اجتمعت طيور الدنيا جميعها، وقالت: في هذا العصر والأوان لا تخلو مدينة قط من سلطان، فكيف يخلو إقليمنا من ملك؟ وأنى لنا أن نقطع طريقنا أكثر من هذا بلا ملك؟ ربما لو ساعد بعضنا بعضا، لتمكنا من السعي في طلب ملك لنا، لأنه إذا خلا إقليم من الملك، ما بقى نظام أو أمن أو استقرار أو شرائع وقوانين!!
حينئذ أقبل الهدهد، حكيم الطيور، خليل سليمان الملك النبي، ورغم حكمته التي زينته حتي علا مفرقه تاج الحقيقة، فإنه كان مضطربا حائرا لا يقر له قرار!! إنها خبرة الطريق، حيث يفقد العقل توازنه، وتتضاءل الحكمة أمام سطوة الطلسم ويغدو العجز عن الإدراك إدراكًا، والصمت فضاء لصخب المعنى النقي المتحرر من وطأة الألفاظ وحصار اللغة وهيمنتها، وتصبح الحيرة غاية منشودة، وفضاء برحًا ساحرًا لإمكانات التأويل المفتوح، ومراوغات الخيال المرح الخلاق، ورعب الفتنة الطاغية والجمال الوحشي!! لقد شارف الهدهد الحافة، واكتشف خدعة الحقيقة وكذبة الصراحة ومخايلة الصدق ووهم اليقين!! فحين نحدق في العمق الموحش للوجود تباغتنا روعة الفوضى وعظمة الخلاء وكوننا أبناء الهجر والتخلي بامتياز!! وحيث لا حدود ولا تمايزات، ولا ثنائيات متوهمة لوعي أخذ ينظم الوجود وفقًا لقوالبه وتصوراته، متوهما القدرة والسيطرة والسيادة المطلقة، نكتشف ما لا نتوقعه!! إنه الهوس العربيد والحنين الجارف والرغبة المحمومة في نقض النهايات وتدميرها، ومراوغة المستحيل لا من أجل تحقيقه أو ملامسته والوصول إليه، بل من أجل نفيه، ووأد أي إمكان لتحصيله، فقط لمحة تلوح في الأفق البعيد، كالسراب تشعل الجنون، وتقودنا متولهين نحو مدينة واو الأسطورية المفقودة للأبد!!
لقد رحل الهدهد، صاحب العقل والحكمة نحو النهايات والغايات متيقنًا من وجودها، لكن اليقين سقط متداعيا، وتكشف الطريق عن دوائر واوية لا تكف عن الالتفاف حلزونيًا حول ذواتها، ومن ثم فلا سبيل سوى اللانهائية!! ومن المثير للانتباه في هذا السياق، أن تغدو اللانهائية نقيضة للخلود، وتصبح قرينة للعدم!!
يقول العطار، الصوفي الفارسي الكبير: ما إن استقرت الأرض على ظهر ثور، حتي وقف الثور علي ظهر سمكة، واستقرت السمكة في الفضاء، وعلى أي شيء استقر الفضاء؟ لم يستقر على شيء مطلقا. فلا شيء إلا العدم.... فالفناء نصيب الجميع علي الدوام... والعجز هنا مساوٍ للمعرفة... وما وجد من العدم إلا العدم... وسيظل الفلك أسير الحيرة في دورانه... أمر العالم خليط من الحيرة والحسرة، بل إنه حيرة في حيرة، وكل أمر فيه لا بداية له ولا نهاية!!»
