مختارات من:

تلك الأيام

جابر عصفور

إنها رواية قديمة ولكن المشكلة التي تناقشها مازالت تؤرقنا جميعا "الارهاب"،إرهاب الفرد وإرهاب السلطة.


في رواية "تلك الأيام" للكاتب الكبير فتحي غانم يواجهنا الإرهاب من الزاوية التي يراه بهـا مؤرخ جامعي هو سالم عبيد، عرف بواسطة التجربة العملية القاسية أن بلده أضعف من أن يتحمل الحقيقة كاملة، وأن كل ما هو مسموح به أن يدرس الأحداث، ويقف في قاعة المحاضرات بجامعة القاهرة ليختار تفاصيلها المناسبة، اللائقة، المرضي عنها، ويسردها أمام الطلاب عن غير أن يمس الخطوط الحمراء للمسكوت عنه من خطاب الحقيقة أو المنهي عنه سياسيا، نصف الحقيقة والبقاء في الجامعة واستمرار الترقي في مناصبها، كل الحقيقة والمقصلة.

وكان سالم عبيد قد تعلم من أستاذه الفرنسي في السوربون أن بلده لاتحتمل الحقيقة بحكم أنظمتها السياسية وثقافتها السائدة، وأن ذلك هو السبب في أن أغلب الكتابات التاريخية الجادة عن بلده مكتوبة بأقلام أجنبية، ولكن سالم عبيد لايقبل هذا الاتهـام لبلده، ولا لمثقفيها، ويرفض هذا الاتهام ويتحداه حتى من قبل أن يسمع- أو نسمع معه نحن القراء المعاصرين- عن شيء اسمه خطاب مابعد الاستعمار، أو الخطاب النقضي للاستعمار، وبالفعل، يرفض سالم عبيد تحذير أستاذه الفرنسي، فيكتب عن تاريخ وطنه العام الذي هو تاريخه الخاص بمعنى من المعاني. ويتوقف عند قناة السويس راويا وقائع الصراع الذي ارتبط به منذ أن كان فكرة، محللا الأحداث وعلاقات الأشخاص تحليلا يحاول الوصول إلى الحقيقة الكاملة في أطروحته "السخرية والكرباج"، ولكن ما إن نشر الأطروحة، بعد ترجمتها في بلده، حتى قامت قيامة الحكومة التي طردته من الجامعة، وأقصته بعيدا عن مجال التدريس، ومن ثم التأثير في الطلاب الشباب، وظل سالم عبيد مقصيا، مقموعا، إلى أن قدم التنازلات الكافية، وأرضى جلالة الملك والحكومات المتحالفة معه في خدمة الاحتلال البريطاني.

ويعود سالم عبيد إلى الجامعة بعد هذه السقطة التي عددت بها علاقته مع السلطة إلى الأبد، سواء في العهد الملكي الذي تعلم منه الدرس الأول الأساسي، أو العهـد الجمهوري الذي ظل منطويا على شكوكة إزاءه، لايجرؤ على الجهر بها منذ أن تعلم التقية وأدرك أن إعلان الحقيقة يساوي الانتحار بأكثر من وجه، وتقوده السقطة الأولى إلى غيرها ويتقن كتابة أنصاف وأرباع الحقائق، ويحاضر فيما لايقترب من الخطوط الحمراء أو المنهي عنه منالمعرفة، ويترقى في مناصب الجامعة، والوظائف العامة إلى أن يصل إلى ما رأى نفسه جديرا به في عهد عبد الناصر، ويغدو عضوا بارزا في "مؤتمر القوى الشعبية" الذي أشرف على إعداده عبدالناصر بنفسه، وقرأ على أعضائه الميثاق في سنة 1962.

