مختارات من:

ذاكرة التيه

عزة رشاد

تمتلك الكاتبة قدرة مميزة على تكثيف اللغة واحتشادها. وهذا الأمر هو علامة من علامات الروح الشعرية في أي نص تخيلي وروائي.

على العكس تمامًا من السير التي نعرفها للمبدعين الحكائين بدأت «عزة رشاد» بكتابة الرواية أولاً، فنشرت «ذاكرة التيه» عام 2003، ثم عادت فكتبت مجموعتها القصصية الأولى «أحب نورا أكره نورهان» ونشرتها 2005.

وحاولت أن أجد في متن عملها إجابة عن ذلك التوجه عكس الشائع فوجدت أنها ربما تكمن في قدرتها المميزة على التكثيف في اللغة، ووجدت نفسي أكتب بجوار فقرة من قصتها «أكثر من فم مشاكس» ص80 «إذا سألنا عن معنى الاحتشاد باللغة فربما قدمنا المقطع التالي كنموذج: «الغناء يبدأ بداخلي، أندهش كثيرًا أن يخرج مني كل هذا الصوت، أن يأتي من حنجرتي لأنه أكبر مني، يتجاوز كل التصورات العلمية عن الحبال الصوتية، فهو لا يأتي منها، إنه يأتي من هناك.. حيث يكون متغلغلاً في الثنايا البعيدة، بيدأ من قدمي ليشق مساره في خلايا جسمي يصفيها، وينقيها حتى ينطلق من فمي كاسحًا معه همي وكدري، حين أتوقف أسقط من الإعياء».

والقصة القصيرة كلحظة أو مجموعة من اللحظات تحتاج إلى مثل هذا التكثيف والاحتشاد الذي هو علامة من علامات الروح الشعرية في أي نص تخييلي ولنبدأ كما بدأت عزة بقراءة لروايتها «ذاكرة التيه».

مع الجملة الأولى «بابتسامته التي تعرفينها جيدًا ستجدينه أمامك بعد قليل وهي جملة اسمية موحية بالتشيؤ والفراغ الروحي نجد أنفسنا أمام «سحر» راوية تناجي نفسها.. لها وجه بائس وقناع باسم، وسنجد أنفسنا أيضًا للوهلة الأولى أمام أولى الحلقات في سلسلة الثنائيات التي يفيض بها عملها كله، إنها تقدم نفسها باعتبارها امرأة غير مكتملة تأخذنا معها في رحلة حياة كمهاجرة من مدينة بورسعيد، تاركة البحر الذي سيحتل مكانًا مركزيًا في القص بكل دلالاته الرمزية، وإيحاءاته المخفية وتقلباته المفاجئة ولانهائيته، فهو محور الحلم، فيه مخزون الطفولة أو البئر الأولية على حد قول «جبرا إبراهيم جبرا».

ملاذ الحالمين

البحر أيضًا هو اللامتناهي ملاذ الحالمين بعالم أجمل فأجمل بلا انقطاع.. حتى لو كانت هي قد فقدت البحر في السادسة من عمرها، وهو لانهائي أيضًا مثل الزمن صنو الموت، ذلك المجهول الذي هو نقيض الحياة وحامل بذرتها في آن واحد «كل اقتراب من الموت، كل نجاة تحمل لي ميلادًا جديدًا»، وحيث تلخص الرواية البطلة سيرتها بهذا القول الذي يكاد يكون حكمة عملها.

تضيق الحياة، ويضيق البيت ويضيق الناس ببعضهم البعض بعد الهجرة التي هي هجرة البحر أيضًا الذي اختفى من الواقع وعاش في المخيلة يناديها، تعيش الأسرة في بلدة واقعة على أحد أطراف قريتها الأصيلة «ميت لوزة» التي كانت موطنًا للقطن منذ زمن بعيد، بلدة ضيقة ومغلقة بدورها على الرغم من بناياتها الكبيرة «التي تميزها سلالم الخدم الرفيعة الملتوية كالأفاعي التي كانت الشيء الوحيد المكشوف لنا من حياة ساكنيها».

وينتج اسم القرية وموقعها على التو دلالتين.. الأولى هي حالة الانتقال من قرية، ومدينة «ميت لوزة» هي مجرد بلدة صغيرة، أي مشروع انتقال لمدينة، وسوف نجد أن حالة الانتقال مبثوثة في العمل كله.. من الصداقة إلى الحب، من وضع المرأة التي كاد يفوتها قطار الزواج، ومن الزواج إلى الطلاق، أما الاسم نفسه فهو صنو البياض المطلق.. بياض لوزة القطن التي تتوازى مع زبد البحر حين يبقى في بئر الطفولة، على الرغم من ابتعاده وعلى الرغم من إفلاس الجد وموته محاصرًا بالديون «ومحسورًا على جنته البيضاء».

