مختارات من:

مختارات من القصص العالمية

المحرر

سفير في الليل
للكاتب النيجيري: كين سارو-ويوا
ترجمها عن الفرنسية: محمد الجندي


تسير السيارة بأقصى سرعتها، ويزمجر المحرك في صمت الغسق المنتشر. لقد سقط مطر خفيف. ثمة بقع من الماء على ذلك الطريق، الذي يخترق الدغل، ويمر بجسر خشبي مهتري، وبأراض محروثة حديثا، ويحاذي عدة قرى مبنية بالطين، قبل أن يصل إلى المدينة.

في الخلف من السيارة كان الرجل والمرأة، وابنها كان يغفوعلى المقعد إلى جانب السائق. الرجل كان يحيط بيده أصابع المرأة. وكانت تتركه يداعب أصابعها بلطف دون تفكير.

من وقت إلى آخر، كانت ثمة صورة عابرة لامرأة، أولامرأتين، تعودان من السوق مع سلتين صغيرتين على الرأس، تثير ذكريات وقت مضى. مرة مرتا بمجموعة صغيرة من الناس، تحمل رجلا على تخت. كان الرجل مغطى تماما بستارة. كان ميتا.

قالت:

- إنها الكوليرا.

كانت ترتجف، زوجها توفي أيضا في أثناء الحرب. بعد مسيرة طويلة مؤلمة تحت مطر عنيف، وفي ليلة كئيبة، وصل إلى البيت - غرفة صف مبنية بالطين، مفتوحة للرياح، في مكان ما في الريف. كان يسعل، رجلاه متورمتان. نظرة بسيطة إلى وجهه الجميل، وعرفت أن شيئا ما لم يعد سليما، يجب أن يذهب إلى المستشفى. ولكن كانت تعرف، أن لا فائدة. لا توجد أدوية في المستشفى. الطائرات الليلية كانت تأتي بصورة خاصة بالذخيرة. بعض الأدوية، التي كانت تتلقاها، كانت تضيع في السوق السوداء. والقليل منها، الذي كان يرشح إلى المستشفى، كان مخصصا للضباط، وللرسميين-الذين كانوا يجلسون خلف مكاتبهم، ويبدون آذنا صماء. أمضى ثلاثة أيام على السرير في المستشفى. ثم وقف العالم.

سوف تلد طفلا بعد موته، ولن يكون لديها وقت لدفنه: الطائرات دمرت المشرحة. وكان عليها، أن ترحل إلى القرية المجاورة.

هو أيضا خاض الحرب، ولكن في المعسكر الآخر. كان دوره، أن ينقل الأو امر، والأغذية، والأدوية، والنجدة، وقد أتعبتهم الحرب وهدتهم، يعيشون في تلك القرى وسط السهو ل، المتعانقة الأشواك، التي تبصق آبارها البترول ليل نهار. تلك الآبار، التي كانت السبب الرئيسي للحرب، والتي لا تزال تشعل النار، هو أيضا كانت لديه طرف، يرويها عن تلك الأيام الصعبة، التي عاشها بين الجنود، بين اليائسين والفقراء، الذين عانى من أجلهم الكثير دون كلل خلال أشهر كاملة من الآلام. والآن، وقد انتهت الحرب، كانت مهمته دوما هي المساعدة على إعادة التكيف للذين هربوا منذ أول انفجار غير مألوف لطلقة مدفع، أولقنبلة. كان همه الآن، أن يقنع البالغين، كي يعودوا إلى المزرعة، وإلى أعمالهم، وكي يرسلوا أولادهم من جديد إلى المدرسة. عمل صعب، مليء بخيبة الأمل.

كانا يريان الصور العابرة من المساحات المحروثة حديثا تضيع خلفهم في الغسق.

فكر: هذه الأراضي المحروثة سوف تقتلكم يا إخوتي، ويا أخواتي. ذلك الصباح بالذات خطب فيهم في ساحة قرية دوكانا، مطالبا إياهم بإرسال بناتهم إلى المدرسة. ولكن من يساعدنا في المزرعة، أجابت النساء. من يحرس الأطفال، عندما نبذر الأنيام igname ؟ يئس. في كل بداية موسم تشترون الأنيام للبذار. تشتغلون بشكل قاس من أول يناير حتى 13 ديسمبر، ثم تأكلون ما تجنونه، وفي الموسم التالي يجب عليكم أن تشتروا من جديد انيام البذار. ليس لديكم حساب في البنك، وربما تشترون وزرة pagne جديدة من سوق ايغوانغا، وسطحكم، الذي من القش، يهرب يائسا من سنة إلى أخرى. ثم أنتم مضطرون لتزويج ابنتكم البالغة خمس سنوات، وذلك لشراء إنيام البذار، كي تستطيعوا الزراعة من جديد. أمن أجل هذا خلقكم الله ؟ لا، يا إخوتي. هذه الأراضي سوف تقتلكم (...).

كان من السهل دوما تحديد اللحظة، التي اقتربت فيها السيارة من بوري Bori ظهر خزان الماء في الأفق، ثم السطوح المصنوعة من الصفائح المموجة، والتي تغطي الكوميساريا والثكنة، ثم الجدران القرميدية للبنايات الإدارية، وأعمدة التلغراف، ومولد الكهرباء في المستشفى، عندما لا يكون معطلا. الطريق الرئيسية تقسم المدينة نصفين. حل الليل تقريبا. أمر السائق بالوقوف.

- سأشتري اسبرين من هنا، بينما السائق يملأ البنزين بعد مسافة قصيرة. ألا تنزلين؟ يمكن أن نذهب ونتناول بعض الشراب الحلو.

