مختارات من:

أرقام محمود المراغي

محمود المراغي

بشرى للأغنياء: الفقراء قادمون!


بعد عقدين من التراجع الكبير في سوق النفط، تأتي المفاجأة الكبرى : التحول قادم، والمستقبل للمنتجين.. أما نقطة الإنقاذ فهي سوق الفقراء.

طوال ما أسميناه حقبة النفط كان الصراع شديدا بين المنتجين والمستهلكين. استرد المنتجون، وفي غمار حرب أكتوبر 73، ثروات بلادهم فسيطروا على قرارا ت الإنتاج، وكمياته، كما سيطروا - لبعض الوقت - على سياسة الأسعار.

كانت حرب 73، على ما صحبها من اضطراب في سوق الطاقة فرصة سانحة للمنتجين، ولكن سرعان ما استعاد المستهلكون توازنهم، وسرعان ما عاد شعار إنه "سوق المستهلكين".

خلال ذلك، وكما تقول تقارير صندوق النقد الدولي، تراجع عائد النفط، وتراجع معه الناتج المحلي للدول المصدرة للبترول، ونقص دخل الفرد، وكان ذلك كله واضحا في دول مجلس التعاون الخليجي كمثال بارز، حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 0 2% خلال الفترة بين 1981 أو 1995.

بقية المعادلة معروفة : عجز في الموازنات العامة التي تعتمد في جزء كبير منها على النفط، وعجز في الاستثمار الجديد، واقتراض خارجي في بعض الحالات.. مع تراجع مستويات المعيشة.

وكان السؤال القائم باستمرار : هل تدور العجلة مرة أخرى ليستعيد النفط عرشه؟

والإجابة جاءت بشكل غير مباشر في توقعات حول أسواق الطاقة نشرتها دراسة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي صادرة في يونيو96. موضوع الدراسة.. "الطاقة والبيئة"، لكن مؤشراتها أوسع مدى وأخطرها ما جاء حول تطور استهلاك الطاقة في العالم خلال العقود الثلاثة المقبلة. يقول "دنيس أندرسون" مستشار الطاقة بالبنك الدولي، وهو صاحب الدراسة إن البلدان النامية سوف تصبح أكبر أسواق الطاقة في العالم.. فاستهلاكها يتضاعف كل خمسة عشر عاما.. ومن المتوقع أن يزيد الاستهلاك بمعدل أكبر في العقود الثلاثة المقبلة ليزيد خمس مرات على معدله الحالي.. و.. حينذاك سوف تكون السيادة للفقراء، للدول النامية، للأكثر استهلاكا.

الصورة الحالية مختلفة فالدول النامية تستهلك ثلث ما يستهلكه الأغنياء.. ونصيب الفرد في هذه الدول يعادل عشرة بالمائة مما يستهلكه المواطن في دولة صناعية، أما ترجمة الأرقام - وهو ما لم تشر إليه الدراسة - فهي تتصل بنمط الحياة كلها.. لأنه عندما يستهلك الفرنسي - مثلا - عشرة أضعاف ما يستهلك ابن تشاد.. فإن ذلك يعني نمطا آخر في المعيشة بالمنزل، والانتقال في الشارع، والأجهزة المستخدمة في دوائر الأعمال، ودرجة تقدم الصناعة والزراعة.. إلى آخر القائمة. عشرة أضعاف الاستهلاك الفردي في الطاقة قد تعني عشرة أضعاف الرفاهية في الحياة.

أما توقعات المستقبل فهي شيء مختلف.. سوف يزيد سكان الدول النامية بدرجة طاغية، فالدول الصناعية وصلت إلى حد الثبات في عدد السكان، أو توقفت عند معدل زيادة سكانية منخفضة. السباق لصالح الفقراء. سوف يزيدون.. وسوف يزيد دخلهم وقدرتهم ورغبتهم في استهلاك المزيد من الطاقة.. ولكن، وعندما يزيد ذلك الاستهلاك - وفقا للتوقعات السابقة - بمقدار خمس مرات فإن معدل استهلاك الفرد سوف يكون 25% من معدل استهلاك الفرد في الدول الغنية. سوف يحدث التقدم، لكن الثغرة الحضارية المترتبة على استهلاك الطاقة سوف تظل قائمة.

يزيد الاستهلاك بزيادة السكان وزيادة الدخل.. وبسبب عنصر ثالث هو التحول من الطاقة غير التجارية "مثل الأحطاب والوقود المستخرج من روث البهائم" إلى الطاقة التجارية : نفط، كهرباء، طاقة نووية..!

