سبق وصول الشاعر والدبلوماسي عبد العزيز خوجة إلى بيروت سجلّه الحافل بالنشاط السياسي العريض في مهمات خاصة ومراكز دبلوماسية حسّاسة في بعض العواصم العربية والدولية.
إن ترحيب الأوساط الفكرية والأدبية به في لبنان كان مطابقًا لترحيب المجتمع السياسي والدبلوماسي إن لم يجاوزه أحيانًا، لا سيّما أن عبد العزيز خوجة اشتهر بالشعر، وعرف عند الباحثين ومؤرخي الأدب بانتمائه إلى مجموعة الشعراء الحجازيين النهضويين من مشاهير القرن الماضي أمثال محمد علي السنوسي شاعر العسيرين في جازان وصاحب «القلائد» و«الأغاريد»، ثمّ مؤسّس مجلة «المنهل» شاعر طيبة ووادي العقيق عبد القدوس الأنصاري، فضلا عن طاهر الزمخشري وحسن القرشي، وغيرهما من شعراء مكة، كعبد الوهاب آشي، ومحمد حسن عوّاد، ومحمد عمر عرب، ومحمد سعيد العمودي وآخرين.
إلاّ أن خوجة يمتاز على هؤلاء جميعًا بكونه برع في الصناعتين، صناعة الشعر العمودي الموقَّع على سندان الخليل وبحوره التراثية الأصيلة، وصناعة الشعر المنثور الذي يحفظ أنغام السمفونيا المرتبطة بسياق التفعيلات وثنائية القوافي أو ثلاثية رَوِيِّها دونما التزام بأوزان الفراهيدي التقليدية، وهي طريقة أمين الريحاني وجبران خليل جبران ونسيب عريضة من المهجريين اللبنانيين، التي اقتبسوها من أسلوب الرومانسيين والرمزيين الفرنجة أمثال «?اليري» و«?يرلين» و«مالارميه»، والأمريكي والت ويتمان وغيرهم.
هذا، فضلاً عن الحساسية المفرطة والشفافية الجريئة اللّتين تكشفان طوية الشاعر ومدار سجيّته. فهو مستبان الوضوح، لا تختبئ أطياف نفسه خلف حجاب سريرته، فيعبر التعبير الطفولي الطافح بالصدق تعبيرًا مباشرًا، سواء في العموميات الوطنية والقومية والإيمانية والإنسانية، أو في الخصوصيات الذاتية المتعلّقة بالحبّ والشهوة وتقديس الجمال وتكريم الصداقة، أو بالحزن والكآبة والتفاؤل والفرح والبكاء.
تتويج الدبلوماسية بالشعر
سئل مترنيخ سفير الإمبراطورية النمساوية في باريس خلال عهد نابليون رأيه في شخصية الدبلوماسي المثالي، فقال: «يجب أن يكون فاتكًا في بردة ناسك عند مغالبة العدو، وساحرًا ينطق بلسان شاعر عند مقاربة الصديق»! وأكثر ما ينطبق هذا الوصف على السفير العربي السعودي عبدالعزيز محيي الدين خوجة الذي تمكن من أن يلج الأعماق المرهفة الحساسة في البلد الشقيق لبنان، بسحره التوفيقي بين الإخوة المتصارعين في حلبات السياسة، وشعره التثقيفي المؤتزر بالحبّ والسماح والمانع بالسويّة المطاوعة للسجيّة. الأمر الذي استحق بفضله تقديرًا خاصًا من الملك عبد الله بن عبد العزيز وكبار المسئولين في الرياض، فتمّ ترفيعه إلى أعلى رتبة في السلك الخارجي للمملكة.