لم تسمع سوى الكلمات الأخيرة. فتحت الباب بشكل آلي، وعيناها ساهمتان في الأفق، وخرجت. دخلا الدكان. خالية تقريبا. زجاجة أسبرين تكلف خمسة شلنات، أغلى بمرتين من قبل الحرب. دفع، وغمغم ببضع كلمات حول الغلاء والأرباح المفرطة. لم يكن ثمة شراب. الشاب كان يجر رجليه على إيقاع الموسيقى الخارجة من الترانزستور، الموضوع على أحد الرفوف الفارغة.

ترك المرأة تخرج أولا من الدكان، وتفحصها طويلا بعين ناقدة. منظرها العام لم يكن على ذوقه. لقد فقدت جمالها. يقول، إحداهن. لقد تغيرت كثيرا: لقد تركت الحرب بصماتها. لم تبلغ الثلاثين بعد. ربما لوكان لديها رجل.. غير السائق الفيتيس (ناقل الحركة)، وأنار المصابيح. وبينما كانت السيارة تتسارع، كانت المصابيح تمسح البرية، وتظهر عرائس الإنيام، التي تخرج من التلة الصغيرة. في البعيد تنير السماء يمنة ويسرة شعلات مكامن البترول. للحظة قطب حاجبيه. قال

- أنت صامت تماما، وحاولت بذلك أن تطلق الحديث. تنهد.

- لماذا تتنهد ؟

- بسبب الشعلات.

- تزعجك ؟

- نعم.

- لا أفهم فعلا، لماذا ؟

قال بنفاد صبر:

- هذا سياسة. وضرب برجله وأضاف: لننس كل ذلك.

- أو ه، أنت تعلم، أنني لن أنسى.

- لكن يجب ذلك. انظري خلفك، هناك. أترين القمر الهلال ؟

أتذكرين ليلة مثل هذه. كنا فيها على السياج، الذي كان يفصل بيتينا في بوري، وكنا نمسك بأيدي بعضنا ؟

ابتسمت بحزن في العتمة. كان يخفف عنها، إنه لا يستطيع أن يرى وجهها.

- منذ زمن طويل جدا. تزوجت بعدئذ بوقت قصير.

ورد بقسوة:

- فسري لي، لماذا ؟

قالت، وابتسمت بأسى في العتمة:

- ليس هذا من نوع القصص الذي يحكى. لا ضرورة لتعذيبي. لم يكن ذلك زواجا سعيدا.

قال بقسوة:

- تركتني أسقط.

- لعلك لا تقول هذا، لتؤذيني. أنا أرملة شابة ضعيفة.

- وأنا أعزب.

- إذن، ستجد يوما ما السعادة.

- سأجد يوما ما السعادة، نعم.

السخرية التي يحسها المرء في صوته، لا شك فيها. تفحصت وجهه، واعتقدت، أنها اكتشفت قسوة عميقة في ملامحه. بدا، وكأنه هرم دفعة واحدة (...).

ضحك ضحكة جوفاء وصفيقة، أصيبت منها برعشات في ظهرها. تتذكر الآن، كيف كبرا معا. وكيف كانت ببراءتها خلال عطلة الميلاد فريسة شاب، يعمل في الضرائب، وحملت منه. وكم بكت، عندما أدركت أبعاد ما جرى ! وغضب الأبوين ! وكيف جرح صديق طفولتها الجالس الآن في السيارة إلى جانبها بسبب ذلك، وكيف اضطرب، وجن جنونه ! غضب عليها، وضحك، وسخر منها، لكي يخفي ألمه. لا يزال يتذكر الضحكة الساخرة، التي حياها بها، عندما تركت والديها، لتذهب، وتعيش مع الرجل، الذي لوثها.

أنارت المصابيح كلبا أجرب، كان يأكل الغائط على طرف الطريق. وذكره ذلك بتلك الليلة الكئيبة الممطرة أيام الحرب، التي عثر فيها على كلب وحيد في قرية أو غال المقفرة، يصطفي بهدوء أفضل القطع على رأس أحد الموتى. في ذلك اليوم لعن تفاهة الحرب (...)

تابع قائلا:

- بل لا يوجد مستشفى، يذهب إليه المرء. ولا يوجد أيضا ما يكفي من اللقاحات للجميع. اللقاحات، التي تأتي من القيادة تباع إلى أولئك الفقراء التعساء. ثمة أحد ما، استخدم المال المخصص لشراء الأدوية لاستعماله الشخصي، ولن يجد المرء حتما مذنبا، ليطرده.

- إذن ؟

- إذن لا يوجد فعلا شيء يجعل المرء سعيدا.

- على كل حال، تحمل العالم على كتفيك. لست أطلس.

- لا. ولم أخلق لذلك أيضا.

ثمة شاحنة ضخمة تجاوزتهم بسرعة جنونية. مع رائحة السمك المجفف المألوفة.

لاحظت:

- ذلك السائق مستعجل.

- طبيعي. ثمة أحد ما على وشك تحقيق أرباح شاذة من آلام الفقراء.

تلك هي منح، آتية من النرويج، منقولة في مركبات قديمة، ولكنها صالحة، ومقدمة من شعب بريطانيا العظمى إلى الإفريقيين، الذين يموتون من الجوع، ومن سوء التغذية. ماذا تأخذين من كل ذلك، أنت؟

- أنت تسخر من المنح ومن المانحين ؟

- أخاف اليونانيين، والمنح، التي يأتون بها معهم، في العمق، ليس سيئا، أن ينتهي المطاف بها إلى جيوب الأفراد.

