقدر نفسه استفزت هذه المقالات الجماهير الوفدية المتزايدة، واستعدت طوائف السعديين الذين انتشروا في قطاعات الزراع والتجار والموظفين في المدن والقرى، وبرعوا في تدبيج "العرائض الشعبية"، و"البرقيات" الحماسية المرسلة إلى أولي الأمر، وجمع التوقيعات التي تؤكد الإجماع الشعبي لمطالب "العرائض" و"البرقيات". وكانت تلك "العرائض" و"البرقيات" أحد الأسلحة الموجعة التي استخدمتها المجموعات الوفدية للثأر من قلم طه حسين الذي سخر من زعيمها، وظل يواليه الهجوم اللاذع في جريدة "السياسة" لسنوات، وذلك إلى الحد الذي دفع سعد زغلول، حين ترأس الوزارة، إلى أن يطلب من النائب العام التحقيق مع طه حسين بتهمة "إهانة رئيس الوزراء".
هجوم بإسم الدين
ويبدو أن هذا السلاح بالذات تلقفته المجموعات الأصولية المتحدثة باسم الدين من الوفديين، واستغلته هي الأخرى في الهجوم على طه حسين بعد أن أصدر كتابه الذي اتهموه بالإساءة إلى الدين.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن أولى الجرائد التي بادرت بالهجوم على كتاب طه حسين، بعد صدوره بأقل من أسبوعين، هي جريدة "كوكب الشرق" الوفدية، الجريدة التي فتحت صفحاتها لكل المجموعات التقليدية التي تولت تكفير طه حسين، كما فتحت صفحاتها لبرقيات الاحتجاج وعرائض التكفير المنهمرة من مناطق التجمع الوفدية، ونشرها يوميا، عقابا لطه حسين على ما سلف منه في حق الوفد وزعيمه. وانضمت إلى "كوكب الشرق" في هذا الهجوم جريدة "البلاغ" الوفدية العالية الصوت، الواسعة التأثير في ذلك الوقت. ومعها "الكشكول" ذات الميول الوفدية التي تخصصت في السخرية والكاريكاتير السياسي. ولم تكن جريدة "الأهرام" بعيدة عن الأثر الوفدي في ذلك الزمان، فأخذت موقعها سريعا في حملة الهجوم، وأفسحت صفحاتها للمشايخ الأزهريين والمشايخ المنتسبين إلى دار العلوم، جنبا إلى جنب جريدة "الاتحاد" التي انقلبت على طه حسين الذي ساندها ضد سعد والوفد، في الفترة الأولى من الوزارة الاتحادية، ثم عادت وانقلبت عليه بعد أن انسحب الأحرار الدستوريون من الوزارة، بعد أزمة علي علي عبدالرازق، ومن تحالفهم مع حزب "الاتحاد" الذي أخذ الموقف المعادي نفسه الذي اتخذه الوفد، لكن لأسباب مغايرة.
ويبدو أن طه حسين كان يتوقع الاستجابات السياسية المعادية، ويتوقع ما يمكن أن تقوم به المجموعات المعادية من إدخال السياسي في موضوع علمي، جامعي، أكاديمي، مثل موضوع الشعر الجاهلي، فلم يخف انتماءه السياسي المعادي للوفد، وصدر كتابه الأدبي بإهداء سياسي إلى حضرة صاحب الدولة عبدالخالق ثروت باشا، قطب الأحرار الدستوريين، عدوالوفد الذي تولى رئاسة الوزارة في أثناء نفي سعد زعيم الأمة الذي ملك القلوب. والإهداء دال بكلماته التي تخاطب عبدالخالق ثروت معبرة عن موقف كاتبها بقوله:
"كنت قبل اليوم أكتب في السياسة، وكنت أجد في ذكرك والإشادة بفضلك، راحة نفس تحب الحق، ورضا ضمير يحب الوفاء، وقد انصرفت عن السياسة وفرغت للجامعة، وإذا أنا أراك في مجلسها كما كنت أراك من قبل، قوي الروح، ذكي القلب، بعيد النظر، موفقا في تأييد المصالح العلمية توفيقك في تأييد المصالح السياسية. فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذا الكتاب مع التحية الخالصة والإجلال العظيم".
