إن البيئة الاجتماعية التي يعيشها العلماء والمفكرون الآن في عالمنا العربي، بيئة لا تشجع على البحث العلمي، ولا تشجع على التفكير الحر، بل هي بكل المعايير بيئة محبطة لكليهما ماديًا ومعنويًا. لقد انقلب الحال، فبعد أن كنا نقول: «فكر.. تكسب» مع الاعتذار للبرنامج الشهير أصبحنا نقول «فكر.. تخسر»!!. ولا لوم على أمهاتنا حينما يقلن لأبنائهن الآن داعين لهم وليس عليهم: «روح... ربنا يكفيك شر الفكر»!!
فقد أصبح «الفكر» مرادفًا للشر والهم، وأصبح المفكرون أشرارًا ومهمومين بقضايا «لا تنفع ولا تضر»، وما يكتبونه «كلام فارغ» لا قيمة له ويجب عدم الاهتمام به أو حتى الالتفات إليه!! وإذا ما أراد أحدنا أن يتأمل موضوعًا أو يدلي برأيه المختلف في قضية ما قيل له «بلاش فلسفة» أو «بلاش وجع دماغ»!
والحقيقة أن هذا كله مما يراد بنا ولنا، وبالرغم من أنني لا أميل إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة، ونسبة كل شيء إلى فاعل خارجي، فإنني هنا بالذات أرى أنه مما يُراد بنا ألا نفكر، وإلغاء العقل، والاكتفاء من العلم بالقشور دون اللباب! ولاشك أن أمة بلا فكر ولا فلسفة هي أمة بلا عقل، لأن أول أدوار العقل ووظيفته الأساسية هي التفكير، والتفكير لا يكون إلا بشروط أولها الحرية. ولما كنا محكومين بالاستبداد في الداخل والخارج، فالأسلم دائمًا هو ألا نفكر، وإذا فكرنا، فينبغي - حتى لا نقع في المحظور - أن نكتفي بالتفكير، إما في تدبير شئوننا العملية أو في المفكر فيه وتكراره. والحقيقة أنه كلما استسلمنا لهذا الوضع القائم، ازددنا كمجتمع وكأفراد اتجاهًا نحو الهاوية، ونحو الانهيار. وكلما أدركنا أهمية الخروج من هذا الوضع الذي تجمد فيه الفكر، وخمدت فيه جذوة الإبداع، نجحنا في تجاوز أزمة الجمود الذي نرزح فيه، وفي التخلص من حالة الاحباط والانهيار الذي نشعر به!
إن إطلاق حرية التفكير والإبداع، يعني ببساطة الرغبة في التقدم والأخذ بأسبابه على كل الأصعدة، وفي كل الاتجاهات. ويبقى أن يشعر الجميع بأهمية أن نتفاعل مع الأفكار والآراء والنظريات الجديدة بشكل إيجابي ودون وصم المفكر أو المبدع وتصنيفه واتهامه. فلقد خلقنا الله أفرادًا، أي أن كل فرد له عقل يخصه، وكل عقل له بصمة فكرية مختلفة سواء في إبداء الرأي أو في طريقة تقبله لآراء الآخرين. ومن ثم علينا أن نؤمن كأفراد وكمجتمع بحق الجميع في التفكير بحرية، وفي بلورة نتاج هذا التفكير بأي صورة من صور الإبداع المكتوب أو المسموع أو المرئي. وعلينا أن نتفاعل مع كل ذلك بإيجابية ودون وضع القيود هنا وهناك مادام الجميع ملتزمين بالقيم السامية للمجتمع، ومحافظين على عدم المساس بالثوابت الإيمانية. وحتى إذا كانت هناك بعض الآراء التي تخالف ذلك، أو تتجرأ على قيم وثوابت المجتمع، فلنناقش أصحابها، ولنجادلهم بالتي هي أحسن، فصاحب الرأي بطبيعته يؤمن بأن الحقيقة حمالة أوجه. وأنه برأيه ليس إلا أحد هذه الوجوه للحقيقة في أي موضوع مختلف حوله. إن إتاحة الفرصة للاجتهاد في الرأي وتقبّله سواء بالقبول أو حتى بالرفض، يعد شرطًا جوهريًا وحيويًا لصنع التقدم في الحياة الإنسانية. وعلينا دائمًا أن نُشعر من «فكر» وعبر عن فكره بأنه أحسن صنعًا، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا حول ما يقول. ففي هذا التشجيع للفكر وللمفكرين، تكمن حيوية المجتمع وتظهر مدى قابليته للتطور والتحديث.