ثم وضع في حسابه، أن أقواله لم تكن عادلة تماما، لأن حياتهم كانت أصعب بكثير، لولم تصل تلك المنح. صمت.

اقتربوا الآن من شعلة، كانت القرية قربها تتربع في النور. بعض البيوت لم يعد لها سقف: سقط تحت القذائف إبان الحرب. القرية البشعة، السمينة القصيرة، غير المعتنى بها، كانت غافية.

قالت:

- لديهم حظ، أولئك القرويون. لديهم نور طوال الليل. لا حاجة للكهرباء.

- فعلا، لا حاجة. وضحك ضحكة قاسية، لا رحمة فيها.

بالكاد تجاوزوا القرية، وإذا بعدد من الرجال في حالة هياج أشاروا لهم بالوقوف. أمر السائق بإطاعتهم. ظنت، أن هؤلاء قد يكونون عصابة مسلحة. قال، أن لا. ما إن اقتربت السيارة بشكل كاف من الرجال، حتى وقفت. أحدهم وضع أمامه امرأة قصيرة هزيلة.

قال:

لديها الطاعون.

حسنا ضعها على المقعد الخلفي. سآخذها إلى المستشفى. يجب أن يصحبها أحد ما.

جميعهم قاموا بحركة تراجع، مرتعبين (...).

حسنا، سآخذها معي. واعتنوا بأنفسكم. اغلوا الماء جيدا قبل الشرب. لا تضعوا أي مصاب في الداخل. ولا تستدعوا الدجالين. حافظوا على ما حولكم نظيفا. ليلة سعيدة.

تابعت السيارة طريقها بصمت. كانت المريضة تلبس ثوبا باليا، مرقعا، وجلست بينهما. تقيأت مرتين، وفي المرتين قاما بما يلزم لجعلها تشعر بالتحسن. استخدم منديله ليمسح الأو ساخ. وتوجب عليها أن تستخدم منديلها كخرقة. ورأت تلك الطيبة الراسخة، التي أعجبت بها، وأحبتها دوما، تنبثق لديه. لم يكن فظا، ربما كان مثاليا جدا في بلد لا مكان فيه للمثالية. سمعته في نفس الصباح يتكلم في دوكانا، استمعت لبضع الكلمات، التي قالها في السيارة، دهشت لضحكته الساخرة، التي اعتبرتها بغيضة جدا. لوترك لنفسه، فإنه قادر على تدمير ذاته. ثمة فكرة سريعة مرت بذهنها، ولكن كبتتها بالسرعة، التي ولدت فيها. استمرت تمسح القي بمنديلها.

هو أيضا تأثر للحنان، الذي كانت تمسح به القي باستخدام منديلها. شعر، أنها تفعل ذلك لأجله. ومرت بسرعة لديه فكرة. كبت تلك الفكرة مباشرة، وترك روحه تسرح في المشكلات الاجتماعية. كيف يمكن للمرء، أن يمنع سرقة الغذاء والدواء المخصصين للجماعة ؟ أن يمنع الناس من قبول الرشوة ؟ رجل هبط من القدس إلى أريحا، ووقع في وسط لصوص. وضربوه إذا لم يصمد، يموت. ولا أحد يبكي عليه. لا أحد مطلقا. خفض زجاج النافذة، وقذف بمنديله الملوث من النافذة.

بدأت المريضة تئن، وتهمس بكلمات غير مسموعة. وفكر، لم أستطع التخلص من تلك الفكرة، هذا مستحيل تماما.. الكلمات، التي نطقت بها تعود لها. أنت لست أطلس ! لا، ولم أخلق من أجل ذلك أيضا. لقد تكيف العالم دوما مع علله. وإذن ؟ إنها فتاة شجاعة. كان يجب أن أتزوجها. الآن هي أرملة، ولكن لديها ابن من زوجها الأول. لا أستطيع أن أتبناه.. لم تعد جميلة، مثلما كانت في شبابها. تنهد.

نظرت في اتجاهه. ليس ثمة شيء سوى الظلمة بينهما، لكن كانت ترى أشعة الضوء، التي تنبثق عن البيوت البعيدة، وتضيء قليلا السيارة.

الآن برزت المدينة أمامهم.

أمر السائق:

اذهب إلى المستشفى.

ماتت المريضة قبل الوصول إلى المستشفى. سلم الجثة للمشرحة. التي كانت مليئة، ولكنه ترك الجثة هنا برغم ذلك. لم يكن ثمة أحد، يأخذ إعلاما بالحادث. الممرضة المناوبة كانت مرهقة بالعمل، وبدت متوترة. أغلق باب السيارة وأشعل سيجارة. كانت جالسة إلى جانبه، تبكي. سألت:

سترافقني إلى البيت، آمل.

نعم، حتما.

بقيا صامتين حتى بيتها. كان الجيران نائمين عند وصولهما. أيقظت ولدها، الذي نام، وقبضاته مطبقة طيلة الرحلة. نزل من السيارة، ودخل بسرعة راكضا إلى البيت.

فتحت باب السيارة من جهتها، ذهبت إلى الجهة الأخرى للسيارة حيث ينتظرها - ومدت له يدها. عاد لها هدوؤها. لم يهتم بيدها، وأخذها بين ذراعيه.

قال:

يجب أن تعلميني الحياة مع الموت.

تخلصت من ذراعيه، وابتعدت بخطى ثابتة.