ملامسة العدم
أصاب الهدهد الاضطراب والدوار وهو يلامس حافة العدم ويعايش حيويته المدمرة والخلاقة في آن، لكن ظل حكيمًا عاقلا مؤمنا بالحدود والنهايات، فلم ينثر الروح، ولم يتجاوز التخوم، وخشي حتى حدود الرعب تذوق المتعة المحظورة، وممارسة لذة الاحتراق في جحيم الإله، والتولد من الرماد مجددا كالعنقاء الأسطورية!! لمح الهدهد السيمرغ، ملك الطيور، لكنه رفض التحديق لكي لا يصاب بالعمي، وتستنير البصيرة بهول الجمال، فتستلب الروح ويدمر العقل، ولا يتبقي إلا هوس نرجسي كوني خلاق!! عاد الهدهد، دون أن يضع القدم في الماء، ليخبر الرفاق عن السيمرغ، ولكنه بماذا أخبرهم؛ وهل ذاق شيئا؟!
إن طائر السيمرغ طائر خرافي أسطوري عند الفرس القدماء قبل الإسلام، وهو يرتبط لديهم رمزيًا بشجرة الحياة التي تنثر بذورًا تحيل الأرض خصبة إذا ما وقعت عليها، أي أنه يرمز للخير والنماء والحياة!! وفي الشاهنامة الفارسية، يروى أن زال أبا رستم بطل الفرس الأسطوري الشهير حين ولد لأبيه سام كان كالقمر إضاءة وجمالاً، لكن رأسه كانت تشتعل شيبا كرءوس الشيوخ الطاعنين في العمر، فتشاءم أبوه منه، وأمر بتركه علي جبل عظيم من جبال الهند وحيدا!! عندها جاء السيمرغ (الطائر الخرافي) وحمل الطفل ورباه بين أفراخه، وعلمه الحكمة الحقة، حكمة المذاق والمتعة الأسطورية المحظورة!!
لكن لفظ (سري مرغ) المركب، يعني ثلاثين طيرا، وهو عدد الطيور التي تابعت الرحلة إلى الملك، ووصلت بعد أن سقط العديد من الطيور، فضلا عمن اعتذروا عن خوض الرحلة أو الاستمرار.
ولا يعنينا من سقطوا في الطريق، فقد خرجوا من دوائر المبالاة والتهمتهم فخاخ الوجود المبتذل!! أما المعتذرون عن خوض الطريق، فلعلهم جديرون بالتفاتة ما، حيث تثير أعذارهم وتضمر تساؤلات وشكوكا حول غاية الرحلة، وهدف الطريق؟!
ولنبدأ بعذر البلبل، ولعله واحدهم فردهم، إنه العاشق المدله!! أقبل البلبل ولهان نشوان ثملا، ومن كمال العشق كان في حالة لا هي صحو ولا عدم، وقال: أمضي ليلي كله الهج بالعشق، نواح الناي بعض حديثي، ورنين القيثارة الخفيض آهاتي.. إلي قلوب العشاق سرت خفقات قلبي، في كل زمان أردد سرا جديدا، وفي كل آونة أصدر لحنا جديدا. ما إن أصاب العشق روحي بجبروته، حتى أصبحت بحرًا مضطرب الأمواج... معشوقي في بداية الربيع ينثر علي الدنيا أريج عطره، به تكتمل سعادة قلبي... لا يدرج أسراري إلا الوردة وهكذا أصبحت في عشقها مستغرقا، حتى فنيت عن نفسي فيها!!
جمال الخلود
لم يكن البلبل ساقطًا ولا مبتذلاً في ما لا قيمة له، بل كان عاشقًا مولهًا أخذته رعشة الانتشاء الثمل بسحر الجمال، جمال الوردة الرقيقة الباسمة!! والجمال المعشوق هنا نفحة من جمال الأصل الخالد، فلماذا اعتذر البلبل عن الرحلة؟! هل حقا وقع البلبل مستلبا في عشق الصورة الدنيوية الوهمية الزائلة، والتي تصيب عاشقها بالضجر والملال نتاج التكرار والرتابة المعتادة المدمرة لطزاجة التلقي؟! وهل استسلم البلبل العاشق لأشواك الوردة الجميلة، وسخريتها القاسية منه نهاية كل ربيع حين تتخلى عنه وتتركه للنواح ليله ونهاره حتي تظهر ثانية مع قدوم ربيع جديد، وهل حجب البلبل بالصورة عن الأصل، وبالعدمي عن الخالد؟! كان هذا ما قاله الهدهد العاقل الحكيم للبلبل كاشفًا عن سوأته وخديعته الخفية لذاته عبر ادعاءات العشق الجميل الزائف!!