للزمن في هذه الرواية تجليات عدة، فالحاضر هو حامل الفعل الروائي كديناميكية تنهض ببنية الرواية ويكون الانتقال الدائم بين الماضي والحاضر تطلعًا إلى المستقبل لتجاوز قيود العالم القائم هو أيضًا منتج التوتر الذي يبقى مشدودًا، إلى محور أساسي من محاور الرواية كما هو الحال في عدد من القصص القصيرة التي نشرتها المؤلفة نفسها تحت عنوان «أحب نورا أكره نورهان» فنقرأفي عالم د. سلمى «حين كنت أخلو إلى نفسي وأدخل إلى مسرحي السري في أبعد غور في أعماقي، كنت أبدأ اللهو حرة، دون شجب أو تهكم أو امتعاض، فأسخر من هذه وأضرب تلك، أصدر أحكامي وأعاقب جلادي، وبعدما ألقي عن ظهري ذلك الخرج الثقيل (حقيبتها التي هي جزء من عالمها وقيدها) أجلس للاستذكار دون انقطاع فتزداد تقديراتي ويزداد وزني» تعيش الدكتورة سلمى حياة خاوية رمادية مندفعة لفرض قيودها نفسها على تلميذاتها. وفي بنية القصة هناك تقابل فذ بين الحرية والقيود، بين التلقائية والافتعال، يتكشف للمرأة القلقة التي تعالج قلقها بالشراهة في التهام الطعام «ولأكتشف أني لست سوى ترس في عجلة مرسوم لها مسارها بدقة» وقد أفضى بها قمع الأسئلة ووأد الروح الحرة «إلى افتقارها للفضول العلمي الذي صار يرشح في ملامحي ويكشفني أمام أعين الطلاب».

شجر التمرد

تتمرد د.سلمى في خاتمة المطاف حين تنسى حقيبتها «وتطوح ذراعيها في الهواء» وتصبح حرة كفاتحة لإطلاق كل الأسئلة المقموعة.

وفي «ذاكرة التيه» تتمرد أيضًا البطلة - الراوية الشيء الذي يجعلنا نصنف هذه الرواية وعددا من القصص ضمن الأدب النسوي. هناك سلطة الأب التي تبقى حاضرة على الرغم من مرضه وغيابه، هذا الأب الذي يجري استدعاؤه حتى في الأحلام رقيبًا، وهذه السلطة هي مرتكز الشد والجذب وهي أيضًا محرك الزمن وسيدة المكان.

هناك زمن القص الواقعي وهو زمن القارئ، أي الزمن المضارع.. الآن، وهناك زمن الحكاية، زمن الهجرة من مدن القناة بعد هزيمة 1967، وهناك الزمن الخيالي زمن الشعر وهو زمن البحر الذي لا نستطيع أن نضعه في الماضي وإنما نحمله باعتزاز إلى المستقبل، ومن تداخل كل هذه الأزمنة تتبلور علاقات اجتماعية يطبعها صراع الداخل والخارج، صراع داخل الشخصيات ضد عالمها والتي هي في حالة انتقال، وصراع البلد ضد المحتل لا نتلقى عنه سوى إشارات عابرة، وصراع ضد العالم القديم الذي لا يتجلى كشيء واحد. وصراع ضد الاستبداد في أوساط الطلاب وفي الشارع، هناك أيضًا عالم التشيؤ ومستويات الوعي مثل الوعي البراجماتي النفعي الذي يجذبه بريق الذهب وتستسلم له الأم بعد عودتها من الخليج، ويكاد يكون سمة عامة للوعي السائد، فهناك أيضًا الصديقة التي تريد أن تقتنص زوجًا ثريًا، وهناك الوعي النقدي الأصيل للابنة ولعدد من أصدقائها الذين التبست علاقتها بهم، وهناك الوعي الديني المحافظ القمعي للأخوين التوأم بعد أن عادا من الخليج، وقد لعبت الكاتبة ببراعة على تشابههما وكان مثل هذا الوعي ينتج نماذج مكررة وتطابقًا يُفقر الشخصية الإنسانية ويلغي فرادتها الأصيلة.