وذلك إهداء لا يخفي الميول السياسية لصاحبه، أو إعلانه عن انحيازه إلى جبهة ثروت - عدلي السياسية التي لم تكن بعيدة عن مواقف أحمد لطفي السيد الذي أهدى إليه طه حسين كتابه السابق. وما يلفت انتباهي بوجه خاص في هذا الإهداء، ويؤرخه صاحبه بالثاني والعشرين من آذار (مارس) 1926، بعد مضي أربعة أيام على فراغه من إملاء الكتاب في الثامن عشر من الشهر نفسه، هو الرسالة المباشرة المتجهة من المهدي إلى المهدى إليه، لتبلغه (بضمير المتكلم الذي يمكن أن يكون ضمير المخاطب) أن المخاطب كان يكتب قبل اليوم في السياسة، منصرفا إليها عن العلم، وأنه رجع عن السياسة ليفرغ للجامعة. وتلك رسالة مزدوجة المغزى، تنطبق في دلالتها على كل من المهدي والمهدى إليه على السواء، فحضرة صاحب الدولة عبدالخالق ثروت باشا كان قد عاد من صراعات الحياة السياسية العاصفة، بعد أن استقالت وزارته التي أشرفت على إعداد الدستور، إلى منصبه القديم الذي ظل مبقيا عليه، وهو عضوية مجلس إدارة الجامعة التي أسهم في تأسيسها وإدارتها، منذ أن ألقى خطابه الذي حدد توجهها أمام الخديوي عباس الذي ترأس حفل افتتاحها الرسمي بقاعة مجلس شورى القوانين في الحادي والعشرين من ديسمبر 1908 . ولا يبعد طه حسين في هذا الجانب كثيرا عن راعيه الذي يدين له بالكثير، فهو مثله بمعنى أو بآخر في العودة إلى حياة الجامعة واستبدالها بالانغماس في النشاط السياسي المحموم الذي مارسه تحت مظلة العدليين في صراعهم مع السعديين. وذلك استبدال مقترن بنوع من الشعور بالهزيمة التي انتهى إليها تحالف الأحرار الدستوريين مع الملك فؤاد وحزب الاتحاد الذي صنعه لمواجهة الوفد، وخروجهم (أعني الأحرار الدستوريين) من وزارة زيور الاتحادية نوفمبر 1924 - يونيو1926 منكسرين، بعد فشلهم في إنقاذ عضوالحزب البارز علي عبدالرازق صاحب "الإسلام وأصول الحكم" من براثن المشايخ والقصر، وذلك في الأزمة المدوية التي أدت إلى طرد عبدالعزيز فهمي وزير الحقانية (ورئيس حزب الأحرار الدستوريين في ذلك الوقت) بعد رفضه تنفيذ قرار لجنة العلماء بإسقاط شهادة العالمية عن الشيخ علي عبدالرازق وفصله من وظيفته في القضاء. وكانت النتيجة استقالة بقية وزراء الأحرار الدستوريين من الوزارة، وخروجهم مدحورين بلا وزن ولا قدرة، خاصة بعد أن نجح الملك فؤاد ورجاله في التفريق بينهم وبين بقية خصومه، فتركوا الوزارة مطاردين بشماتة جرائد الوفد الذي تحالف ضده الأحرار الدستوريون مع الملك، وفرحة الأزهريين بفقدان خصومهم "العلمانيين" رضاء الملك الذي جمعته والمشايخ غواية إحياء الخلافة وإمكان تنصيبه خليفة على المسلمين.
ولا تختلف عودة الزعيم السياسي البارز لحزب الأحرار الدستوريين إلى منصبه القديم بالجامعة، في الزمن المتردي للحزب، عن عودة كاتب الحزب البارز إلى حياة العلم في الجامعة نفسها، فالسياق الواحد يجعل من كلتا العودتين وجها للأخرى، في عملية الاستبدال التي تلوذ بقيمة العلم الثابتة مقابل مراوغة السياسة المتقلبة.
