مختارات من:

قنبلة يسمونها القلب

بديع حقي

قصة قصيرة


كان الباص الذي استقله عبدالهادي سليمان غانم- وهو فلسطيني من مخيم النصيرات- يدرج مسرعاً تارة, مستأنياً تارة أخرى, في الطريق اللاحبة ما بين تل أبيب والقدس, متوغّلاً في الشعاب الملتوية, الصاعدة.

وخضع قبيل أن يستقل هذاالباص لتفتيش دقيق قام به جندي إسرائيلي كان ينتصب أمام الباب, جهماً, مقطّب الجبين, أوكل إليه مهمّة تفتيش جيوب العرب ممن آثروا ركوب الباص, والتحقّق من خلوها وفراغها من أي آلة حادة أو قنبلة يمكن أن تنفجّر بكل الركاب أو ببعضهم, وقد لوّح له الجندي بإشارة من يده مختصرة, واشية بالعصبية ونفاد الصبر, سامحة له بدخول الباص, بعد أن تغلغلت يده المنقّبة في جيوب ثياب عبدالهادي اللبيسة, وتحققت من فراغها.

وكان عبدالهادي الراكب العربي الوحيد من بين راكبي الباص, فبدا, في مجلسه القريب من مكان السائق, نشازاً ظاهراً وحيداً بينهم, بسحنته وقيافته وصمته المتصل, إلى جانب اللغط اللاهج بالعبرية الذي كان يخلص إلى سمعه أشبه بعش دبابير هائجة, أو أشبه بسكاكين تشحذها البغضاء المتبادلة, فيما هي تمرّ كمنشار فوق أعصابه المتوفّزة, وتعمل على تقطيعها وفرمها. وكبت عبدالهادي غيظه, فيما هو يجيل نظراته فيمن حوله, يلخصون بلاء مواطنيه العرب كافة. وتداعت إلى ذهنه, فجأة, صور مؤسية, قاتمة, تجلو جنازات لداته من شباب الانتفاضة, فيما هي تتنقّل, متعثّرة بين المقابر, مشفوعة بأصداء البكاء الموجع, المتردد, حسرة على الشهداء. وتمثّل الدموع الساجمة, تتجمّع قطرة, قطرة, وتتحدّر إلى الأعناق لتغيب في منفسح الصدور.

وفجأته رغبة عارمة, في البكاء, لكنه زجر دموعه المترقرقة في موق عينيه, فما يريد, الآن, أن يفصح عمّا يجيش في صدره من مشاعر, أمام أعدائه حواليه, ممن سلبوا شعبه, أرضه وأمنه ومصيره, ولكنه لم يستطع أن يصدّ عن خياله الجامح صوراً خلابة, جاثمة, تمثل فيها شبح الحاخام (كاهانا) وهو يصرخ, مرغياً, مزبداً, مطالباً بطرد العرب كلهم من أراضيهم, لتستبد بها خفافيش الصهيونية الظامئة إلى مزيد من الدم الطاهر, المهراق.

ورفّت في ذهنه المضنى, أسراب الحجارة المتطايرة التي كانت سواعد لداته الفتيان تشولها, ترشقها, على سيارات الجنود الإسرائيليين فترتفع عالياً ثم تتهاوى متساقطة, لا بفضل جاذبية الأرض وحدها- كما فسّر له معلمه في المدرسة, ذات مرة- بل لتضاف إلى كيانها المتماسك, ذرات من الثورة العارمة, تشدّها, تجذبها, تنحدر بها, لتصمي أهدافها البغيضة, القائمة رموزاً للشر والأذى.

وشعر عبدالهادي أن عضلات جسمه المتوترة, لاتزال تدخّر شحنة كامنة من القوة, راسمة في خياله المشبوب, مسنح الحجارة المتهاوية التي تقاوم الرصاص الشرس, لا بل إن الحجر الصلد ربما كان أقوى من الرصاص وأبقى, لأن مهمّة الرصاص تنطفئ وتنتهي, إمّا انطلق من البندقية أو الرشاش, في حين يبقى الحجر بكيانه المتماسك سليماً, وهو يتنقّل من يد إلى يد, قافزاً, متوثباً, ليصيب وجه العدو الإسرائيلي المتربّص له.