وكانت قد تناهت إلينا في الربع الأخير من القرن الماضي شذرات مضيئة من شعر خوجة، وهو يتنقّل في مراكز اعتماده سفيرًا لبلاده بين قباب موسكو وجبال الأطلس ومآذن أغادير، مرورا بظلال النخيل والأشرعة الناعسة على صفحة «النهر الخالد» كأنها اللياح الأبيض من أعطاف كليوباترا على فراشها النيلي. تناهت إلينا تلك الشذرات المتألقة بأشعة الوجدان البصير، فتلقّفنا سطورها القلائل المتناثرة في صحف تصلنا عفو المصادفة من مصر وشمال إفريقيا، ورحت أبحث شخصيًا في مكتبات بيروت عن مجموعة ما لذلك الشاعر المطبوع أتملّى بين صفحاتها المزيد من لمحات فكره وخلجات فؤاده، فلم أعثر إلاّ على بحث عائد إلى سنة 2002 يتضمن مقاطع وأبياتًا متفرّقة وردت في سياقه، هيهات لا تقيم أود القارئ الملهوف أو تشفي غليله.
وإن هي إلاّ بضعة أشهر توالت عقب ذلك دراكًا حتى نقلت إلينا الجوائب الإعلامية العربية والدولية نبأ تعيين الدكتور عبد العزيز خوجة سفيرا للمملكة في لبنان الذي دخله دخول المهاجر العائد إلى بلده وهو يقول:
ولقد أتينا موطنًا نسمو له
بالعزّ يزهو باسما ويطيرُ
وله على مَرِّ الزمانِ حضارةٌ
منها الرفاه لأرضنا والنورُ
لبنانُ يا أصلَ الجمالِ ونبعَهُ
أَيُرى لحسنِكَ في الوجودِ نظيرُ
ما بين بحركَ والذُرى ليَ قصَّةٌ
شعرُ الهوى نغمٌ لها وعبيرُ
وما إن وصل عبد العزيز خوجة إلى العاصمة اللبنانية واستقر فيها، حتى بدأ المجتمع الثقافي العربي في بيروت - وهو لا يزال الأشفّ والأرهف بين المجتمعات المتسيّسة والمتشنّجة في منادح العرب كافة - يتداول من شعره القصائد المطوّلة في الدواوين الفسيحة، بعدما كان يتلمّظ فرائد الأبيات المختزلة في الصحف ويتقصّى الولائد النادرة من نتاج قريحته شعرًا منظومًا أو منثورًا. وكان الديوان الصادر عن دار «بيسان» عام 2005 فصل الخطاب في تحديد شخصية ذلك الدبلوماسي الشاعر، قبل أن يشمّر عن ساعديه وينخرط في ترتيب المنتدى السياسي اللبناني رأبًا للتصدّع ومنعا للتهافت، وذلك نزولاً عند رغبة مليكه والدولة التي يمثل في تدارك البيت العربي الكبير للحئول دون انهياره وأخذه بجريرة الوطن الصغير.
ولو أنعمنا النظر في ذلك الديوان الذي يضمّ الأبلغ المختار من قصائد خوجة،لتمثل أمامنا بصورة مركبة شعرية لا يجرها فقط جوادان هما العاطفة والخيال، كما يقول قدامى الإغريق في تحديد الشعر، بل يقودها الحوذي البارع في طرق واتجاهات خمسة هي: الوجدانية، والزمنية الزوالية، والاغتراب المتواصل، والإيمان، والانبعاث، فتبدو كالأشعة في وسط الدائرة، تزداد افتراقا في ما بينها كلما ابتعدت عن ذلك الوسط بالنظرة التجريدية إلى ثالوث الحياة والكون والإنسان، بينما تزداد بالمقابل اتصالاً وانسجامًا وتلاقيًا كلّما اقتربت من الوسط القطبي للدائرة بالنظرة التجسيدية إلى ذلك الثالوث!