إيسكي آراب
للكاتب البلغاري: يوردان يوفكوف
ترجمة: ميخائيل عيد


ثمة قرى عديدة حول مصب نهر ميستا يعيش عبها زنوج. تقول أسطورة غير قديمة العهد إن شخصا يدعى حسين باشا كان يملك مزارع واسعة هنا. لم يحتمل عماله وأجراؤه المسلمون البلغار الجبليون الذين في منطقة رودوبي القيظ والملاريا حول قره سو. مات بعضهم وهرب الآخرون فاستقدم الباشا زنوجا من مكان ما. ليس ثمة وجود للمزارع في أيامنا. لكن أحفاد الزنوج ما زالوا مقيمين هنا. بيوتهم واطئة رمادية اللون، تختفي بين أشجار التين. وتنمو أجفان الصبار، إلى الأعلى عند الأسيجة الطينية بأزهارها الصفر والحمر. الجوقائظ إلى درجة لا تطاق صيفا. لا نسمة تحرك قصب المستنقع. ثمة محاريث تجرها جواميس ضخمة، يسير وراءها فلاحون سود في مثل لونها. وثمة شبان جميلون حقا: أجسام معافاة ممشوقة، وأطراف مفتولة صلبة فكأنما هم من برونز أسود. إنهم أناس طيبون سذج بسطاء يتكلمون ويبتسمون من القلب كالأطفال، ابتسامات تكشف عن أسنان بيض كالثلج.

مركز خفارة الحدود مقام في مزرعة مهجورة. كل تذكارات الشرق وغوامضه باقية في ذلك البناء القديم الضخم: الأطناف العريضة، والنوافذ المشبكة، والسرادقات، والجدران المغطاة تماما بحشيشة الدينار، وعاشق الشجر، وغيرها من النباتات المتسلقة. وتقوم حوله أسوار حجرية عالية كأسوار حصن.

المزرعة بعيدة جدا عن القرى، وبالرغم من ذلك، كان جيراننا السود يأتون لزيارتنا أحيانا. كان اثنان منهم يزوراننا أكثر مما يفعل الآخرون.. وهما إيسكي آراب، وتاتا تيتا.

إيسكي آراب أكبر الزنوج سنا هو الوحيد الذي لم يولد هنا بل في السودان، وقد حكى لي في أول لقاء بيننا: "هناك صيادون يصطادون على الجياد في نواحينا. وهم لا يخرجون للصيد البري بل لصيد الأطفال. يطوفون حول القرى ويخطفون الطفل الذي يبتعد ويبيعونه" وهكذا اقتيد إيسكي آراب. كان حينذاك في الرابعة عشرة من عمره. ولهذا يتذكر أشياء كثيرة من وطنه.

ليس ثمة ما يجمع بين تاتا تيتا وبين شخصيات برنارد شو. كان شابا خلاسيا جميلا وكان اسمه الحقيقي شوكت. خدم في الجيش التركي نافخ بوق. كان الجنود يتسلون معه ويرغمونه على أن يعزف لهم المارشات السكرية التركية. ما كان تاتا تيتا يمانع بتاتا. وكان يعزف تلك الإشارات بفمه بطريقة واحدة: تا - تا. تي- تا. فصار هذا لقبه. لم تكن له حرفة، ولم يمارس أي عمل تقريبا. كان يعمل فيما مضى على إحدى العوامات التي تنقل الناس والعربات عبر النهر لقاء مبلغ زهيد. ولهذا كان تاتا تيتا يعرف قره سووالغابات المجاورة أفضل مما يعرفها حيوان بري. كان ماكرا نشيطا، يشرب الكثير من الخمر، ويمارس التهريب سرا.

يأتي إيسكي آراب إلى المركز دائما ومعه طلب ما: راجيا إعفاء مواشيه من السخرة أو طالبا السماح له باقتطاع القليل من حطب من الغابة على مقربة من الحدود. لكنه ما كان أبدا يبدأ الحديث مباشرة. كنا نبدأ وإياه الحديث نفسه دائما. يقول:

-يا رئيس أفندي ! أنت دائما تقرأ وتدخن، تقرأ وتدخن.

- أنت تحن إلى مملكتك دون ريب !

- طبعا يا عبدالله، إنني أحن وأنت، ألا تحن إلى السودان ؟

- أحن، كيف لا أحن.

- ألا تريد الذهاب إلى هناك ؟

- إيه، أريد.. إنه الوطن. جذاب لكنه بعيد جدا يا رئيس أفندي. على بعد ستة أشهر، وعلي أن أحصل على سبع تذاكر، إذ يجب أن أجتاز سبع ممالك. وهي: اسطنبول، أزمير، مصر..

ويعد على أصابعه ويذكر بضعة أسماء أخرى. هي ليست ممالك بتاتا، ولا معنى لها، على الأغلب. ولكونه واثقا من أن هذا كله سوف يدهشني ويذهلني حتما فإنه كان يبتسم في النهاية بطيبة وغبطة. وإيسكي آراب هرم جدا، ووجه منفر مخيف: جلد أسود وشفتان سوداوان وحتى بياض عينيه أسود. أسنانه وحدها بيضاء وليس ثمة ما هو إنساني في هذا الوجه سوى الابتسامة.

ويردف:

- وهناك بحر، ثمة بحر يجب عبوره.

ثم يسألني بعد وهلة قصيرة بسذاجة تامة:

- أحقا، يا رئيس أفندي، وأنت رجل متعلم، أنه توجد في البحر أفاع كبيرة تستطيع حتى إيقاف البواخر ؟

ومن ثم نغير سريعا مواضيع حديثنا.

ويذهب آخر الأمر سعيدا فرحا، لأن الإذن الذي أعطيته له بقطع ما يريد من الحطب من منطقة الحدود يلمع أبيض في يده السوداء. لكن الجنود يستوقفونه طويلا في الخارج ويمازحونه ويضحكون حوله.

