مختارات من:

الشعر حاجة إنسانية متجدّدة

محمد علي شمس الدين

يقتضي، على ما نرى، إضافة أداة الاستفهام «هل»، على عنوان هذا المقال، لتستقيم مناورة هذه المحاولة في الشعر وماهيته، وتاريخيّته والحاجة الإنسانية المتجددة له. والسؤال: هل الشعر حاجة إنسانية متجددة؟

هل يمكن تعريف الإنسان بالشعر أيضًا؟ أي من الموقع المغاير للفكر الأرسطي، بل المناقض للإنسان العاقل Homo sapiens (أوموسابينسي) باعتبار ما يصنع الشعر (أي الإنسان) يقوم في منطقة اللامنطق أو اللاعقل أو اللاواقع (suréel) (سريال) وبالتالي يتصل بينابيع الميثولوجيا والسحر. وليست «عبقر» أو وادي الجن في الحكاية العربية الجاهلية سوى إشارة للمصدر الغامض للشعر. هذا المصدر لايزال على غموضه حتى اليوم. هل هو فعالية عقلية «أبولينية» أم «ديونيزيسية» لذيّة وحسيّة؟ لقد عرض «نيتشه» لهذين المصدرين المتعارضين في الميثولوجيا اليونانية لمصدر الشاعر، وانتهى للتوفيق بينهما، ذلك لا ينفي بكل الأحوال أن الشعر «معطى تاريخي»، أي فعالية إبداعية بتقنيات لغوية وتخييلية، لها أصل وصيرورة، تاريخ ومراحل، وخضعت للتطوّر والتحوّل، من لدن شعر الكهوف، ومن ثمّ الملاحم (كلكامش وأنكيدو) والإلياذة والأوديسة والشعر الجاهلي، مرورًا بشعر الحضارات المختلفة، إلى الشعر في أزمنة المدن، حتى اللحظة الراهنة للشعر، أو للاشعر (موت الشعر) في زمن ما بعد الحداثة Post modernism، والعولمة، والإنترنت حيث افترست الصورة والإشارة الضوئية، الامتداد اللانهائي للمخيّلة (وهي الأساس التاريخي للشعر)، وحيث تمّ إدراج الشعر في كفن من أكفان ميتات نهاية التاريخ.

الشعر معطى تاريخي كتقنيات وفعاليات لغوية وحيل متغيّرة، ولكنه أيضًا وأولاً معطى خارج التاريخ أو فوقه، لأنه، في رأينا، يبدأ الشعر من حيث ينتهي التاريخ، ثمّ هو متداخل مع العدم والمجّان.

الشعر ودوران الأزمنة: الميثولوجيا، الدين، الأطوار التاريخية

يلاحظ ما يشبه الدوران في المعطى الشعري. فانطلاقة الشعر ليست انطلاقة أفقية (كانطلاقة العلم) بل هي دائرية، بمعنى أن الجديد في العلم يجُبُّ أو يلغي القديم بالضرورة، سواء كان ذلك في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أو علم الفلك.. إلخ. على خلاف ذلك، يتحرك الشعر لولبيًا، ملتفًا على الأزمنة والأمكنة والأحوال. إن الحركة الدادائية في الشعر، على سبيل المثال، هي عودة لدادا الشعر أي لعثماته الطفولية، كما أنّ الفن الوحشي أو الوحشية في الفن عودة للخامات غير المهذّبة لينابيع الفنّ، لقد ابتكر كل من بيكاسو وبراك التكعيبية تأثرًا بالأقنعة الإفريتيّة، وإنّ أشعار البيت Beat في الولايات المتحدة الأمريكية (ألن جنسبرج) أو في فرنسا (سرج بي) Serge Peay هي شديدة الانتباه للحركات البدائية والعناصر البدائية من أصوات وحركات وخشخشات، وما إلى ذلك، في تأليف الأصوات والصور. ثم إن تعطيل الحواس وما نادى به رامبو ومن ثم أنتونان آرتو، بل تشويشها، للوصول لجوف هذياني أو عصابي منه تنبثق الأشعار، ليس سوى تقويض للعقل، والتوكيد على أن الإنسان الشاعر هو غير الإنسان العاقل.