من الوجدانية إلى الزمنية
أمّا الوجدانية في نتاج صاحبنا، فسرعان ما نكتشف أنها استمرار لحوبة الذكرى والحنين التي تحكم الشعر العربي منذ الجاهلية الأولى، والتي كان أمرؤ القيس أول من عبر عنها بقوله:
عوجا على الطللِ المَحيلِ لعلّنا
نبكي الديار كما بكى ابنُ حَذامِ
ولعل خير مثال عليها قول أحد شعراء عُذرة في صدر الإسلام عبد الله بن الدمينة الخثعمي:
ألا يا صَبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجدِ
لقد زادني مسراكِ وجدا على وجدِ
لئن هتفتْ ورقاءُ في رونقِ الضحى
على فننٍ غضِّ الإهابِ من الرندِ
بكيتَ كما يبكي الوليدُ ولم تكنْ
جليدا وأبديتَ الذي لم تكنْ تُبدي
بكل تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعدِ
ويردفه المتنبّي في أروع تعبير عن الوجد حيث يقول:
وجد الحمام، ولو كوجديَ لانبرى
شجرُ الأراكِ مع الحمام ينوحُ
هذه الحشرجة الوجدانية كانت ولا تزال صفة مميّزة للشاعر العربي في كلّ زمان ومكان، ولا يكاد يخلو منها أي ديوان من شعر الأوائل والأواخر، بل إنها الحالة العاطفية المميّزة التي تبرز في بيت القصيد من العمارة الشعرية أيا كان موضوعها. وكثيرًا ما نتلمّح ظهورها الخجول أو المعلن المستبان في ديوان عبد العزيز خوجة، حيث نقرأ في قصيدة «الصهيل الحزين»:
لمّا خَطَوْنا فوق أنقاضِ السنينْ
ما بين شكّي واليقينْ ناحَ الصهيلُ مع الأنينْ
وفي قصيدة أخرى:
أجفو وفي عيني المنى
تهفو إلى وعدٍ أخيرْ
فأَكادُ من وجدي أَذوبُ
أَكادُ من شوقي أَطيرْ
لا بدَّ من مُرِّ النَوى
لا بدّ أنْ نلقى المصيرْ
ثمّ تتفجّر تلك الوجدانية بمنتهى الصراحة والشفافية والوضوح في قصيدة «بكت نفسي» التي يقول فيها: «بكَتْ نفسي على نفسي ولا أَدري / لِمَ الأَقدارُ تقتاتُ من نفسي/ حنينٌ ساكنٌ فيها يُغذّيها / وأَشواقٌ إلى المجهولِ في حِسّي / بكَتْ نفسي، ولمّا هزّني شوقي / بَكى قلبي على طيفٍ من الأَمسِ».
وهو ما نلحظ كذلك في قصيدة «الغربة» التي مطلعها: «هزّكَ الشوقُ يا طريد المسارِ». ومن رخيم أبياتها الواجدة الرائدة قوله: «آهة الليل في فؤاديَ نارٌ - وأنينُ الجوى صدى الأوتارِ / يا بحارَ الزمانِ رفقا بحلمي - ضاع شطّي في ثورةِ الإعصارِ»
وأمّا الزمنية الزوالية فتطفو على أوتاره المتقطعة في بكاء الشباب، والأسف على ما تقضّى من فائت الأيام، حيث انطوى بساط السرور واستحال بردًا صقيعًا رجيمًا بل قبض ريح: «بيني وبينكَ هذا المدى - وهذا الصقيع الرجيم السحيقْ / كأني أناديكَ عبرَ الردى / غريقٌ تناهى ينادي غريقْ / فلا رجعَ للصوتِ أو للصدى / كلانا تنكَّبَ همَّ الطريقْ / سلامٌ علينا انطفأنا سدى / ذُبالاتِ شمعٍ وما من بريقْ..»
وكم تشبه الحالة الشعرية في هذه الأبيات قول أمين نخله في رثاء الشباب:
«كنا الملوك على الشباب وكانت الدنيا لدينا / كنا الرماح السمهريات العوالي وانحنينا../ يا فائت الأيام تسألك المدامع: أين أينا؟!»