هكذا كان يأتي إلى المخفر مرارا. وكان تاتا تيتا يأتي أيضا. لكنه كثعلب يطوف بالخم حذرا ودون ضجة. كنت أراه على غير انتظار بين الجنود. دون أن أعرف متى جاء ودون أن أراه عندما يذهب. لاحظت مرة، صداقة حميمة بين معاوني المساعد وإيسكي آراب وتاتا تيتا. وخيل لي أنني لاحظت ذلك متأخرا جدا. كان تاتا تيتا يتحاشى الالتقاء بي، وإذا ما التقينا راح ينظر إلي بمكر وارتياب. وأدركت أن شيئا يتم خفية عني.

كانت غرفة المساعد منتحية جانبا في مكان من الطبقة الأولى. مررت يوما مساء قربها ونظرت عبر النافذة. كان الأصدقاء الثلاثة هناك.. المساعد، وإيسكي آراب، وتاتا تيتا. تضطرم نار في الموقد وثمة أقداح وزجاجة عرق (راكيا). كان ضابط الصف من بانديرما، وهو شاب مثقف جدا، يجيد اللغة التركية أحسن من الأتراك أنفسهم. يتكلم عن إفريقيا. ويبدوأنه قرأ ليفنغستون، وبريم، وماين ريد. دار الحديث حول كل شيئ: حول الغابات الإستوائية المتشابكة بالعرائش والمزدحمة بالضواري، والأفاعي، وحول الصحراء والسراب الذي يخدع القوافل الضالة، وحول نخيل الواحات وزئير الأسد المخيف حين تغيب الشمس. ومن ثم أسهب في وصف المساكن الصغيرة المقامة من عيدان الخيزران. الذين يعيشون هناك سود البشرة، لكنهم أحرار ودون هموم، متوقدون، شبقون في الحب، قساة عنيفون في الانتقام وفي المعارك. يعرفون كيف يفرحون: يشربون الخمر بقشور جوز الهند، موسيقاهم تنيم الأفاعي وتلهب دماء النساء، اللواتي يرقصن شبه عاريات. الخرز والنقود القديمة، وحدها، ترن على أذرعهن وصدورهن. صرخ تاتا تيتا لدى سماعه الكلمات الأخيرة ثم تناول كأسه، وصفر لحن شارة الهجوم. تلك هي الشارة التي تعلن أن وقت الشرب قد حان. وتاتا تيتا يصفر هذه الشارة كثيرا. إنه يشرب مستمتعا، يرفع الزجاجة ليرى كم بقي فيها، ولا يأبه كثيرا بالحديث. أما العجوز إيسكي آراب فكان يستمع ذاهلا عن كل شيئ وهو يرتعش تأثرا. وكان يكتفي بأن يردد:

- هكذا، تماما، يا شاويش أفندي. أذكر ! إيهيه !

ومن ثم غنى بصوت أجش.

منعت هذه اللقاءات. لكن مرض الزنجي استفحل. كان، علاوة على ذلك، مصابا بخرف الشيخوخة الطبيعي، لكنه صار الآن لا يتحدث إلا عن السودان وعن شبابه. كلامه لا معنى له تقريبا وغير مترابط. فكه يرتجف وكذلك يداه. عيناه ترسلان نظرات زائغة بلهاء. زوجته تشكوه لي، وهي عجوز حادة الطبع شريرة، رجتني أن أمنع المساعد وشوكت من الجلوس مع عجوزها. إنهما يفقدانه صوابه. كان فيما مضى فطنا وديعا. وهو الآن يخاصمها دائما. ويتوعدها بأنه سيبيع كل شيء ويذهب إلى السودان. يكاد لا يأكل شيئا ولا يستطيع إلى النوم سبيلا، وإذا ما أغفى راح يلغط في بلغة غريبة غير مفهومة. وتبكي العجوز.

دعوت إيسكي آراب إلى المخفر. صادف هذه المرة أنه كان ثائبا إلى رشده. جهدت كي أقنعه بالنكوص. قال بإذعان أسيان:

يا رئيس أفندي، مات أطفالي، وأنا هرم، ويخاصمونني في البيت دائما. لا أستطيع، سوف أذهب، المكان الذي يولد فيه الإنسان هو المكان الذي يناسبه.

وروى لي هذه الطرفة:

في قديم الزمان رأى الملك سليمان طائرا صغيرا. كان تغريد الطائر فائق العذوبة. أمرهم أن يمسكوه ويضعوه في قفص من ذهب.

ولأنه ملك، تحقق ما أمر به. لكن الطائر صمت حينئذ. أحني رأسه وما عاد يردد سوى: "وطن ! وطن !" أشفق الملك وأمر بإطلاقه. انطلق الطائر من القفص وحط على جفنة شوك قمئة وعاود التغريد. لكن، هناك، في وكنه.

رجعت ذاك المساء نفسه متأخرا من جولتي عند الحدود. كانت القرية ساكنة، والمساكن تختفي تحت قباب أشجار التين، ثمة نافذة واحدة مستديرة تضيء في الظلام كعين صفراء. تناهت إلى سمعي أصوات متفرقة باهتة تشبه وقع قطرات المطر فوق حوض.

هناك بيت إيسكي آراب. دنوت وأو قفت جوادي، ثمة في الداخل من ينقر على الطبلة ويغني، الصوت موهن أجش. إنه رنات صماء غلظة. إنه إيسكي آراب يغني. سمعت في البداية لحنا هادئا مفخما يتكرر طويلا، لكن فيه الكثير من الحب والدموع والذكريات. ثم تسارعت النقرات على الطبلة وتسارعت الأغنية واستحال اللحن إلى إيقاع مرقص ممراح. ورنت الصنوج بدلا من الطبلة.