وكما انصرف عبدالخالق ثروت إلى تأييد المصالح العلمية في الجامعة بعد أن عجز عن تأييد المصالح السياسية للأمة، في الوزارة والحزب، انصرف طه حسين إلى تدريس الشعر العربي القديم والكتابة عنه والمحاضرة فيه. وأغرق إلى أن انتهى إلى الشعر الجاهلي، وذلك ضمن تركيزه على منصبه الجامعي - أستاذ الآداب العربية - الذي خصه به أصدقاؤه الأحرار الدستوريون، واشترطوه في عقد تسليم الجامعة الأهلية إلى الحكومة. وهو المنصب الذي أثار بدوره غيظ أمثال مصطفى صادق الرافعي فيما عبروا عنه في جرائد الوفد المعادية وبخاصة "كوكب الشرق" وسخرية الساخرين في المجلات الهزلية ذات الميول الوفدية، مثل "الكشكول" التي ناوشت طه حسين أستاذ الآداب العربية لتذكره بقصعة مرق الفول النابت في الأزهر. وتصف سوزان طه حسين (في كتابها "معك") السياق الذي أملى فيه زوجها طه حسين كتابه عن الشعر الجاهلي، فتقول إنه "بدأ الكتاب في يناير 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه، وكان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل، مدفوعا بحماسة بلغت به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية لكن ما حدث له أرهقه، وأتصور أن الصلة بين الشعر الجاهلي و"الديمقراطية" لا يمكن فهمها إلا في جانبها الرمزي، في المستويات الشعورية أو اللا شعورية التي تستبدل بالكتابة في السياسة الكتابة في العلم، وبالتحرر من الأهو اء السياسية التحرر من الأهو اء البحثية، والانتقال من صراع الجديد والقديم في الأخلاق والحياة الاجتماعية إلى صراع الجديد والقديم في المنهج. وتلك هي المستويات التي انصرفت بالكاتب عن السياسة ليفرغ إلى علم الجامعة، وإعادته مع نهاية كتابه الذي يمثل علم هذه الجامعة إلى السياسة مرة أخرى، ليجد نفسه مندفعا إلى الشروع فورا في إنجاز كتاب عن الديمقراطية التي هي المبدأ والمعاد في خطاب العلم والسياسة، أو القاسم المشترك الذي يتضخم من غيابه جبل المغناطيس الذي تتفكك على صخوره كل سفن الرحلة إلى المستقبل.
التشابك مع الواقع السياسي
والواقع أن هذه المستويات متداخلة، منسربة في الأبعاد المتعددة للخطاب "في الشعر الجاهلي". وهي تبدولافتة، دالة، خاصة عندما يتحدث طه حسين، في مقدمة الكتاب، عن "الأهو اء والعواطف التي تنتهي بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء". وعندما يؤكد أن منهج الشك "ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا". وعندما يلح على "المؤثرات السياسية الخارجية" التي كان "لها أثر قوي جدا". وهو يواجه هذا الأثر بالحديث عن منهجه الذي يلح على "أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل" كما لوكان يؤكد حضور كل ما في ذهن الباحث من قبل، وبكيفية لا يبدومعها الخطاب "خالي الذهن.. خلوا تاما" من الإشارة إلى هذه المؤثرات. وإلا فما معنى الدعوة إلى أن نستقبل تاريخ الأدب وقد خلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحية. ولا يعني ذلك أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به. أو أن "لا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح"، وإنما يعني أن ما وقع على مستويات متعددة، خارج الكتاب وقبل إملائه، يتحول إلى دوافع تسهم في توجيه الخطاب فيه، كما يتحول إلى علاقات تدل على هذه الدوافع، الواقعة في مجالات تتشابك مع البعد السياسي الذي لا يخلومنه ذهن المؤلف الناطق بالخطاب. هذا الذهن لا ينسى الخلافات والخصومة الواقعة خارج الكتاب، والتي تولد منها خطاب الكتاب بطريقة أو بأخرى. وهي خلافات تستدعيها الكلمات الاستهلالية للخطاب، وذلك منذ أن يفاجىء صاحب الكتاب قراءه المخاطبين بجدة كتابه التي لم يألفها الناس عندنا من قبل، معلنا أنه يكاد يثق بأن فريقا من الناس سيلقونه ساخطين عليه، وأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارا، وأنه وإن أسخط فريقا وشق على آخر فسيرضي الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد. وذلك خطاب يعرف خصومه وأنصاره سلفا، ويخاطبهم بطريقة ليست خالية الذهن تماما مما قيل من قبل، وليست خالية الذهن تماما مما يمكن أن يحدث من بعد.