ويصور خوجة نفسه فراشة تحترق على مصباح الحبّ المتسامي بالعفة والصدق والوفاء:
«أتيتُ اليكِ بشوقِ الطيورِ / لعشٍّ يقيها ظلامَ المساءِ / أتيتُ إليكِ فراشةَ حبٍّ / أعانقُ فيك لهيب الضياءِ / فأُحرقُ نفسي ليحيا فؤادي / وأُشعل روحي لأُفني شقائي» أو يأوي إلى الحبيب مستجيرا في ظلمة الليل هاربا من الإحساس الغامر بالفناء، وتتجلّى الزمنية الزوالية في شعوره المضطرب وكأنه الطفل الذي يبحث عن معين ويتوق إلى حماية:
«حبيبي.. حنانَيْكَ.. إنّي أحسّ - نذير الفراق يهدّد أمني / وأشعر أن دبيب الفناء - يحاول قتلي ببعدك عنّي / فأصرخ في الليل كالمستجيرِ - وآتي إليكَ لتقتل ظنّي / فأغفو على راحتيكَ كطفلٍ - صغيرٍ بقلبٍ برئٍ يُغنّي..» وكثيرًا ما يشبه الشاعر السفير ذلك الشاعر الأمير عبدالله الفيصل الذي اعتراه إحساس غامر بالزوال مع هروب الزمن وهو لا يزال في ريعان الشباب، فيقول في ديوان «وحي الحرمان» الصادر عام 1954م:
«كلما قلت على الذكرى سلام / هتفت بالقلب أيام خوالِ / لم تدم لي يا حبيبي غير ذكرى / ليت شعري هل أرى تلك المجالي / قد تراءَت لي على بعد المدى /ما أحيلاها وقد مرّت ببالي».
رحلة السندباد المتواصلة
ولا غرو في أنْ يتدثّر شاعرنا بعباءَة المسافر الذي ينتقل بحكم عمله في الدبلوماسية من بلد إلى آخر، وهو «ما آب من سفرٍ إلاّ إلى سفرٍ / موكَّلٌ بفضاءِ اللهِ يذرَعُهُ» كما يقول ابن زريق البغدادي. ولعلّ أكثر ما يضام الدبلوماسي من ذلك الاغتراب المتواصل ويبرم به، هو عندما يكون أديبا شاعرا رهيف الحسّ تواقا إلى حياة عائلية مستقرة في بلده، أو على الأقلّ في بلد آخر يشعر معه بالطمأنينة والأمان، ويرى في أهل ذلك البلد وتقاليدهم ولغتهم صورة مطابقة لعادات قومه ولغتهم وثقافتهم بوجه عام. وقد كان في عداد إخواني وأصدقائي نفر من الدبلوماسيين الرواد خلال النصف الأخير من القرن الماضي أدركتهم حرفة الأدب وفتنتهم عرائس الشعر في بُلَهْنيَةِ الشباب، فشكوا إليَّ أزمة نفسية واحدة وكاد يكون ذلك بصوت واحد يعبّر عن الغربة المريرة، خصوصا عندما ينقلون إلى عواصم لا تشرق عليها الشمس، أو إلى بلاد ليست لها صلة بالعالم التراثي الإنساني، أو بلاد أطبق عليها نظام كلي رافض للحرّية الفردية كمجموعة الاتحاد السوفييتي السابق والذين يدورون في أفلاك حكام الصدفة من صنائع الاستبداد.
وأشير في هذا السياق إلى توفيق يوسف عواد الأديب الكبير صاحب «الرغيف» و«قميص الصوف» و«العذارى» و«الصبي الأعرج» وغيرها من المؤلفات القصصية الخالدة، وكان عالي الرتبة في وزارة الخارجية وسفيرًا فوق العادة لأكثر من عشرين سنة. وقد لجأ إلى السفارة الإسبانية في الحرب الأهلية اللبنانية المشئومة وقتل هناك مع السفير الإسباني وعائلته. فلم يبق شيء من توفيق عوّاد السفير العظيم والوزير المفوض والأمين العام للخارجية، فيما بقي عوّاد الأديب المفكّر والكاتب النحرير خالدا إلى الأبد.