اغتيال الحب

المرة الوحيدة التي جرؤ فيهأ سالم عبيد على قول الحقيقة، دون تقيته المعتادة التي أصبحت أسلوب حياة، كانت أمام حفنة طالبات لاغير، خصوصا بعد أن تيقن تماما أنه بمأمن من المخبرين الذين انشغلوا بمظاهرات الطلاب سنة 1951. وكان دافعه الخفي إلى هذا التهور إبهار واحدة بعينهـا من طالباته، وذك في سياق حياته العملية التي سرعان ما اقترنت بهذه الطالبة التي اختطفها من حبيبها الأول والأخير، بعد أن اغتال الموت هذا الحبيب كما اغتال هو وجودها الشاب وأحلامها المتمردة. وكانت حيلته في ذلك المخادعة التي أفضت إلى عقم العلاقة الزوجية وبردوها. وطبيعي أن تساوره الشكوك بعد ذلك في سلوك الزوجة التي أخذت تندفع اندفاعا إلى تكرار محاوله تحقيق وجودها بعيدا عنه. وفي هذه الأثناء، تفرج حكومة الثورة عن المعتقلين السياسيين الذين اعتقلوا في عند الملكية والاستعمار، ومنهم الذين اتهموا بممارسة الإرهاب الذي قضى على الكثيرين من جنود الاحتلال وأعوانه، فيسعى إلى التعرف على واحد من هؤلاء الإرهابيين ليعرف منه الحقيقة التي لايزال ينطوي، في أعمق أعماقه وبرغم ما حدث له، على رغبة معرفتها كاملة في علاقاتها المتشابكة، وإزاحة الغموض عن وجه عن أوجهها الملتبسة، وبالفعل، يلتقي بالإرهابي الذي يجد فيه مرآته ومرآة زوجته بمعنى من المعاني، فيدعوه إلى بيته، ويتيح له معرفة زوجته التي تندفع في اتجاه إرهابي كما قدر وخطط من قبل. ويأخذ في تعمق معرفة الإرهابي، ومن ثم الإرهاب، لكن من خلال علاقته بحياته في ماضيها وحاضرها واحتمالات مستقبلها.

ويعني ذلك أن سالم عبيد، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، لم يتعظ من درس الفصل من الجامعة، حتى بعد أن أعادته حكومة الوفد إلى وظيفته الجامعية التي حرم منها لسنوات، وحتى بعد قيام ثورة يوليو 1952 بسنوات، ما رآه من وقائعها إلى مطلع العام 1962 حيث تبدأ أحداث الرواية، فرغبة المعرفة تأكله كالنار التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تاكله، وذلك منذ أن تعلم أن التاريخ الذي يكتبه هو تاريخه الخاص بأكثر من معنى، التاريخ كما يسرى في دمه، فقرر أن يفهم لنفسه وأن يصل الخاص بالعام، أو يرد العام على الخاص، كما لو كان سالم الذي يريد أن يعرف حقيقة علاقة زوجته بغيره يريد أن يعرف حقيقة علاقة أمثاله بالسلطة، أو يعرف علاقة السلطة بأمثاله من خلال علاقته بزوجته، ولكن من الزاوية التي يدخل فيها الإرهابي، عمر النجار، طرفا في معادلة متشابكة العلاقات والمحاور، سواء في وصلها الحاضر بالماضي، أو السياسي بالاجتماعي، أو الخاص بالعام، فالمعرفة لاتتجزأ أو تنقسم، والبداية التي تفجر الشرارة التي تفتح الأبواب المغلقة هي اللحظة التي تحتك فيها الأزمنة والتواريخ والحياة الخاصة والعامة، فتتولد رغبة المعرفة كاسحة ساعية إلى الإحاطة بكل شيء، كما لوكان العارف الذي تحتويه هذه الرغبة يصل إلى أقصى درجات الإيمان بأن مهمته التى ترادف وجوده هي أن يعرف إلى أبعد حد، وكما لو كان ليس له مهـمة أخرى في الحياة غير المعرفة التي إن تخلى عن مبدأ الرغبة فيها تخلى عن المبدأ الفاعل في حياته نفسها.

الاستجابة للقمع

هكذا، بدأ سالم عبيد من القمع الذي وقع عليه منذ أن فصل من الجامعة، غير بعيد عن نقطة القمع الذي أوقعه على غيره، حين أعاد إنتاج القمع الواقع عليه ومارسه، لا إرديا، كالمرآة التي تعيد إرسال الشعاع الذي تستقبله إلى غيرها، وانتقل من القمع والذي هو استجابة بائسة إلى القمع، في حياته وحياة من حوله، إلى القمع في ذاته، ومن الحاضرالذي يعيش فيه إلى التاريخ الذي أفضى إلى هذا الحاضر، ساعيا إلى أن يكتشف في فساد الماضي الذي لم ينقطع في الحاضر المبررات المتعددة لممارسات القمع المقترنة بالإرهاب، وكان الغرض الظاهر المعلن، في خطابه الذاتي وخطاب الراوي الذي هو مجلى من مجالي المؤلف المضمر، هو عنصر العقلنة الذي يخفي وراءه الدوافع الكامنة للرغبة في علاقتها المتعددة وتجلياتها المتباينة، وهو العنصر الذي يتخذ شكل تساؤل تاريخي موضوعي في ظاهره، تساؤل يقول: لماذا يقوم من بيننا شبان نسميهم بالإرهابيين، يقتلون ويدمرون، ويتحولون إلى أدوات للدمار، والعنف الوحشي للموت الذي ينتشر في كل شيء؟ لكن حين نتمعن في السؤال، من حيث علاقته، سرعان ما نكتشف الكيفية التي تؤدي إلى أن يختلط الحاص بالعام في بواعث السؤال، ورغبة اكنشاف المكبوت بأعماق الأنا الفردية في مواجهة الحضور العاري للإرهاب، سواء كانت هذه الأنا فاعلة للإرهاب أو منفعلة به أو مفعولا له، ورغبة اكتشاف المكبوت بأعماق الأنا الفردية هي الوجه الآخر من غربة المعرفة الأعمق بالأنا الجماعية، خصوصا في حركتها التي تفرز الظاهرة الغريبة عليها، وذلك في موازاة وصل الحاضر الفردي والجمعي بماضيهما الذي يتبادل وإياهما الوضع والدلالة، يضاف إلى ذلك وصل الذاتي بالموضوعي في علاقة المؤرخ بنفسه وزوجته ومؤسسة الجامعة التي يعمل فيها، وأخيراً مؤسسة السلطة التي تتخلق من علاقاتهـا متوالية القمع الذي يعيد إنتاج نفسه قي تراجيديا المقتولين القتلة.