وتعالى صوت نسوي زاعق حقود:

- اسكت، اسكت، أيها الخرف الملعون ! ياي، ياالله، ياالله ! صمتت الأغنية. رد إيسكي آراب بشيء لم أسمع فحواه. وعادت المرأة إلى الصياح بقنوط:

طن ! وطن ! هذا الوطن دوما ! أضعت صوابك أيها الرجل، فلتخجل !

مضى بعض الوقت، ثم بدأ نقر الطبلة وبدأت الأغنية من جديد. اللحن المفخم البطيء في البداية، أصوات غليظة صماء من الخلف، لكنها مفعمة بالرقة والحب والأسى القانط.

إنه إيسكي آراب يحن إلى السودان.

وسيطة الأرواح
للكاتب الإسباني: بيو باروخاا
ترجمة: الدكتور جمال يوسف زكي


أنا رجل هادئ، ومتوتر الأعصاب، متوتر الأعصاب جدا، لكنني لست مجنونا كما يقول الأطباء الذين شخصوا حالتي. لقد حللت كل شيء وتعمقت فيه وأعيش قلقا. لماذا ؟ لا أعلم حتى الآن.

نذ وقت طويل أنام نوما عميقا بلا أحلام، وعلى الأقل عندما أستيقظ، لا أتذكر إن كنت قد حلمت، ولكن يتحتم علي النوم، ولا أفهم لماذا يخيل لي أنه ينبغي أن أحلم. وربما أنني أحلم عندما أتكلم الآن، ولكنني أنام كثيرا وهذا دليل على أنني لست مصابا بالجنون.

ولكن عقلي لا يفكر، وعلى الرغم من ذلك فهو متوتر، باستطاعته التفكير ولكنه لا يفكر.. آه ! إنكم تبتسمون، هل تشكون في كلمتي ؟ إذن، أقول نعم. لقد تكهنتم به. هناك شبح يهتز داخل نفسي.

سأروي لكم الحكاية:

إن الطفولة رائعة، هل هذه حقيقة ؟ بالنسبة لي هي أفزع فترة في الحياة. عندما كنت طفلا، كان لي صديق يسمى رومان هو دسون، كان أبوه إنجليزيا وأمه إسبانية.

تعرفت به في المدرسة. كان صبيا طيبا، نعم، بالتأكيد كان صبيا طيبا، ولطيفا جدا، وطيبا جدا، وكنت أنا نفورا وفظا. وعلى الرغم من هذه المفارقات جمعتنا الصداقة وكنا نسير دائما معا. كان هو تلميذا نشيطا، وكنت أنا عاصيا وكسولا. ولأن رومان كان ولدا طيبا فلم يكن لديه مانع من أن يصحبني إلى منزله ويجعلني أرى مجموعات الطوابع التذكارية الخاصة به. كان منزل رومان كبيرا جدا وكان يقع بجوار ميدان لاس باركاس، في عطفة ضيقة بالقرب من منزل تم فيه ارتكاب جريمة قيل عنها الكثير في فالنثيا.

لم أقل إنني قضيت طفولتي في فالنثيا. كان المنزل حزينا، حزنا جدا، كل ما هو حزين ومن الممكن أن يكون منزلا، وبجزئه الخلفي كانت تقع حديقة كبيرة جدا تكسوحوائطها النباتات المتسلقة لأزهار الجرس البيضاء والبنفسجية.

كنا نلعب أنا وصديقي في الحديقة، في حديقة النباتات المتسلقة، وفي سطح المنزل الفسيح بالبلاط الذي كان به، على مقربة من إصيصات الصبر الأمريكي.

وفي يوم خطر لنا أن نقوم بمغامرة عبر الأسطح وأن نقترب من منزل الجريمة الذي كان يجذبنا بسبب سريته. وعند عودتنا إلى السطح قالت لنا فتاة إن والدة رومان تنادينا.

وهبطنا سطح المنزل وجعلونا ندخل في ردهة كبيرة وحزينة. بالقرب من الشرفة كانت تجلس والدة صديقي وأخته. كانت الأم تقرأ، والابنة تطرز، ولا أعلم لماذا كانت تخيفني.

وأنبتنا الأم بلهجة عنيفة بسبب مغامرتنا، وبعد ذلك شرعت في توجيه أسئلة لا تحصى عن أسرتي وعن دراستي. بينما كانت الأم تتكلم، كانت الابنة تبتسم، ولكن بطريقة غريبة جدا، غريبة جدا.

وقالت الأم في ختام حديثها: لا بد من مذاكرة الدروس.

وخرجنا من الغرفة وذهبت إلى المنزل ولم أفعل شيئا طوال المساء والليل سوى التفكير في المرأتين.

منذ ذلك اليوم تجنبت بقدر المستطاع الذهاب إلى منزل رومان، وذات يوم رأيت والدته وأخته تخرجان من الكنيسة مرتديتين ملابس الحداد، ونظرتا لي وشعرت بقشعريرة عند النظر إليهما.

وبعدما أنهينا الفصل الدراسي، لم أعد أرى رومان، وكنت هادئا، ولكن أبلغوني ذات يوم من منزله بأن صديقي مريض. وذهبت ووجدته يبكي في الفراش، وقال لي بصوت هامس إنه يكره أخته.

ومع ذلك، كانت أخته التي كانت تسمى أنخليس، ترعاه بدقة وتحنوعليه كثيرا، ولكن ابتسامتها كانت غريبة جدا.. غريبة جدا.