وعلى العكس من الأخوين المتشابهين التوأم فقيري المشاعر نجد الخادمة في قصة «أحب نورا أكره نورهان» مفعمة بالمشاعر على فطريتها، يكاد الصراع الداخلي يدمرها بين الكره والحب، ولكنها تنتصر للحب والتلقائية البسيطة.

ولولا أن «عزة» كتبت هذه القصة على لسان الخادمة الصغيرة، دون أن ترهق نفسها في تجريب تقنيات أخرى في الحكي كانت تتيح لها تعبيرًا أكثر صدقًا وملاءمة من مشاعر الصغيرة التي يصعب علينا كمتلقين أن نقبل منها وبوضعها هذا قولاً مثل «أحتضن خوائي بعد أن فقدت حضن أمي»، أو تستخدم تشبيهات وصورًا من قبيل «ثلج الصغار يذوب سريعًا»، أو أن تقول طفلة صغيرة وهي «نورا» كفاك ضحكًا أيتها الخنفساء الصغيرة، أو تقول الخادمة «دون أن أتمكن من تحرير واحدة من الكلمات» تحدث هذه الأخطاء كلها على الرغم من صدق الحكاية التي تشركنا معها في فضح الكيفية التي ينبني بها الانقسام الاجتماعي محكيًا على لسان مراهقة.. كمخلوق أصيل - لولا افتعال التعبيرات - فيه كل تناقضات الشخصية الإنسانية في الزمان والمكان الملائمين وهي التناقضات التي تكسر حدة الثنائيات المتقابلة غالبًا في عالم «عزة»، وهي ثنائيات تكاد في بعض الأحيان أن تحول الشخصيات إلى نماذج إيضاح مثل شخصية العم الصغير، والحبيب الخجول الذي يكاد يكون مخنثًا.. ومنتصر المكتمل المثالي دون خدش واحد، وأكرم الغامض شبه الكامل المتحضر الجميل المتفتح على الإنسانية حتى «سحر البطلة» هي نفسها لم تنج من الانقسام لاثنتين، تقول في ص 901: «صرت أشعر أني اثنتان لفرط ما قسمت نفسي ووقتي بين عالمين متناقضين، أحدهما للقبح والآخر للجمال، تستهلك القضايا صباحاتي واقترض من هند شرائط الأفلام للأمسيات.

هكذا كنت أمنح نفسي صامتة وبوعي كامل لعالمين كي أفلت من البنت التي تصرخ في نومي، أنا وحيدة حاملة عبق لحظات متباينة من حركة الأفلاك لتطارد زمني».

هي تكاد في هذه النزعة المانوية القائمة على ثنائيات لا تلتقي محكومة بالمنطق الشكلي، وهو منطق تبدو له الأشياء كالأفكار مرتبة بحسب الصيغة التالية، إما وإما فقط دون أي جدل، وذلك كله بالرغم من أنها هي نفسها تلتقط هذا التناقض الجدلي بخفة وسرعة حين تقول عن علاقتها بزوجها: «هذا هو رجلي الذي صرت أحيا به وله وضده أحيانًا». ص131. بالرغم من أن عدم توافقها مع نفسها في غالب الأحيان يتناقض مع النزعة النخبوية المتعالية، التي تتحدث بها الشخصية عن ذاتها، «وبقيت وحدي مسهده لأنني لا أشبههم، لست منهم، لأن سربا من النجوم الأليفة كان يحرس حلمي».

وربما تنظر هي لانقسامها باعتباره ثمن الفرادة والأصالة، وليس فقط ناتج النزعة الثنائية المانوية، التي تقسم العالم إلى خير وشر، ونور وظلام ونهار وليل، ثنائية لا تلتقي ولا تتجادل على العكس من سيرورة الحياة.

ثمة معرفة تفصح عن نفسها في غالبية النصوص، وفي النص الأول «ذاكرة التيه» معرفة بخبايا النفس الإنسانية وكأننا أمام دراسة لعلم النفس، وهي على الأغلب تتأمل كثيرًا في تكوينات شخصياتها قبل أن تنفخ فيها الحياة، وتلقي بها في عالمها المتلاطم الأمواج وبحرها الصاخب اللانهائي «البحر الرحلة الأبدية والشاهد الأبدي».