كما أذكر بأقصى مشاعر الحسرة والمرارة سفير لبنان الأسبق مصطفى الزين الذي كان أديبًا راقيًا مؤرخًا ومفكّرًا مثقفًا حكيمًا، وقد ترجم كتابه الشهير عن مصطفى كمال أتاتورك إلى عدد من اللغات الأجنبية!. لقد أحجمت الدولة اللبنانية التي هدرت مئات الملايين، بل المليارات، على السياسيين الطارئين من شذاذ الآفاق.. عن دفع مبلغ 30 ألف دولار أمريكي لإنقاذ حياته بعملية جراحية، فانتقل الى جيرة الرحمن خلال السنة الماضية، ولم تنشر خبر وفاته أيّ جريدة في «وطن الإشعاع والثقافة والنور»!! ولولا كلمة الصداقة التي رثاه بها وزير الخارجية فوزي صلّوخ تعبيرا عن وفاء لبنان لمواقفه الجريئة وخدماته الجلّى في العوالم البعيدة، لما بقي من أثره حتى الاسم!.. وذلك استهزاء من أمة الهامبورجر وجيل الإنترنت بمقولة سيّد أجواد العرب حاتم الطائي مخاطبا زوجته:
أَماويَّ إن المال غاد ورائحٌ
ويبقى من المرء الأحاديثُ والذكرُ!
ولا يفوتني التنويه كذلك بأخي وصديقي الكاتب الألمعي المثقف أديب القنطار أطال الله عمره. فهو من رفاق الشباب وإخوان الحداثة والدراسة، وكان موضع تقدير واحترام عند مفكرين وشعراء خالدين أمثال ميخائيل نعيمة وأمين نخلة وبولس سلامة وغيرهم. وقد تنقل أديب في المناصب الدبلوماسية من موظف عادي إلى قنصل فمستشار أول، ثمّ قائم بالأعمال، وسفير فوق العادة، ومثّل بلاده خير تمثيل في كلّ من شاطئ العاج وألمانيا الاتحادية وبلجيكا، ثمّ السنغال، حيث أقام بضعة عشر عاما وأصبح عميدا للسلك الدبلوماسي، فربطته صداقة متينة بالرئيس ليوبولد سنغور الشاعر الكبير باللغة الفرنسية وعدد من أعيان المغرب والجزائر وشمالي إفريقيا بوجه عام. ولله كم تأثرت لدى مطالعة كتاب مذكراته «أيام لا تعود» عندما قرأت الخواطر التي دونها ليلة رأس السنة في إحدى مراحل غربته الطويلة عن الوطن، وعلى الأخص قوله بمنتهى الألم والصدق: «ألجأ الى هذا البيت الذي تضمّني جدرانه الباردة في بلاد حارة، وحيدا وحيدا، وبعيدا بعيدا عن بلادي.. عن جبالها وسهولها وأوديتها.. عن أنهارها وسواقيها.. عن أهلي وأحبّائي!. إنّني كمن يقبض على الماء أو على حفنة من الرمل تمر بين أنامله، فأتمثّل قول ابن جبير:
لا تغتربْ عن وطنٍ
واذكرْ تصاريف النوى
ألا ترى الغصن إذا
فارق الأصل ذوى؟!