ولعلنا نطرح قراءة أخرى لموقف البلبل، تتجاوز حدود الحكمة العقلية لتبلور متعة المحظور ولذته!! ألا يمكن أن يكون البلبل رافضًا لمنحة الخلود، متمردا عليها!! ففي حضرة الجمال الأزلي ربما تكون السكينة المطلقة، سكينة البهتة والصعق والانمحاق أمام شمس الإله المشرقة، فحين تصل الطيور إلي الملك السيمرغ، ويرفع النقاب عن وجهه، فليس إلا المحو!! حينئذ تنتفي حيوية الوجود الحركي واستمراره وتجدده، ويغدو الحضور الذاتي إزاء تجلي الخفي المرعب الجميل الطاغي حضورًا هو للعدم المحض أقرب!! ومن ثم، فلعل البلبل آثر اختيار خلوده الخاص، كعاشق حيوي الحضور، خلوده ينجم عن دينامية المتناقضات وصراعها الجدلي، إذ تعانق الحياة الموت، ويعانقها في موار لا يتوقف، وحيث يتحقق كل منهما باكتماله في عمق حضور الآخر وحيويته الخلاقة!!
ويخلق البلبل العاشق، المخمور بسطوة العشق وجبروته نغمته المائزة بوصفه حضورا إبداعيا يردد لم يزل موسيقى أسطورية ترتد للبدايات في ما قبل اجتراح الوجود، وبزوغ ثنائيات الوعي والقانون واللغة!! ولعلنا نلاحظ كيف يمتزج الجمالي بالتراجيدي في أنغام البلبل النشوان متراوحة ما بين الرنين والنواح أو الأنين الحزين لنصوغ حالة الشجن الفرحة المؤسية في فضاء ليلي كبحر هائج متلاطم الأمواج، لكنه ساكن العمق، مليء بالكنوز والمحارات!! يردد البلبل في كل آن لحنًا وسرًا جديدًا، فهو لم يزل مؤثرًا مساحات الخيال، حيث الظلال والصور تخايله متجلية بروعة الأصل وسحره، دون ثباته وجلاله المخيف!! وهو ما يعني فاعلية الحضور العاشق فاعلية تأويلية متجددة وثرية إزاء سطوة المعشوق لا نهائي التجلي!! إنه الأمر الذي يحفظ للتجربة طزاجتها وحيويتها العذراء وغوايتها البكر!!
يحكى أنه كانت توجد مرآة في معبد ليكوسورا (إحدى الإلهات) في أركاديا، وكانت موضوعة على حائط المعبد وعلي يمين المذبح، وقد ذكر الرحالة الإغريقي بوزانياس (ق 2م) أن الناظر في هذه المرآة إما أن لا يتبين من نفسه سوى انعكاس غامض يخبو ويضعف، وغير متميز الملامح، وإما لا يرى فيها شيئا على الإطلاق، وعلي العكس من ذلك تظهر علي المرآة وبجلاء أشكال الإلهات المحفورة على حائط المعبد والعرش الذي يجلسن عليه، ويستطيع المرء أن يتأملها في وضوح تام!! في هذا المكان المقدس تؤدي المرآة دورا خارقا للعادة، إذ تكشف المحجوب الإلهي عبر سطحها جليا واضحا، وقد خففت من أثره الماحق المهلك على الناظر الإنساني!! وبالطبع، تغدو صورة الكائن الأرضي الواقعي المنعكسة عبر سطح المرآة الخارقة، باهتة غامضة، إذا ما قورنت بصورة الإله!!
(فلسفة المرآة، محمود رجب، ص 80-81)
ولعل الوردة المعشوقة هنا هي تلك المرآة الخارقة التي تعكس الجمال المقدس جليًا واضحًا، لكنه إمكان للنظر والتأمل والعشق، وليس الموت والصعق!!