وذات مرة عند الإمساك بساعد رومان جعلته يصرخ من الألم. وسألته: ماذا بك ؟ فأراني بقعة داكنة كبيرة تحيط بساعده وكأنها ختم.

وبعد ذلك، قال بصوت هامس: لقد كان هذا من عمل أختي.

- آه ! هي..

- لا تعلم القوة التي لديها، إنها تكسر لوحا زجاجيا بإصبعها، وهناك شيء آخر أكثر غرابة: إنها تحرك أي شيء من مكان إلى مكان آخر دون أن تلمسه.

وبعد مضي عدة أيام روى لي مرتجفا من الفزع أنه منذ حوالي أسبوع وفي الساعة الثانية عشرة ليلا كان يدق جرس الباب وعند فتحه لم يكن هناك أحد.

قمنا أنا ورومان بعمل العديد من التجارب. كنا نتربص بجوار الباب.. وكان يدق الجرس.. وكنا نفتح.. ولا نجد أحدا. وتركنا الباب مواربا حتى نستطيع أن نفتحه في الحال.. وكان يدق الجرس.. ولا نجد أحدا.

وأخيرا خلعنا زر الجرس الكهربائي. وكان يدق الجرس، ويدق.. وينظر كل منا إلى الآخر مرتجفا من الخوف.

وقال رومان: إنها أختي.

ومقتنعين بذلك، شرع كلانا في البحث عن تمائم في كل مكان، ووضعنا في غرفتها حدوة ومدرجا موسيقيا ونقوشا مثلثة وبها التعويذة: "أبرا كادبرا". وبلا جدوى، ودون أدنى جدوى، كانت الأشياء تثب من أماكنها، وكانت ترسم على الحوائط ظلالا ناقصة لأشكال دون وجه.

وضعف رومان، ومن أجل تسليته، اشترت له أمه آلة تصوير رائعة، وكنا نذهب لنتنزه معا كل يوم، وكنا نحمل الآلة في جولاتنا.

وفي يوم أرادت أمه أن تلتقط صورة لثلاثتهم معا، لكي ترسل الصورة إلى أقربائها في إنجلترا. وعلقنا أنا ورومان مظلة من النسيج الغليظ في سطح المنزل، ووقفت تحتها الأم وبجانبها ابناها. وركزت على البؤرة، وافتراضا لأي عامل يجعل الصورة غير جيدة، التقطت منظرين.

وذهبنا في الحال أنا ورومان لتحميض الفيلم. وكان في حالة طيبة، ولكن كانت ترى بقعة داكنة فوق رأس أخت صديقي.

تركنا الفيلم ليجف، وفي اليوم التالي وضعناه على صحيفة تحت أشعة الشمس لكي نطبع منه صورتين.

وجاءت أنخليس، أخت رومان، معنا إلى السطح. وعند النظر إلى الصورة الأولى، تبادلنا أنا ورومان النظرات دون أن ننطق كلمة واحدة. وكان يظهر فوق رأس أنخليس ظل أبيض يشبه ملامحها.

وفي الصورة الثانية كان يظهر الظل نفسه، ولكن في وضع مختلف: مائل عليها وكأنه يحادثها في أذنها. تملكنا فزع شديد حتى أنني ورومان وجدنا أنفسنا مشلولين أخرسين. ونظرت أنخليس إلى الصورتين وابتسمت، وابتسمت. وكان هذا أخطر ما في الأمر.

وخرجت من سطح المنزل وهبطت السلم متعثرا، وعند وصولي إلى الشارع شرعت في العدوتطاردني ذكرى ابتسامة أنخليس. وعند دخولي المنزل، وعند مروري أمام المرآة رأيتها في أعماق اللوحة الزجاجية تبتسم وتبتسم دائما.

من قال إنني مصاب بالجنون ؟ إنه يكذب ! لأن المجانين لا ينامون، وأنا أنام.

ومنذ مولدي لم أستيقظ حتى الآن.

أرتور يضايق كل الناس
للكاتب اللماني: إريش كستنر
ترجمة: الدكتور محسن الدمرداش


يؤيد صديقي أرتور فكرة أن العالم يدعوإلى نقد غير معتاد ذي قدر ضئيل من الجدية، كما كان من المؤكد دائما على وجهه البري أنه لا يأتي بمكروه، مما جعله هو ورفاقه لا يلفتون نظر المحيطين بهم. وقد تمرد باستمرار على القوانين المألوفة عند الناس وعلى أو ضاع الرخاء القائمة، إلا أن تمرداته قد خلت من كل جدية، مما يجعلني أرشحه لاحتلال منصب البلياتشوإن وجد.

ليس من السهل دائما أن يسيطر المرء على هدوئه، فغالبا ما يوقع أرتور كل من يرافقه من أصدقائه في ظروف حرجة، فأسوأ ما في الأمر أن ليس لأي شخص هيبة لديه، وكان الصمت السلبي للمحيطين به يضايقه حيث لا يتكلم أحدهم على الرغم مما يجده مقلا للاحترام في الآخرين. فلم ينل نابليون من إعجاب أرتور ما ناله الماجن تل، ومن المحال معارضته.

لقد اضطررنا أخيرا إلى أن نقف في الأتوبيس الذي امتلأ عن آخره، وفجأة سألني أرتور بصوت عال: "ما هذا المبنى يايوناتان" ؟ وأشار إلى الكنيسة متعجبا. وهل يجوز أنه لا يعرف أنها الكنيسة ؟ ثم غمز بعينه فقلت باقتضاب: "هذا هو مركز المطافئ". فسأل مرة أخرى واضعا يده خلف أذنه: "ماذا؟". أي أنه أظهر نفسه وكأن سمعه ضعيف. فقلت بصوت عال: "مركز المطافئ!" فأشار برأسه مبتسما وقال: "نعم، نعم كما تصورت".