الشعر والصيرورة

لكن: هل يسير الشعر من انتصار لآخر؟ أم من محنة لأخرى؟ من هاوية لأخرى؟ ماذا عن اللحظة الراهنة للشعر؟ وماذا عن اللحظة القادمة؟

إن المدينة الحديثة، الصناعية في البداية، ومدينة الاتصالات المعاصرة والإنترنت والعقول الإلكترونية تاليًا، قلّصت من مساحة الشعر والفنون ومن مساحة الكتابة نفسها، على غرار ما سبق وفعلته الآلة ضد العمل اليدوي الملغي أو التافه. فلم تعد الكتابة مهنة مشتهاة، بل غدت مهنة مَن لا مهنة له. وغاب ذاك الافتتان السابق بفكرة العمل الفني وأبهته ودوره. لم يعد العمل التشكيلي مثلاً، صاحب سطوة كبيرة، كما كانت تفعله لوحة لرامبرانت أو لغويًا أو لفيلاسكيز، وحتى لبيكاسو، وانكسرت الأبهة القديمة للشعراء كسارقين للنار المقدّسة وقرناء للآلهة (حسب الميثولوجيا اليونانية)، بل صارت تقنيات السعر والتسويق الإعلامي وسوق الشراء (تقنيات الجاليري العارضة) هي التي تتحكم باللوحة، وصار يلحق بالمرء حرج من أن توضع كلمة كاتب في خانة المهنة في جواز سفره، شوّهت ما بعد الحداثة كل شيء ومسخته، الفنون الأدائية مجموعة كراكيب، والأشعار مساخر.

هكذا الفنون صارت هوايات خاصّة (لا ضرر منها) وربما مارسها وتذوّقها مجموعة من بشر «كسالى وطفيليين» وهم أبعد ما يكون عن مراكز الفصل والتخطيط وصنع المستقبل في الحياة المعاصرة (كما يرى الشاعر والناقد الأمريكي الراحل ويستن أودن 7091-7691 Wystan Auden) في كتابه «محنة الشاعر في أزمنة المدن».

أما أنْ تجمع الجميلَ والمفيدَ معًا على غرار ما كان يحصل في الماضي بما فيه عصور الحداثة، فأمر صار من الصعوبة بمكان، فلابدّ من الاختيار، فإمّا المهمّش والمهشّم، وإمّا المفيد الذي يتمّ تنفيذه بعيدًا عن قلق الفنّ والكتابة معًا، وعن الساحة الشعبية، وكأنما تحققت بشكل فظّ مقولة بريخت: الشَّبع أولاً، ثم الأخلاق.

من المهم الإشارة إلى أن التطورات التقنية والاستهلاكية وثورة الاتصالات كوّنت مساحات بشريّة جديدة، لا تنضوي تحت خانة التجمّعات البشرية المعروفة سابقًا. لقد ولد ما سبق وأطلق عليه الفيلسوف الدانماركي كيركفارد اسم «العامّة»، وهم غير محددين بمكان محدد أو زمان محدد، بل ينتمون إلى وسائل الاتصال، ويوجدون حيث تصل إليهم هذه الوسائل. إن العامة (Public) بهذا المفهوم الجديد ليسوا بشعب أو جيل، ولا هم مجتمع أو جماعة، ولا هم بأفراد متميّزين. إنهم «عملاق تجريدي عقيم، بمعنى أنه كل شيء ولا شيء في آن» (أودِن - المرجع السابق) - ويختلفون عن مفهوم «الجماعة» القديم، كما يختلفون عن مفهوم «الرعاع»، وإليهم تتوجه إشارات الاتصالات، وعليهم يُعَوّل في التسويق والاستهلاك، وهم موضوع الدعاية والجذب الإعلاني الخطير والمؤثر.

إن هذه «العامّة» عنصر فاعل في توجهات الفنون والكتابة، مثلها هي عنصر فاعل في الاستهلاك، ومن حيث هي كتلة غامضة ومبددة (تنتشر على كامل الرقعة الأرضية، وحيث تصل الصورة والإشارة)، فإن الشاعر أو الفنّان أو الكاتب يتوقّف ليسأل نفسه: لمن أتوجّه؟ وتلك واحدة من صعوبات العمل الفني اليوم. وهذه الصعوبات تتوزّع على الأوجه التالية:

أ- فقدان الثقة بالكمال وفكرة الخلود والأعمال التي لا تفنى، وهي الفكرة التي كانت تسيطر على شعراء وفناني الماضي وكتّابه، إنهم جميعًا يرغبون في قهر الموت والزمن، وتراودهم فكرة البقاء بعد موتهم. إن هوميروس وميكال أنج وجوته وشكسبير هم من هذا القبيل، أبناء الخلود يسمّون. وذلك ما ينتمي لعصر مضى وانقضى، ويكاد يصبح اليوم أمرًا مستغربًا أو مثيرًا للسؤال، إنْ لم يكن للسخرية: المجد، الخلود، العظمة، الكمال، أصبحت كلمات هي أقرب ما تكون لمضيعة الوقت، والبسيط والارتجالي، المباشر والاستهلاكي أجدى. لقد سقطت الكلمات عن عروشها الضخمة القديمة، وطحنت سوقُ الاستهلاك اليومي الأشعار.

ب- فقدان الثقة في مغزى الظواهر الحسيّة وأهميتها. ذلك ما يلخصه الشاعر والرسام البريطاني وليم بليك أجمل تمثيل، فقد كتب ملاحظة عن التغيير الذي طرأ على موقف الإنسان من الطبيعة جاء فيها: «إنّ البعض يرى الشمس كقرص ذهبي مدوّر بحجم قطعة النقد، غير أنه يراها أيضًا كقرص خبز القربان المقدّس مثلاً الذي يعلن قدسيته مناديًا: مقدس مقدّس مقدّس». وهذه الثنائية في النظر للطبيعة كان يتبناها نيوتن وأتباعه، إلا أنّ بليك لا يساوي بين النظرتين ويعتبر الظواهر الحسيّة وكرًا للشيطان، فالمهمّ هو الرمز والتعليل أو التأويل، فالحسّ خدّاع.

ج - فقدان الإيمان «بالنموذج» في عالم متغيّر بسرعة هائلة، وكان في الماضي بطيئًا.

إنّ التسارع الذي لا يمكن تصوره، من شدته، وفرط حيويته، أضاف قيمة جديدة على المسائل والأفكار والأشياء. كان السابقون يعتقدون أنهم يعملون لمئات السنين، إن لم يكن لألوف السنين المقبلة، وكانت التغيرات التي تحصل إنما تحصل ببطء، مما يرسّخ فكرة العمل لأجيال كثيرة، وهي فكرة لم تعد اليوم صالحة مثلما كانت بالأمس، إن تسارع التغيرات ربط مفهوم العمل والفن والكتابة باللحظة، أكثر مما ربط هذه المسائل بالأبدية، أوحتى بالمستقبل القريب. وقد خسر الشعراء والحالمون بذلك، جزءًا من أحلامهم، خسر الشعر الكثير من جعبة أحلامهم.

د - اختفاء أو انحسار المفهوم التقليدي لعبارة البطل كمحطّ للكشف عن التميّز الشخصي. من هو البطل اليوم: الإنسان؟ أم الآلة؟ العضلات؟ أم العقول الإلكترونية؟ العقول الطبيعية؟ أم الروبوت الذي في إمكانه صنع لوحة أو تأليف قصيدة؟ كان في الإمكان القول في الماضي، مثلاً إن مارجرجس أو «الخضر» قتل التنين الخرافي والأسطوري بطعنة رمح محددة، سددها بيمينه إلى نحر التنين، وبالتالي تصوّر طرفين في بطولة محددة في ساحة محددة: الطاعن والمطعون، أما اليوم، فبالإمكان زرع عبوّة ناسفة مجهولة الصانع والواضع والمفجّر، في أصل أي تنين مشابه، أو أي تمثال أو بناء، وتفجير الصاعق عن بعد، بكبسة زر مستور، فمن هو البطل اليوم؟ العبوة؟ أم صانعها؟ أم الضاغط على الزّر المستور؟ وكان في الإمكان القول في الماضي إن الفرعون بنفسه، أمر آلاف العمّال بحفر ترعة من الترع محددة ومعروفة، وبسواعد محسسة، أو أمر العمّال بتشييد الأهرام، أو ما يشبه ذلك. فالفرعون حاضر كشخص معروف وآمر، وهو بذلك بطل الأهرام، أو السدود وسواها. أما اليوم فما الذي يحرّك الجرّافات الضخمة والحفارات الهائلة وما الذي يصنع الصروح، ويجفف البحار ويطلق الصواريخ والمركبات الفضائية نحو الكواكب والأجرام والأفلاك؟ من هو؟ الرئيس؟ أم العلماء المستترون في مختبراتهم أمام آلاتهم المعقّدة وشاشاتهم الحساسة العجيبة؟

من البطل اليوم: الشخص؟ أم الفكرة؟ الفكرة؟ أم الآلة؟

أين الشاعر؟ بل أين القارئ؟

ألم يتذرذر الشاعر؟ ألم يتذرّرْ القارئ تبعًا لذلك؟

مقولة «موت الشعر» تبعتها مباشرة مقولة «موت القراءة».