ولولا قيد الثنائية وضيقها لكانت الأزمنة الخاصة لكل شخصية قد صنعت عالمًا لانهائي الثراء, لحمته المعرفة بخبايا القلب واللاوعي في الزمن الذي هو بدوره تيه لا يقل تشعبًا عن تيه أبيها الذي كان قد استسلم له في مرضه قبل أن تعيده حادثة كبيرة إلى الوعي الكامل، وكأن أمه بكاملها تحتاج إلى صدمة كبرى حتى تستيقظ. وتصل الراوية بين الأسطورة والتيه العصري حين تقول «تيه آخر بناه مينوس بن زيوس أكبر آلهة الإغريق انتقامًا لقتل ابنه في أثينا التي فرض على ملكها أن يرسل إليه كل تسع سنين جزية مقدارها سبعة من الشبان وسبع من العذارى يقدمون ضحية إلى مونيتور، وهو مارد في صورة ثور ذي رأس ضخم وضعه مينوس في التيه..».

وبوسعنا أن نقرأ في هذه الاستعارة صورة مجازية للنزاع العربي الصهيوني.

قلب التيه

وفي التيه سفر وترحال وغربة وانفصال وتوق للاستقرار وللتمرّد وللأمومة، التي خلت منها حياتها تقول ص 631، وكأنها تقدم احتجاجها غير الواعي على حبس العصافير في قفص: «توجهت مباشرة إلى قفص كناري الذي أحضره لي أكرم... ووضعت الحب في الغذاية»، ونظفت المسقى، وملأته بماء جديد عندما كان الذكر الذي كنت أميّزه بريش كثيف فوق عنقه يتابع حركتي محاولاً قطع الصمت الذي خلفه انشغال الأنثى بزقزقته الجميلة، صارت تمكث ببيت الرقاد لتعتني ببيضها، فتدفئه بحرارة جسمها الحميمة، ثم تقلبه وتهيئه ويستمر الرقاد بين أسبوعين ونصف إلى ثلاثة أسابيع حتى يتم الفقس وتخرج الصغار رفيقة هشة تحدوها الأم بعناية رحيمة يساهم الأب في قسط منها، إنها الأمومة، التي حرمت منها البطلة، تتجلى هنا كعلاقة إنسانية وليس كتملك، فتطيح الراوية بواحدة من رواسخ العلاقات في الفكر السائد عن الأمومة والأبوة، والتي تقوم على التملك والسيطرة.

«ثم لم أمتلك أبدًا هذه الثقة بذاتي في صلاحيتي لأن أربي طفلاً، كنت أخشى أن أظلمه مرة بالحماية المفرطة وأخرى بالإهمال (الثنائية مرة أخرى)، فأكرر معه ما فعلوه بي ومعي ومن أجلي - وهذا استدعاء مجددًا لهيمنة المجتمع الأبوي الذي يبقى التمرد عليه هروبًا إلى البحر كملاذ رمزي هو المحور الرئيسي لهذه الرواية.

إذ غالبًا ما تتدهور الأسس الأخلاقية في العلاقات الأسرية التقليدية حين تدخل فيها المنفعة والربح اتساقًا مع الوعي السائد، مع توجهات ما بعد حداثية بتأثيرها المتناقض والمتشابك على الحقيقة في قصة «تعويذة ضد الفناء» لا نعرف الحقيقي من التخييلي، لا نعرف إن كان الرجل الذي أحبته البطلة منذ الطفولة حتى الشيخوخة قد وجد أم لا؟ وهل هذه ذكرى لحدث وقع بالفعل أم في الخيال، « وبعد أن عبرتني دورة الفصول الأربعة مرات ومرات، لم يتبق لي سوى ذكرى الربيع»، وما هو بالضبط الحقيقي، وما هو المتخيل في هذه العلاقة...«هذه الأيام لم تعد تفتنني الأشياء نفسها، التي كانت تفتنني من قبل» إنه الزمن مرة أخرى.

ثم تقول الراوية:

«يدهشني أنني تركت حبات الندى تنسال من بين أناملي، وأنا ألهث كقطار سريع وراء الثروة والجاه وغيرها من أشياء، عشت سنوات طويلة قبل أن أدرك مدى زيفها وخوائها».

وأخيرًا، نحن أمام كاتبة تملكت أدواتها باقتدار، وشيّدت عالما يخصها لا تقلد فيه أحدًا لولا أخطاء اللغة، وبعض الصور والتشبيهات المستهلكة مع عناصر من تشابه اللغة ومستوى الأداء فيها وعلى الرغم من الاختلاف البيّن للشخصيات التي تنطق بها، لكنها جميعًا ملاحظات لا تقلل من المتعة الجمالية الخالصة التي يمنحنا إياها إنتاجها واعدًا بكاتبة مهمة.

عزة رشاد مجلة العربي يوليو 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016