وتفاصيل ذلك تلفت النظر.. من يصدق أن هناك أكثر من ثلث سكان العالم، وبالتحديد مليارا نسمة يعيشون بلا كهرباء أو غاز في حياتهم المنزلية؟

من يصدق أن هذه الكتلة البشرية الكبيرة ما زالت تعتمد على "ست البيت" التي تجوب في الغابات أو الحقول أو شوارع القرية بحثا عن أحطاب أو مخلفات حيوانية تغذي بها مطبخها؟

الأضرار البيئية واسعة، فمخلفات هذه الأنواع من الوقود، وما تبعثه من دخان تسبب الأمراض التنفسية الحادة، وتقتل - كما تقول الدراسة المشار إليها - (4) ملايين طفل ورضيع كل عام وعندما يصل الأمر للكبار فإنهم يصابون بنزلات شعبية حادة وانتفاخ في حويصلات الرئة وبما يسبب الأزمات القلبية.

إنها مشكلة الأماكن المغلقة ذات التلوث المرتفع، والحل هو الانتقال لنمط جديد من استخدامات الوقود.. كهرباء، غاز، وأنواع غير بدائية تدخل فيما نسميه الطاقة التجارية.

ولكن، وطبقا لتقديرات الخبراء فإن الانتقال في الاستخدام المنزلي من طاقة بدائية إلى طاقة تجارية يلزمه 3.5 دخل متوسط للفرد قد يصل إلى 1500 دولار سنويا.. وهو ما يفتقده مليار إنسان يعيشون في 70 بلدا ناميا!

لا يعني ذلك استحالة الانتقال، فالشواهد والتي لم يشر إليها صندوق النقد أو البنك الدولي تؤكد أن بعض الدول التي تتمتع بنصف هذا الدخل - مثل مصر - قد انتشرت فيها أنواع الوقود التجاري بدرجة عالية، برغم استمرار الريف في استخدام المواد البدائية المأخوذة من البيئة مباشرة، وعبر وسائل غير تجارية.

التطور يحدث، والمساحة التي تحتلها هذه الأنواع من الوقود - وهي 15 % من الإمدادات المالية تقريبا.. تنحسر يوما بعد يوم، وبما يغذي سوق الطاقة، وسوق النفط تحديدا بمستهلكين جدد.. هم ثلث سكان العالم أو يزيد.

عالمان.. ونظرتان

المنظمات الدولية، والعالم الصناعي ينظرون للأمر من زاوية التأثير في البيئة.. فالتلوث يبدأ من معادلة : "طاقة أكثر تعني تلوثا أكبر".. ولأن الطرف الأول من المعادلة لا يمكن التحكم فيه فلا معنى من التقدم واستخدام "طاقة أكثر" .. لأن الأمر كذلك فإنه ينبغي التحكم في الطرف الآخر من المعادلة.

من جانب منتجي النفط، أو الطاقة بشكل عام، يختلف الأمر. صحيح أن البيئة قضية مهمة،لكن الجانب الاقتصادي هو بؤرة الاهتمام.. ونقطة التحول - بصرف النظر عن المشاكل البيئية - هو ذلك الوجود الضخم للدول الفقيرة في سوق الطاقة مستقبلا. سوف يتحول سكان هذه البلدان من كتلة سكانية محدودة الاستهلاك إلى كتلة عالية الاستهلاك نسبيا.. وسوف تكون لهم الغلبة في سوق الطاقة، وبما يعني توازنات جديدة لصالح المنتجين.

في الفترة الماضية، كانت الدول الصناعية - كمستهلك أول - لها السيادة في قرارات السوق.

أيضا كانت الدول الصناعية قادرة على أن تقدم البدائل للنفط، أو لمراكز إنتاجه حتى تضرب منظمة الأوبك التي تضم أهم المنتجين.

باختصار كان السوق - وكما أشرنا - هو سوق المستهلكين الكبار.

الآن، وخلال عقود مقبلة يتحرر المنتجون من هذا القيد فيخاطبون سوقا أوسع تتعدد مراكزه، ويزداد انتماؤه لدول النفط الرئيسية في الوطن العربي.

هكذا تقودنا "الأرقام الخام"، وتبقى السياسات التي تجعل لهذا الطرف أو ذاك الكلمة الأولى في أسواق الفقراء.. من الذي يسبق : الاحتكارات البترولية الكبرى المملوكة للدول الصناعية، أم الدول المنتجة؟

السباق دائر، ونحن في القلب منه.. فهل استعدت أجهزة البحث وأجهزة اتخاذ القرار؟

نرجو ذلك.

محمود المراغي مجلة العربي نوفمبر 1996

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016