أمام هذه اللواعج المتأججة نثرا تسبقني المدامع القاهرة وتضجّ في خلدي بموازاتها أنغام من لواعج القلب يطلقها شعرا ذلك الدبلوماسي العربي الملهم عبد العزيز خوجة، في نبرات إيمانية نورانية ويضرمها عذاب رحلته السندبادية الطويلة، فتتفجّر بيانا طافحا بالعاطفة والذكرى، ونسمعه يخاطب نفسه قائلا:
«كلّ شيءٍ الى زوالٍ ويفنى - والدَّوامُ الدَّوامُ للجبارِ / يا رفاقي والحرفُ ينزف دمعا - ودما والجراحُ في أَشعاري / قد ذرعتُ الزمان شرقا وغربا - سندبادا يضيقُ بالأسفارِ / كلّ حسنٍ شاغلته بغرامي - وزرعت الحقول من نوّاري / وحرثت الحياة شوكا ووردا - وحسوتُ الصفاء بالأكدارِ / أي دَرْبٍ أرود والعمر يذوي - وحنيني الوحيد نحو دياري / إيه يا مكّة الهدى للبرايا - وجذوري في روضها المعطارِ / كلّما زارني خيالٌ حبيبٌ - من مداك الرحيب أوقد ناري».
ثم أُبحر مع السفير خوجة في مركب الاغتراب المتواصل نحو المرافئ البعيدة. فألقي المرساة في ليلة من ليالي الشتاء الموسكو?ي على ضفاف الفولجا. وكأني بخليل تقي الدين يطل من كوة الخمسينيات، حيث دخل عليّ في يوم مطير بقامته الفارعة كالمارد الهارب من صقيع الشمال، فألقى بين يدي قصته «تمارا» قائلا: «خذ هذه المادة اليانعة لصفحتك الأدبية. إنها حكاية امرأة فرّت معيّ من وراء الستار الحديدي!».كان خليل تقي الدين يومذاك سفير لبنان في موسكو، وكنت قد أطلقت أول صفحة ثقافية أسبوعية في الصحافة العربية عبر جريدة «الجريدة»، فرأيت في تلك الرواية صيدا جيدا ونشرتها. وزارني خليل في اليوم التالي، فقلت له: «عسى ألاّ يصيبك مكروه بعد نشر (تمارا) وأنت عائد إلى سفارتك في روسيا». فابتسم وأطرق دقيقتين وهو يقرأ تعليقي على قصته في الصفحة، ثم طوى الجريدة وفارقني قائلا: «لا عليك يا أخي. أنا لا أرهب حتى السجن في موسكو، لأن الساكن في سجن موسكو كالساكن في قصر الكرملين!.. نهاره بلا شمس ولا نور ولا ضحى!.. وليله بلا قمر ولا نجم ولا شهاب!.. فهو يتآكل مع الزمن على مركبة رمادية تجري بها خيل رمادية فوق ثلج رمادي الى حيث لا يدري!!».
وبعد ستين سنة أقرأ لعبدالعزيز خوجة كلامًا يذكرني بكلام خليل تقي الدين. فسبحان الذي جعل الخاطر يقع على الخاطر، كما يقع الحافر على الحافر.. مع اختلاف الزمن وبعد المزار وتقادم الأيام!..
«الثلجُ يغمرني ليلايَ، فاقتربي- روحي الفراشةُ قد تاقت الى اللَهَبِ / في البعدِ، في القيدِ، في الأشواق، في قلقي - نفسي الحبيسةُ قد حنّت الى السُحُبِ / ليلاي. والليلُ في موسكو بلا قمرٍ - والكون فيها بلا نجم ولا شُهُبِ».
ويتابع مركب خوجة مساره في بحار الاغتراب تحت سديم أغبر من الذكريات، فيحط في باريس حينا على ضفاف «السين»: «جئناك يا باريس عشاقا على أملٍ - قلبانِ فاضا بالهوى لم يعرفا مَلَلا».
أو على ضفاف النيل أحيانا، كما في قوله:
«يا مصرُ نيلكِ قد رواني باليقينْ../ أَلَقا وطينْ./ دِلتاه في كفّي تقصّ فراقَنا.. وأرى بخطِّ العمرِ أمواجَ الحنينْ /.. فيفرُّ ما بين الأصابعِ هاربا.. دمعُ السِنينْ».