وطبيعي أن تتقنع الدوافع الكامنة للرغبة بقناع البحث الأكاديمي في حالة سالم عبيد، الأستاذ الجامعي الذي يسعى إلى دراسة الإرهاب من حيث هو ظاهرة سياسية مهمة، ومن حيث هو مفتاح ممكن من مفاتيح فهم الشخصية المصرية، إننا شعب يصفه المؤرخون بأنه طيب مسالم، وأنه يحارب بسلاح السخرية والنكتة، شعب عجوز عرف الحضارة منذ آلاف السنين، فما الذي يدفع بعض شباب هذا الشعب إلى الإرهـاب والقتل؟ وتحت أي ظروف اندفع الشباب، أو يمكن أن يندفع، في هذا الطريق؟ هل هـناك خصائص للإرهاب المصري تميزه عن خصائص حركات الإرهابيين في شعوب أخرى؟ وهـل نفسية الإرهابي واحدة في كل أنحاء العالم؟ وهل كانت حركة الإرهاب في مصر أثناء الحرب العالمية، علامة يأس سبقت الثورة الوطنية سنة 1952 وإعلان التحول الاشتراكي سنة 1961؟ ولماذا لم توجد امرأة إرهابية في مصر؟ وما الذي يمنع المرأة المصرية من أن تكون إرهابية؟ وماذا عن نفسية الإرهابي؟ هل هي واحدة في كل أنحاء العالم؟ هل الشعور الدافعي للإرهاب علامة بطولة أم مرض نفسي؟ إجرام متأصل؟ هروب من الواقع؟ عجز؟ ياس؟ ضياع؟ كفر؟ استهتار بكل شيء ورفض لكل شيء؟ انصياع لصوت داخلي أم اتباع مطلق لأمر يصدر من الأعلى إلى الأدنى؟

والمؤرخ الذي يطرح كل هذه الأسئلة يريد أن يغوص في علاقاتها المتشابكة بما يوصله إلى أجابة مقنعة، وهو لا يكف عن طرح أسئلة موازية لها ومتولدة عنها على الإرهابي عمر النجار، كما لو كان يقوم بدراسة حالة متعينة، يختبر بواسطتهـا كل ما قرأه عن الإرهاب في العالم كله، ويضع التاريخ الذي أنتج إرهابيا بعينه موضع المساءلة، وفي الوقت نفسه، يضع موضع المساءلة، على نحو غير مباشر أو على سبيل التقية، الزمن الحاضر الذي يتحرك فيه فعل مساءلة الماضي، والهاجس المضمر الذي ينطوي عليه هذا الفعل هو أنه لابد من مواجهة الحقيقة كاملة لإحداث التغيير، فتلك هي وظيفة المؤرخ الجذري الذي لايكتفي بهوامش التعليق الآمنة، بل يجاوزها إلى كشف الحقيقة أمام الناس بما يدفعهم إلى تغيير عاداتهم وحياتهم وعلاقات واقعهم الذي لايكف عن إنتاج الظاهرة القديمة نفسها.