وكان هدير عجلات الباص الذي يلتهم الأرض, يسري في شرايين عبدالهادي, مماثلاً لمرجل يفور غضباً وأواراً, مذكياً في حنايا قلبه ناراً متأججة, متسمّرة, تود أن تحرق جميع هؤلاء الركاب ممن كان يخلص إلى سمعه ثرثرتهم السقيمة ولغطهم الكريه.

وتلخّص, فجأة, في خاطره كلّ ما تناهى إلى سمعه من قبل, عن اضطهاد هؤلاء الذين يسيمون شعبه, مرّ العذاب, برزت من خلال ذلك صور عنيفة, عتية, هيمنت عليه وأثارت في أوصاله رعدة متصلة, لم يعرف كيف يداريها ويبعدها عن مخيّلته المرهفة المتوفّزة, وتمكن, بعد لأي, من أن ينأى بها, متلهياً بمشاهدة الطبيعة المتجلية, المترائية, من خلال زجاج الباص, الشفّاف الذي يحجزها عنه, قريبة من شغاف قلبه الخفّاق, عاكساً في صقاله المليس صوراً لا تني تهتز, مرتعشة, وتشف عن أسراب طيور تترى, مرفرفة على الأفق البعيد, تمتزج فيها صور طبيعته الخلابة, مختلطة, بخيالات الأشخاص الجالسين حوله, هنا وهناك من هذا الباص, كأنها خيالات حلم عابر, ثم تتماهى مترجرجة, مدانية رءوس بعضهم إلى بعض, وهم يلهجون بثرثرتهم الصاخبة, العقيم, وتمنى في ذات نفسه, أن تنسلخ خيالات هؤلاء الأشخاص, عن صور طبيعته لتخلص وحدها, إلى عينيه, نقيّة, نقيّة, من دون أن يعكّرها مرأى الرءوس اللاغية المتدانية, البغيضة.

وخيّل إليه أن مناظر الطبيعة تنكفئ متراجعة, بمقدار السرعة الموصولة بعجلات الباص, التي كانت تدور, متعجلة, وكأنها تلتهم الطريق المنفسحة أمام عينيه الظامئتين, وهما ترتشفان كلّ ما يصافح بصره من مغاني طبيعته الساحرة. أجل, إنها تتزيّن وتكتسي لباسها المحبّر, المخضوضر, من أجل عينيه وحدهما فحسب, لا من أجل عيون هؤلاء الذين احتواهم هذا الباص, ولفظتهم, في الواقع, آفاق غريبة أخرى من البلاد, ليزعموا, الآن, أنهم هم أصحاب هذه الأرض المقدسة الغالية التي يخبّ فوقها هذا الباص اللعين.

إنها أرضه الحبيبة التي تفيّأت طفولته الهانئة بظلال أشجارها الممرعة, أمام منسرح نظره, المتطلّع, وظلت ألوان أزاهيرها تفوّف خياله وأحلامه, وسيبقى عمره كلّه منتشياً بنفحات شذاها الساطع, العبيق.

كان لغط الركاب حوله وهم يلهجون بالعبرية, يقرع سمعه ممجوجاً, كريهاً, كأنه ستار صفيق, أسدله القدر القاسي, لينغّص عليه متعته الحلوة, فيما كان بصره ينفض مرابع طفولته وملاعب صباه, واقتحمت حسرة مضنية صدره, فغمغم, مناجياً نفسه:

- آه, ليتني كنت أحمل قنبلة لأفجّرها, في وسط هذا الباص لأقضي على ركابه جميعاً, منتقماً, آخذاً بثأر الشهداء ممن سبقوني, مضحّين بأرواحهم, من أجل أرضنا المغتصبة, الملتهبة.