لقد تمرد البلبل العاشق على العلو المفارق اللادنيوي، وعلي الفضاء الآمن في ظل حماية السيمرغ الجليل وسيادته الآمنة، وآثر مساحات الالتباس والصراع ومخايلات الظلال وفتنة الاكتمال المؤذن بالنقص، ومتعة الوعد المرجأ دومًا، وتوتر التأرجح العنيف بين يقين الوصول وبلوغ الغاية، ونقض هذا اليقين السرابي متجدد الحضور!!
يحكى أن فتاة في جمال البدر، فتنتها ذات سحر دائم امتلأ العالم بعشاقها، وقد فقدوا كل اتزان أمام جمالها الفائق. وشاء القدر أن يعشقها رجل فقير مسكين، ما أن رأي ضحكتها، حتى سقط على الأرض مضرجًا في دمائه، وبعد أن أفاق أصبح لا يقر له قرار، فرحًا ناثرًا للروح، رافعًا صوته بالسؤال العاقل المجنون، كيف يكون الملك قرين الشحاذ؟ إنني ذرة ضاعت وسط الظلال، لكني بفضلك شمس مضيئة... فأنى لك أن تدرك السيمرغ؟ إن تر الظل يتلاشي في الشمس، فسترَ أنك أنت الشمس، والسلام!!
زهو الطاووس
ولعل الطاووس كان أكثر جرأة وتطاولاً وقحا من الآخرين، حيث أقبل في حلة ذهبية، كأنه عروس يوم الجلوة قائلا: أني للسيمرغ أن يحظي بمكانتي، لقد كان الفردوس الأعلي مكاني؟ لذا ليس لي عمل آخر في الدنيا غير محاولة العودة للجنة مرة أخرى!!
لكن الهدهد عرف حقيقة ما يسعى إليه الطاووس، ألا وهو السلطان الفردوسي، ذلك أن الطاووس كان واقعا في أسر جماله الذاتي، وقد أغوته حية الفردوس، فسرى سمها في دمه، حتى أخرجته من جنة عدن!! حينئذ وعي الطاووس (جبريل الطيور) ما ألم به من مذلة فادحة، واستقر عزمه علي أن يجد مرشدا له، يعيده لجنة الخلد، فهذا هو آخر مبتغاه!! تري هل عاد الطاووس عبر توبة آدم إلى حيث اشتهى وتمنى، فارتضى بالقطرة والظل، دون الأصل، بينما كان البلبل العاشق يسعى صوب البحر، والشمس؟!
ترى هل كانت رحلة الطيور سعيا نحو السيمرغ، ملك الطيور، ذلك الآخر المفارق صاحب السطوة المطلقة، والهيمنة الكاملة في ما وراء جبل قاف الأسطوري، أملاً في صياغة القانون وتحقيق الأمن والاستقرار والنظام لمدينة الطيور؟!
أم لعل الرحلة كانت في حقيقتها ارتدادًا للداخل، وغوصا في العمق، عمق الذوات الساعية تحفر في باطنها بحثًا عن نقطة ارتكاز حقة، كلؤلؤة المحار الكامنة في البحر الهائج، علها تتطابق مع ذاتها الأصل، وتتصالح منسجمة متناغمة مع صيغتها البدئية، مؤسسة وجودًا أصيلاً متجددًا تواجه به وطأة العدم وحيويته المدمرة؟!
ترى هل هناك تناقض أو تعارض ما بين مسار الرحلتين؟ أليس السيمرغ الملك مرآة عاكـــسة للسيمرغ، أو الثلاثين طائرا الذين لو أمعنوا النظر وحدقوا في وجه الملك، فإذا هو هم، وهو صورتهم المعكوسة!! ولعل رحلة البحث الحقة عن السيمرغ هي رحلة البحث عن الذات المثال بالارتداد للعمق الوجودي، وليس بالسعي الخارجي نحو المفارق البعيد!!
