مختارات من:
واحة العربي
محمد مستجاب
الحَـرث
بين شق التربة، والاستزراع، وعملية العشق المرهقة أيضاً
الحرث عملية شاقة تعني شق الأرض واختراق بطن الأدب والفن تقليبا للتربة وتمهيدا للبذور والإنبات، وحتى النار لها نصيب في الحرث حينما تحرك جمرة بالبشكور لتستعيد أوارها، والبشكور: قضيب من حديد معقوف يستخدم في تقليب النار ويجر به الرغيف من الفرن، وقد اعتقدت أن البشكور لهجة عامية واسم مصري خالص وموروث من أيام الفراعنة، لكني فوجئت به في المعجم الوسيط- شعرت بسعادة، وليس من قبيل المجاز فقط استخدام المادة اللغوية للحرث وأداتها المحراث في مختلف أنواع حياتنا، إذ إن حرث الشيء: بحث فيه، وحرث الدابة: أنهكها وأضعف قواها "وهو ما قد يجري عليه في أمور أخرى تحرثه حرثاً"، والحارث: كنية الأسد- دون أن تكون اللبؤة حارثة، والحارث بن حلزة اليشكري: شاعر جاهلي عاش في بادية العراق، وكان مصاباً بالبرص الذي يترك بقعاً مزعجة في الجلد، له قصيدة من المعلقات ارتجلها في جلسة صلح بين قبيلته بكر مع قبيلة تغلب، والحارث البكري حكيم جاهلي- أيضا- وشجاع، وكان المهلهل- بطل حرب البسوس- قد قتل له ابناً- مع أنه كان قد اعتزل الحرب، فأنشد قصيدته المعروفة- وشديدة الشجن: "قربا مربط النعامة مني.." إعلانا للثأر وبداية لتطور جديد في حرب البسوس المروعة، والنعامة- هنا- يعني بها الحارث حصانه الأثير، أما الحارث بن كلدة الثقفي فكان طبيب العرب في عصور الإسلام المبكرة، وأحد الحكماء المعروفين من أهل الطائف، كان يجيد الضرب- أي العزف- على العود، ولد قبل الإسلام وعاش في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عصور الخلفاء الراشدين وبقي حتى أيام معاوية، وتحت اسم حارثة ثمة عدد من ملوك النبط أصحاب بترا،- أي سلع قديماً، وكانوا ملوكا على دولة شمال شبه الجزيرة العربية، ومنهم جاء الشعر النبطي- أي العامي- في المنطقة، ومن أشهر هؤلاء الملوك حارثة الثالث "حوالي 62 قبل الميلاد" الذي بسط نفوذه على دمشق، وحاول أن يوقف امتداد النفوذ الروماني إلى المنطقة، مع أنه تواصل ثقافيا بالحضارة الرومانية اليونانية (ويبدو أن هذه المسألة عريقة عويصة منذ ذاك الوقت، والتي لا نزال نعاني منها الآن)، ثم الحارث الرابع الذي حاول نائبه أو عامله في دمشق القبض على بولس الرسول النصير المبكر للمسيح عليه السلام، غير أن الحاكم الروماني المجاور له تزوج من ابنة حارثة ثم طلقها بعد أن انهمك في مؤامرة قتل يوحنا المعمدان، حيث تزوج من الراقصة هيرودياس، وهي غير سالومي التي قدمت رأس يوحنا على الطبق الراقص على وقع الموسيقى ولا أستبعد أن يكون الأمر مختلطا علي لتكون الراقصتان واحدة، أما الشجاع الباسل الذي كان الثاني في ترتيب الذين أسلموا من الذكور- أي بعد سيدنا علي بن أبي طالب، عرف بالشجاعة والجسارة والإمعان والإدراك، وهو أبو المقاتل التاريخي أسامة بن زيد. وأخطر من حرث تربة الفكر الإمام محمد عبده، والدكتور طه حسين، كما أن يحيى حقي حرث أرض النص القصصي وجذبه من التحليق التيموري- أي الذي تسيده محمود تيمور- ليضعه على الأرض، وعملية الحرث تأخذ من الجهد ما يفوق الإنبات والزرع الذي حظى به يوسف إدريس، مع أن عملية الحرث- في المعنى الأوسع- قد تأخذ لصالحها الاستزراع أيضاً، حيث جاء النص القرآني على التشبيه سورة البقرة آية 223 نساؤكم حرث لكم سورة البقرة لأن الزوجة موضع الإنتاج وممكن غرس الأبناء، وفي سورة البقرة أيضاً:سورة البقرة آية 71 قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، ومن هذا المعنى المحتوي على شق الأرض والإنبات، وما يسري إلى المسائل الإنسانية تحتها، ينتشر اسم الحارث وعبدالحارث- في الصعيد بالذات، والذي كثيراً ما يكتبونه "الحارس" في خطأ لا يتم تصويبه عادة، وهو ما اكتشفناه حينما كان لنا صديق يعمل مدرساً ويحمل اسم الحارس، وحاولنا مراراً تصويبه إلى الحارث دون جدوى، ثم سافر إلي ليبيا وعاد بثروة محاذراً ألا نقترب- أيامها- منه، فوافقناه اعتماد اسمه الحارس فقط، وفي آخر رحلاته- بعد استكمال الأمن في الثروة: اصطادته الأقدار في حادثة تلتهم الحارس دون الحارث، وهو الأمر الوحيد الذي أسجله هنا دون الدخول أكثر في المعاني المتعددة للحرث، والتي قد أفشل في إيوائها تحت غطاء الأسلوب- مهما كان ماكرا، مع أهمية الإشارة إلى أن العامة- في معظم البلاد العربية قد تستبدل الثاء بالتاء، حيث تقول عن الشخص الأكول شديد الالتهام: إنه حرات- بالتاء، وفي المعجم- تأكيدا لذلك- سوف تجد أن لفظ حرت- بالتاء- تعني الأكل قضما، وقطعه قطعاً مستديرة، والحرت أيضاً: ينسب للأنثى حين تقوم بتدليك رجلها، دعوني أتوقف عن هذه المادة اللغوية- الآن.