بيد أنه لا يملك, في الواقع, سوى ساعديه القويين, المفتولين, اللذين يستجيبان للثورة المتّقدة, المضرمة في إهابه, تغريه, تدعوه, تلحّ عليه بأن يهجم على مقود الباص, حين يقترب من منعطف خطر, يستشرف وادياً عميقاً, يعرفه جيداً, لكثرة ما مرّ في هذه الطريق الصاعدة, واجتازها من قبل, لينحرف الباص بمن فيه, إلى القاع السحيق من الوادي, وليكن بعد ذلك ما يمكن أن يكون, إن قُدّر له أن يموت, شهيداً صريعاً بين القتلى, وتكتب له الشهادة.

الحسرة وحدها, غير كافية لإرضاء نزعته الغلاّبة إلى الشهادة, ولكنها جعلت تتغلغل في مطاوي صدره الخفّاق, باسطة أناملها الخفية, شيئاً فشيئاً, مستلّة آهات متردّدة, نسمت على شفتيه المضمومتين, بيد أنه كظمها أسفاً, لأن أمنيته بدت مستحيلة, إذ لم يكن يحمل قنبلته المرجوّة, وعاودته تلك الصورة العتيّة, المهيمنة التي سنحت في باله من قبل, فتذكر ما رواه له أحد أصحابه كيف هجم جندي إسرائيلي مماثل لذئب ضار, على طفل عربي, حاملاً هراوة غليظة, مهدداً هذا الطفل, ليحمله على الإدلاء باعتراف يدين أباه أو أخاه أو أحد لداته, ممن دفعوه إلى رشق الجنود الإسرائيليين بالحجارة, وتراءى الطفل المسكين, وكأن الخوف قد ألجم فاه, فأصرّ على الصمت, وكان الدواء الناجع في مثل هذه الأحوال, هو ما يمكن أن تجثم في الهراوة من ضربات موجعة, حتى تنحلّ عقدة لسانه. هكذا انهدّت الضربات الحاقدة, على رأس الطفل وكتفيه وظهره ورجليه, تريد أن تنتزع اعترافه المرتجى, المرتقب, والطفل البريء يبدو عاجزاً عن الكلام, متقياً براحتيه المرتبكتين شبح الهراوة المرعب التي تودّ أن تطحن عظامه طحناً, والدم يشخب, ملتوياً من رأسه ويديه وأنفه, وظلت الهراوة العتية تنهال عليه, فلم يصدر عنه سوى ما يمكن أن تنفضه فريسة مستسلمة من أنين خافت, مكتوم. لا, لا, لا يريد الطفل أن يتكلم.

ولكن ها هي ذي أمه تخف إليه, منجدة, مولولة, وترتمي فوقه, لتحميه بجسمها, وتدرأ عنه الضربات الموجعة, كاللبوة المزمجرة, المدافعة عن شبلها الجريح, بعد أن أضحى شلواً ممزقاً, دامياً.

عبثاً كانت تحاول, فللهراوة شحنة من الأذى, ينبغي أن يستنفدها الجلاد, ولساعده حدّ من الطاقة ينبغي أن يستشرفه, قبل أن يشعر بالإرهاق.

وتراءى الجلاد أخيراً, كما لو أنه فهم بعض الشيء من أم الطفل, فيما هي تذود عنه, بجسمها, الضربات المتداركة, أن ولدها لا يستطيع أن يفصح بشيء مما يبغيه الجلاد من اعتراف, لا لأنه يريد, بصمته, أن يحمي أباه أو أخاه أو أحد لداته, بل لأنه أصمّ, أبكم, وهاهي ذي أمه تمسح ما انتضح من دمه وسال, بمنديل صبيغ بحمرة الدم, وتحاور طفلها بإشارات من يدها, واشية بأنه أخرس عاجزٌ حقاً عن الكلام, فهو يجيب بحركات مماثلة من يديه المتورّمتين, الداميتين.

هكذا ضاعت هباء, كل الضربات الموجعة التي انهالت على الطفل الأخرس الأبكم.