أو يتنقّل من واحة إلى أخرى، بين فاس ومكناس، إلى شواطئ «بحر الظلمات» حيث غسل موسى بن نصير حوافر جياده بمياه الأطلسي.. وهناك في أقاصي المغرب نسمعه يقول: «يا بدرَ مِكناس الذي أسنى لنا - من أُفقِ «أكدالٍ» فحنّ وَجِيبي / قالوا الحقيقة، بعضَها لا كلّها- لم يخبروك بلوعتي ونحيبي». أو يردّد: «يا دارها في رباط الخير تعصمنا - بوركتِ يادارها سترا ومُعتَصَما».
ثم يودّع المغرب دامعا متحسّرا: «حان الرحيل فهل أُودِّعُها / يا قلبُ قُلْ: يا أدمعي انهمِري».
في حمى رسول الله
وفي قصيدة «سندباد» يكاد المركب أن يبلغ مداه، فيرسو على صخرة الإيمان ويعود إلى الجذور.. إلى الصفا والمروة.. إلى أرض النبوءَة وبطاح مكة وآفاق الخلاص:
«تهتَ في الإبحارِ يا قلبي طويلا - وشراعي أخطأ الأُفقَ البديلا / سندبادٌ شطَّ في المرمى وكم - يتمنّى للصفا يوما سبيلاً».
هنا يتألق الشاعر بحقائق الوجود، فيعكف على ماضي الأمّة في مرارة لما ضيّعته من فتوة القلب وأُوار النجدة والبسالة:
«بين نأْيٍ وارتيابٍ في النوايا / بعد مجد حدّثت عنه الليالي / قد أضعنا مجدنا ثمّ بكينا / ونسينا في الخَنا عزمَ الرجالِ!».
وتهتز شغاف قلبه حسرة على العرب وهم يدلجون في كهوف الشقاق:
«ظلماتٌ لُجيِّةُ الظلماتِ - أيّ ماضٍ يا أمتي - أيّ آتِ / ضاع منّا حلم القرون هباء - وحرقنا في صدرنا الحسراتِ / وانقسمنا مليون ألف فريقٍ - فأضعناكِ في هوى النزعاتِ». فتتفجّر براكين الألم والندم في أوراد الصلاة، وتعود نياط القلب إلى كف باريها، فتنطلق الحجازيات والمكّيات في شعر خوجة حتى ليفوق في حرارة إيمانه أكثر المتصوّفين إشراقًا، ويتوحد في ملاءَة الوجد الإلهي خاشعًا متبتِّلاً مبتهلاً وقد بهرت أنوار الحرم جفون الأعشى، فتفتَّحت عيناه على رسالة الحق وبراءَة الحبّ الخالد والتسليم الرضي:
«من أين قالت، وهي تسألني - في رقّة الأنسامِ، بالسَحَرِ / أمُّ القُرى بلادي وُلدتْ بها - في مكةَ الخيراتُ للبشرِ / من ها هنا وُلدَ الهدى وسرى - بالنورِ للأمصار والحضرِ».ثم تتكامل صور التوبة في «رحلة الشوق» فيقف الشاعر بباب مسجد الرسول في المدينة المنورة ليقول:
«يا طيبةَ المجدِ الأصيلِ - وغرّةَ الشرفِ النضيرْ / ساقوا اليكِ محبتي - وبقيت في قيدي حسيرْ / فوقفتُ عند البابِ - معترفا على إثمي الكبير / طود الذنوب أجرُّهُ - وبداخلي لفحُ الهجيرْ / روحي ببابكَ يا رسول - الله من حبّي سفيرْ / صلّى عليك الله يا- أملا تقدّس في الضمير».