حينئذ قد يغدو البلبل العاشق أكثر الطيور فهمًا لمغزى الرحلة وهدفها الأصيل. فالذات سعي دءوب نحو اكتمال لا يتحقق أبدا، بل يستكن دوما بالنقص وينتشي بفعل السعي الدءوب لتجاوزه!! وينتعش حضور الذات بأن تقارب تخوم الاكتمال، فتجهض المحاولة في ذروة تحققها ليتوهج السعي وتتجدد الرحلة، ويعلو صوت الحياة مزيجًا من اللذة والألم، من الأنين والرنين!!
يروى أن الببغاء الواقف على شجرة طوبى العالية في الجنة، كان يرتدي حلة خضراء زاهية، لأنه خضر الطيور الخالد الذي ارتشف ماء الحياة، وحرم نعمة التربص بالموت!! كما كان يرتدي طوقًا ناريًا من أجل ساكني جهنم، ولأنه كان يشبه إبراهيم الخليل في نجاته من نار النمرود!! وفي يوم ما، قابل الببغاء الخضر الخليل رجلاً مجذوبًا، وسأله: أيها الرجل هل تصاحبني؟!
فقال الرجل: إن أمري لا يستقيم معك، لقد شربت أنت من ماء الحياة الخالد كثيرًا، وأنا أنثر روحي في كل يوم!!
هذا ما قالته الحكاية، لكنها لم تذكر شيئا عن موقف المجذوب من طوق النار، وإبراهيم الخليل الناجي من النمرود!!
أما البطة، فقد خرجت من الماء غاية في الطهر، وقالت: لا يوجد في كلا العالمين، عالمي الغيب والشهادة، من هو أنصع مني وجها أو أطهر... إنني زاهدة الطير وصاحبة الرأي الطاهر، حيث إن مولدي ووجودي متعلقان بالماء... ومن يكن وعاء مائه مملوءًا، فمتى تتولد لديه الرغبة في السيمرغ؟
وحين سُئل مجذوب حول حقيقة هذين العالمين؟
قال: هذان العالمان (العلوي والسفلي) قطرة ماء لا أكثر، ولا أقل، فعندما ظهرا في أول الأمر كانا كقطرة ماء، وإن اتخذت صورا عدة ثم خرب كل نقش علا صفحة الماء؟وانظر إلى كل بناء أقيم على صفحة الماء، إنه مجرد خيال!!
زاهدة الطيور
ولعل البطة، زاهدة الطير الطاهرة، سقطت في فخ خيلاء الأنا القداسية متوهمة أنها امتلكت اليقين بطهرها وزهدها واستغنائها الذاتي المخايل!! لقد أضحي زهدها وطهرها حجابا، وعائقا دون أشواق الروح، ورغبتها المتوهجة في الرحيل إلى السيمرغ، لأنها قد شغلت بزهدها في المخلوقات عن مانح المخلوقات الوجود، أو هذا ما تصورته!! لكن المجذوب فاقد العقل، كشف قناع المخايلة، وأسفر عن وجه الحقيقة القاسي، فما زهدت البطة المدعية للطهارة الناصعة إلا في معاينة الأصل، لأنها استلبت في حضور الفرع (العالمين، قطرة الماء ذات التجليات المتنوعة)! غامت نظرة البطة، وما وعت إلا خيالات الماء، فسقطت في أسرها، وظنت أنها باغتسالها الدائم في الماء، قد تطهرت من دنس الوهم، وتحررت من أسر الخيال في حين أنها كانت ترسف في قيوده وأغلاله إلى درجة العمى وفقد البصيرة!! وها هو الهدهد الحكيم يبرز عمق المفارقة التي تحياها البطة الحمقاء، إذ يقول لها: «يا من تجدين في الماء سعادتك... ستأتي قطرة ماء تسلبك ماء حياتك، لقد وجد الماء من أجل الوجوه الدنسة ومهما كنت طاهرة نقية، فطلعتك شبيهة بطلعة كل دنس!!»