زمن متعدد المستويات

ولذلك فإن الزمن الذي تدور فيه أحداث رواية "تلك الأيام" زمن متعدد المستويات متباين المراحل، لكن على نحو لاينفصل فيه مستوى عن غيره، أو تتباعد علاقات مرحلة عن نظائر غيرها من المراحل داخل الرواية، والنتيجة المترتبة على التفاعلات السياقية الخاصة بالزمن هي الالتباس الدلالي الذي يجعل من دال العنوان "تلك الأيام" دالا متعدد المدلولات، سواء في إشارته إلى هاجس رغبة التغيير أو إشارته إلى أزمنة متعددة وليس إلى زمن واحد، إنه عنوان يدل على تلك الأيام التي لا ينفرد بها زمن عن زمن، أو يختص بها قوم دون قوم، في إشارة تضمينية إلى الآية القرآنية: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وهي الآية التي تدل فيما تدل على تحول السلطة وتداولها، كما تدل على دوران الأيام وتحولها من قوم إلى قوم آخرين، وذلك على نحو يقرن رغبة التغيير بما يبرو نقيضها في الدلالة على استمرار تداول الظاهرة نفسها. وغير بعيد عن تلك الدلالة للتضمين القرآني تعدد المدلولات الزمنية لدال العدوان الذي يجعل من رواية فتحي غانم، خصوصا بعد القراءة التي ترد عناصر الحضور على عناصر الغياب، والمنطوق به على المسكوت عنه، رواية عن "تلك الأيام" التي كتبها فيها الكاتب، استجابة إلى أحداث سنة الكتابة التي تكتسب دلالة مضافة في علاقتها بسياق تلك الأيام القديمة، والنتيجة هي تحول رواية "تلك الأيام" إلى رواية عن الأيام التي تستعيد أحداثها القريبة والبعيدة في مدى زمني ممتد، يصل مطلع الستينيات بمطلع الخمسينيات، كما يصل الأربعينيات التي شاعت فيها ظاهرة الإرهاب بمطالع القرن في تاريخ أسرة سالم عبيد. ومن تجارب الزمن الأول- زمن الكتابة- والزمن الثاني- زمن الأحداث الروائية- يتولد الزمن الثالث- زمن الدلالة التمثيلية- الذي يلقي الضوء على تداول "تلك الأيام" التي يمكن أن تصنع مصائر أبطال آخرين مثل مصائر الذين قابلناهم في الرواية، خصوصا حين تتكرر الشروط التي فرضت على كل واحد منهم سلوكه الذي أفضى به إلى نهايته داخل الرواية.

عنف السلطة

أما زمن الكتابة فهـو الزمن الذي ينتهي بسنة 1963 التي هي سنة نشر الرواية مسلسلة في مجلة "روز اليوسف" وهي السنة التي تقع في سياق تعاقب دال لوقائع ثورة 1952 من حيث علاقتها بالقمع "الإرهاب" الذي هو موضوع الرواية، فقد بدأت هذه الثورة في أغسطس 1952 بتحطيم مظاهرة عمالية في كفر الدوار وشنق قائدين من قادة المظاهرة "خميس والبقري" بعد 3 أشهر قليلة من قيامها، وقبل أشهر قليلة من إعادة تطبيق قانوني الرقابة على الصحف، وفي أبريل 1954 يتم الانقلاب على وعود الديمقراطية، ويسجن حوالي مائتين وخمسين يساريا وينفى خالد محيي الدين خارج البلاد وتدور الدائرة على أقطاب الإخوان المسلمين فيعدم قادتهم في نهاية العام بعد اتهامهم بالتآمر على النظام، ويعتقل ثلاثة وعشرون صحافيا من بينهم حسين أبوالفتح "المصري" وإحسان عبد القدوس "روز اليوسف". وفي أول 1959 تبدأ حملة اعتقالات واسعة ضد اليسار المصري، وتقع أعنف عمليات التعذيب التي أدت إلى وفاة مفكرين بارزين من أمثال شهدي عطية الشافعى في يونيو 1960. وفي سنة 1961 يقع الانفصال بين مصر وسوريا نتيجة أخطاء لهـا علاقة بفساد ممثلي الحكم الوحدوي. وفي مايو 1962 ينعقد "المؤتمر الوطني للقوى الشعبية" الذي يقرأ فيه جمال عبد الناصر "الميثاق" الذي يتم إعلانه بعد مناقشته وإقراره في 30 يونيو 1962.

وما بين المناقشة حول مشروع الميثاق وإقراره تتحرك أحداث المستوى الزمني الأول لرواية "تلك الأيام" ابتداء من السادس من فبراير إلى الثاني والعشرين من يوليو سنة 1962 وحرص الكاتب الروائي على تعيين تواريخ أحداث الفصول المتعاقبة، في تذبذبها مابين الماضي والحاضر، أمر بالغ الدلالة في الكشف عن مغزى أحداثها الروائية التي توازي الوقائع الخارجية لزمن كتابتها، وتستجيب له فيما هو موازاة رمزية متعددة الإشارات والمستويات والالتباس في الوقت نفسه، ويبدو أن الخطوة الأولي في مقاربة الالتباس المراوغ لهذه الموازاة هـي الانطلاق من المرموز به الذي يبدأ منه وينتهي إليه الموضوع الرئيسي كله، أعنى شخصية الإرهابي الذي هو مرآة وقناع وعلامة ودلالة.

جابر عصفور مجلة العربي مارس 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016