يقول الشاعر الفرنسي الراحل جان تارديو، صاحب ديوان «نهارات مترمّدة»: »لقد كان الشعر قارة فسيحة فأصبح جزيرة معزولة». فمسألة عزلة الشعر والشعراء من أبرز مسائل نهايات القرن الفائت ومطالع الحالي.

والقارئ الميت هو المشيح بوجهه عن الشعراء إشاحة تامة، أو المزورّ عنه قراءة وسماعًا واهتمامًا. وإشارات ذلك ليست إشارات عربية وحسب، بل عالمية وفي جميع اللغات.

الشعر اليوم يتيم المعارض، الواقف وحيدًا في عصر النهايات، ويتيم الناشرين وإذا كان الشعراء الأمريكيون منذ خمسينيات القرن الفائت، وتحديدًا انطلاقاً من ألن جنسبرج صاحب قصيدة «عواء» وجماعة الـ Beat الشعرية، يحاولون الخروج من عنق الزجاجة، باستعمال الأظفار وجرح صورة المجتمع وملامحه بعنف من خلال إطلاق الصراخ والشتائم في قصائدهم ومحاولات العودة للبدائية وإشهار العدمية والمجّان، بل والخنزرة أحيانًا، في مواجهة النموذج السابق الأخلاقي أو المكتمل أو المفيد أو ما أشبه ذلك للشاعر، فإن ما يسجّل هنا هو على الأقل استدارة الشعر على عقبيه في مسيرته التاريخية ونزوله من أبراج عاجية إلى الشوارع ومحطات المترو وحتى المقابر، ومواخير ممارسي الماريجوانا، وأكثر، إلى بيوت المومسات.

كما استعادت أو إحياء طقوس شفاهية للقصيدة، هذه الطقوس التي كان يظن زوالها من خلال القصيدة الخرساء المقروءة بالعينين والصمت المطلق. إن شعراء فرنسيين معاصرين مثل سرج بي Serge Peay أطلقوا طقوس شفاهية الشعر إلى حدودها القصوى، ووصلوا في قراءة قصائدهم إلى حدودها القصوى، حدود السحر والشعوذة واللعب بالصوت واستخدام مؤثرات سمعية وبصريّة مساعدة على تشخيص أو تمثيل القصيدة، كإضافة الشموع على المسرح فوق كومات من الرمل وتحريك صور من خيال الظلّ على شاشة وراء المسرح الذي يقف عليه الشاعر واستعمال الخشخشة من خلال دفوف أو آلة تسجيل تبث أصوات رياح أو أمواج بحر أو ما شابه ذلك من مؤثرات صوتية مرافقة لإلقاء الشاعر المنشد.

إنها حيل شعرية لمجاراة العصر. بل هي حاجة عصرية للشعر إذْ كيف بإمكاننا،على سبيل المثال، إقناع فتى بالقصيدة،حين ينفتح أمامه عالم الإنترنت الخلاّب واللامحدود، أو عالم الكمبيوتر في رياضة الذهن اليقظ؟ وحين يسترخي إنسان ما على أريكة في منزله، ويكبس زرّ التلفزيون فتتوالى أمام عينيه المشاهد والعوالم، والحكايات.. يسترسل في مشاهدتها بلا عناء، أو يغيّرها إذا شاء، بلمسة خفيفة؟ كيف يمكننا إقناعه بقصيدة ذات رمز ولغة وكدّ الذهن؟

الشعر اليوم نحسّه كنجم صغير مطحون في مجرّة أو كإبرة من ذهب ضائعة تحت قشّ التاريخ، فمن يبحث عن النجم الغائر والإبرة الضائعة؟!.

محمد علي شمس الدين مجلة العربي يوليو 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016