مارست البطة الزاهدة الطاهرة عنفًا متخيلاً على السيمرغ، ليس حين رفضت قطع الطريق والوصول إليه، بل حين توهمت أنها بزهدها وطهارتها استغنت عن أصلها الذي منحها وغيرها الوجود، والذي يقدر على سلبها وغيرها إياه في أي لحظة يريد!! لم تع البطة كون وجودها مستعارا لأنها ليست إلا إحدى خيالات الماء، التي أعلنت زهدها فيها رغم هوسها بها!! لقد كان طهر البطة الظاهري مرآة كاشفة لنقيضه الباطني، دنس القداسة المتوهمة، والاستغناء الزائف الذي يمارس حضورًا غوائيًا استعراضيًا أكثر منه تطهريًا حقيقيًا!!
أطفأت مياه البطة الخيالية الطاهرة نار الحقيقة الإلهية، أو هذا ما توهمته في لحظة ادعاء الوجود الذي تطاول ليناوئ بشبحيته الوجود الحق!!
التعلق بالسلطان
وها هو الصقر يقبل أمام الجمع مرفوع الرأس، جاء وكأنه قد كشف النقاب عن عالم الأسرار. جاء منتفخ الصدر معتزًا بقوته، متفاخرًا بجبروته، وقال: أكثرت من تأديب نفسي، والتريض كالمرتاضين حتي... أصبح جديرًا بالسلطان، فهذا أفضل من السير في وادٍ بلا نهاية. وأنى لي أن أرى السيمرغ في المنام؟
قال له الهدهد الحكيم, يا أسير المجاز... تعلقت بالصورة... السيمرغ بلا شبيه!!
لم يكن الصقر أقل مراوغة من الطاووس، فكلاهما يدعي أنه لا يأمل في السلطان، ولكن يكفيه أن يكون لائقًا بحضرته، لائذًا بحماه وسطوته، جديرًا بخدمته!! لكن الهدهد الحكيم، رأي العمق الموحش، وعاين الحقيقة وراء الادعاء، وكشف عن حقيقة مقصدهما الخفي، ألا وهو: السلطان ذاته!! ولقد تعلق كل منهما بالصورة الظلالية دون الأصل، وآثر الطاووس يقين الوعد الفردوسي، بينما آثر الصقر يقين الوعد الدنيوي على حيرة الطريق الوعر إلى الأصل الخالد، متوهمًا أنه استقر في ظل الأمن والطمأنينة والاستقرار، واحتمى من دوار اللانهائية المروعة!! ولعلهما ما أدركا في ظل وطأة حضور الصورة، وأسر المجاز، والولع بثنائيات التشابه والاختلاف، أنه يقين أقرب إلي قبض الريح، يسكنه الباطل، ويرتع في جوانبه العبث، ويسيطر عليه حتمية العدم!!
توالت أعذار الطيور واهية سقيمة، والهدهد الحكيم لا يكف عن تفنيدها، وكشف خباياها القبيحة، ولما بلغ الأمر غايته، اعترفت الطيور بعجزها وضعفها، وطالبت الهدهد بتوضيح الأمر لها، وإجلاء طبيعة علاقتها بالسيمرغ، عل هذا يولد الرغبة الحقة لديها فتسير صوبه، باذلة كل نفيس وغالٍ من أجله!! حينئذ قال الهدهد الحكيم، وقد أدرك عبثية الدعوي في سياق عبيد الدرهم والدينار، وأهل مقايضة الثواب والعقاب، ما يلي:
«أيها الجهلة... إلام هذا الجهل؟!... إن لم تكن لكم عين مبصرة تدرك السيمرغ، فلن يكون لكم قلب كالمرآة المجلوة... إن دار النفس جنة خلد مليئة بالرغبات والنزوات، أما دار القلب، فغاصة بالصدق، وحضرة الحق بحر خضم عظيم وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم، وكل ما عدا البحر هوس وخيال!! فتأمل الكل، واطلب الكل، وكن كليًا!!».