وفي «حضرة النور» يعارض عبد العزيز خوجة قصيدة «البردة النبوية» للبوصيري ومطلعها «أمن تحمُّل جيرانٍ بذي سلمِ/ مزجتَ دمعا جرى من مقلة بدمِ» التي عارضها شوقي في «نهج البردة» واستهلّها بقوله: «ريم على القاع بين البان والعلمِ / أَحلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ»، فيطلق صيحة المستجير المستنير من أعماق الضمير:
«لعلّ حبّ رسول الله يشفع لي - في النائبات وخوفَ الله في ندمي / فالله يعلم لم أشرك به أحدًا - والله يمحو بنور المصطفى ظُلَمي / روحي فِداه وقلبي، فهو سيّدُهُ - يا مَنْ هواه سرى في خاطري ودمي».
ويخاطب النبي المصطفى خطاب المؤمن الذي بهره النور الإلهي الساطع، فيقول:
«أسرى بك الله تفضيلا ومكرمة - ليلاً إلى المسجدِ الأقصى من الحَرَمِ / أَراكَ رَبُّكَ من آياته عجبًا - فوق البُراقِ فلم تُفْتَنْ ولم تَهِمِ / جاوزتَ أُفقَ طباقٍ ما تجاوزها - جنٌّ، ولا مَلَكٌ أو خاطرُ النَسَمِ / يا سيدَ الخَلقِ لا تَغضَبْ على خَلَفٍ - كثيرهم ضلّ في الصحراءِ كالبُهُمِ / فاشفع إذا ظلموا لعلَّهُمْ نَدِموا - كم يغفرُ اللهُ رُحمى توبةِ النَدَمِ / فلطفُ ربّكَ موصولٌ برحمته - وأنتَ أنتَ شفيعُ الخَلقِ من قِدَمِ».
ويردف تائبا في قصيدة «باب الهدى»:
«وبشّرنا رسول الله عفوًا - لمن نَقَّى سريرتَهُ وتابا / وعلَّمنا بأنَّ الخيرَ يربو - وأَنَّ اللهَ قد وعد الثوابا / رسولَ اللهِ أَثقلني عذابي - وهلْ كالذنبِ يَفرينا عَذابا / أَتَيتُ لدربكَ الوضّاءِ أَمحو - ظلامًا عاثَ في نفسي خَرابا / ولي أملٌ، فبابُكَ بحرُ فضلٍ - وإنّي قاصدٌ هذا الجَنايا».
* * *
ولو شئتُ أن أصف بكلمات شخصية الشاعر عبد العزيز خوجة من خلال شخصية السفير، لأدركتُ فورا أن هذا المنال أقرب إلى المحال. ولو حاولت غير ذلك الطرد عكسا، وتقصّيت روح السفير من خلال شخصية الشاعر، لأفضى بي المقال إلى المَآل نفسه!!
فالعبقرية يصعب تحديدها أو حصرها في كلمات, إنها دائما مستحضر زئبقي يتألف من كيمياء الفكر والروح، يقاربها الرائي مقاربة نفسه في مرآة، فترسم صورته في انعكاسها، لكنها تستعصي على رؤيته الجلّية بتفاصيلها، ويستقر في أعماقه منها الإطار العام وكلّية الانطباع دون جزئيّاته. ومهما يكن من أمر، فإنّ ديوان خوجة يستوي عندي في كفة واحدة من الميزان، فيما تستوي في الكفة الأخرى قصيدة ملحمية عنوانها «أسفار الرؤيا» يسأل فيها: «من أنا؟! وما سرّ وجودي؟! والى أين مصيري؟!».
هذه القصيدة بالذات تحمل الشاعر الى معارج اللاّأدرية وتقذف به من رتابة الحياة الوجودية المستهلكة الهالكة إلى وجرة الموت وحتمية البعث الجديد، عبر نشيد متناغم الفقرات متواتر التساؤلات، يستحضر الإيمان العميق بأدقّ معانيه وأوسع مراميه المُصلحة الخيرة.