وما كان هذا حتى نظر الركاب من الشبابيك مدهو شين وتفحصونا بأعينهم المليئة بالشك ثم توقف الأتوبيس وسار مرة أخرى فسألني أرتور مشيرا للجامعة: "ما هذا ؟" فرددت عليه قائلا: "هذه دار للأطفال البلهاء !" فأو مأ برأسه شاكرا وقال: "جميل إنه للمخبولين الصغار". وكست البسمات الذهبية أساريره على حين بدأ القلق يسيطر على الركاب شيئا فشيئا، ثم أضاف: "إنه مبنى عملاق يا ناتان ". فأجبته بصوت عال: نعم، "فالهراء منتشر جدا هنا ! أما الآن فسوف تظهر دار البلدية" فقال:"آه، إنه مبنى هادئ، أليس كذلك" ؟ فأجبته: "ليس فيه الكثيرون، فبعض الناس يستجم في سويسرا، وبعضهم الآخر تجرى له عملية جراحية، وغالبيتهم في إجازاتهم الرسمية" ! وهنا استياء الركاب كلهم، بل وضحك أحدهم متهكما. فقال أرتور: "إننا نقلق السادة هنا ويجب عليك أن تخفض من صوتك" ! فقلت: "تمام يا أفندم ! ولكني أخشى ألا تفهمني" ! فابتسم بسعادة قائلا: "إني أتبعك كما تشاء، فأنت تعرف المدينة أفضل مني بكثير، والمهم أني أسمع منك موسيقى، ألم تلاحظ أن سمعي قد تحسن" ؟ فقلت: "تحسن بدرجة كبيرة". فقال: "نعم، إن أكل اللحوم لا يضرني ولكن الطبيب نصحني بالعدول عنها، لأنها تسبب الروماتيزم". وهنا ظهر الذهو ل على الركاب في جلستهم مما أعطاني الانطباع بأن استياءهم كاد يدفعهم لترك مقاعدهم. ولكن الأتوبيس واصل المسير عبر بوابة براندبورج، فسأل أرتور مشيرا لها ولأعمدتها المتآكلة: "من يسكن هنا ؟" فأجبته: "هذا موقف المواصلات" ! قال: "والأحصنة التي في أعلى ؟" قلت: "هي تذكار لآخر أحصنة عربات الحنطور". قال: "جميل، ولكن هذه الحوذية (سائقة الحنطور) شبه عارية". قلت: "هذا رمز لتأثير دفع الضرائب".

وهنا أصاب السعال راكبا وقورا ذا نظارة أنفية فازرق لونه، وتقلقلت امرأة بدينة في مقعدها كأنها تتشوى، وقالت لأرتور: " بوابة براندبورج" فابتسم لها قائلا: "معذرة يا سيدتي المحترمة، هل آلمك الجلوس" ؟ فصرخت المرأة البدينة وقد انهارت الدموع من عينيها قائلة: "بوابة براندبورج" فقال لي أرتور: "هل دست على قدمها" ؟ وهنا رأيت أنه من الأفضل أن ننزل من الأتوبيس، فقلت له: "لقد وصلنا" فأشار أرتور إلى حديقة الحيوان سائلا: "وماذا تعرض هذه الحديقة" ؟ هنا وقف أحدهم وتحرك بسرعة موجها مظلته أمام وجهي وصاح: "إذا قلت له إن هذا هو معرض أبناء الوطن فسوف أعطيك ضربة خلف أذنك تجعلك أصم" ! فانحنى أرتور احتراما لهذا الصارخ في وجهي قائلا له: "شكرا جزيلا". فقلت أنا: "اهدأ يا سيدي فأنا أعرف جيدا أن هذا هو ميناء تمبلهو ف الجوي " وسرعان ما ترك كل الركاب مقاعدهم وانتفضوا واقفين، وتعالت أصواتهم بغضب، فجلس أرتور وصرخت فتاة شاحبة اللون قائلة: "لقد بدأ هذا الجنون عند الكنيسة" ! ثم ولوت المرأة البدينة وقالت: "بل وأصبحت الجامعة دار للأطفال البلهاء" ! فردت الفتاة: "كما جعل المكتبة العامة بلدية" ! فقالت السيدة وهي تجفف دموعها: "ثم صارت بوابة براندبورج موقفا للمواصلات" ! وهنا تقدمت بسرعة لمدخل الأتوبيس وقلت للكمساري: "حاول من فضلك أن تسيطر على الركاب" ثم قفزت.

وما كان من أرتور إلا أن انتظرني على محطة الأتوبيس التالية حتى لحقت به فقال لي: "كانوا لطافا جدا، وإن كانوا بحق ذوي حمية، إلا أنهم أكثر إحاطة" ! وفي أحد شوارع قلب برلين اترب من سيارة منتظرة وسأل المرأة الجالسة فيها وبين يديها كلب صغير: "كم الساعة الآن" ؟ فأجاب بصرامة: "ليس معي ساعة". فقال أرتور: "يا خسارة" ! وظل واقفا بجوارها حتى مررت أنا من أمامه فرفعت قبعتي احتراما وسألته: "كم الساعة" ؟ فأخرج أرتور الساعة من جيبه وقال: "الساعة الآن الثامنة إلا سبع دقائق يا سيدي"! فقلت له: "شكرا جزيرا" ! ثم اتجه إلى ميدان بوتسدام، وتبعته ببطء، فكادت المرأة أن تمزق غطاء رأسها من الغيط !.

المحرر مجلة العربي يوليو 1996

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016