ومع ذلك, فقد تراءى الجلاد مرتاحاً, بعد أن تحقّق من عجز الطفل عن الكلام, وكأنما كان يتجاذبه, مع ذلك, الأسف والرضا, في آن.

الأسف لأن ما يريد انتزاعه من الطفل الأبكم غير ممكن, والرضا لأن ضربات الهراوة لم تذهب عبثاً لا طائل منها, فقد فثأت سورة غضبه وأرضت كوامن حقده.

الوحشية الإنسانية, فنانة شريرة, في تذوّقها لأنماط القسوة, فهي تبذلها جملة تارة, وتسخو بها تفاريق تارة أخرى, وينهض سؤال مرير: ترى أيكون هذا الجندي الإسرائيلي إنساناً?

***

وشعر عبدالهادي, فيما كان يستعرض, في ذهنه, هذه الصورة الجارحة, الضاربة, عن الإنسان/الوحش, كما لو أن قوة خفية, تجتذبه, ليغادر مقعده القريب من مقعد السائق, متمهلاً, منسرق الخطا, أجل, لقد تذكر, فجأة, أن المنعطف الخطر الذي يستشرف الوادي العميق, هو جدّ قريب, فانحرف بغتة, وانهدّ ساعده على مقود الباص المطمئن بين راحتي السائق, كما لو أنه صاعقة منقضّة من السماء فجأة, وحرف المقود في غفلة من السائق المخبول, المذهول, ليتدهدى الباص بمن فيه, ويتهاوى من حالق في وهدة سحيقة, عميقة.

هكذا تردّى الباص, منقلباً عدة مرات, قبل أن يستقر على ظهره, فأضحى مرآه أشبه بسلحفاة منكفئة على ظهرها, تحاول عبثاً أن تمشي على بطنها. وعجلات الباص تدور, تدور, في الفضاء.

وخلص إلى سمع عبدالهادي, أنين الجرحى, مختلطاً بصرخاتهم, وشعر بألم شديد يخزّه في صدره. ودهمته غبطة منتشية جاذبت عطفيه, أجل, لقد عرف كيف ينتقم ويثأر لشهداء وطنه من أعدائه.

وسحبه الناجون من الباص وهو جريح, مغمى عليه, وفي المستشفى الذي نُقل إليه- مشفوعاً بحراسة مشدّدة- علم أن من قضوا في انقلاب الباص بمن فيه, بلغ أربعة عشر قتيلاً.

وخالجته الحسرة بأن انقلاب الباص لم يقض عليهم كلّهم, وأنه لم يمت شهيداً بينهم. وأنه ليقدّر, مع ذلك, أن دار أبيه في مخيم النصيرات سوف يقتحمها البلدوزر الإسرائيلي, ويهدمها من دون رحمة, وأنه بسبيل أن يتعرّض للتعذيب المرعب, الرهيب.

وغصّت عيناه بالدمع, فيما هو يتذكر أمه وأباه وإخوته يبكون عليه وعلى مصيره راثين, مشفقين. ومثُل في وهمه أن طيف أمه يحنو عليه, وتمثّلها وقد هدّها الحزن, متوقعاً أن كلماتها ستترفّق من شفتيها, ملوّعة, حزينة, مغمغمة بصوت خفيض:

- كان الله في عونك يا حبيبي.

لا, لن تعاتبه على عمله الذي حمل الطغاة على هدم بيته, إنه يعرف أمّه جيداً, ومن يدري لعلها أن تبارك عمله البطولي, معتزة, مباهية, وتقول له:

- إنه مقدّر علينا يا حبيبي, فلا تهتم أبداً, واصبر إن الله مع الصابرين.

وتخيّل عينيها المحمّرتين تفيضان بالدمع, دمعة في إثر دمعة, متحدّرة إلى وجنتيها المغضنتين منزلقة إلى فكّها الأسفل, يرتعش, مشفياً على البكاء.

لا, لا, لن تهزّ رأسها معاتبة, مغاضبة. بعد أن يقوّض البلدوزر البيت الذي كان يؤوي أولادها, غير أنه يصرّ على أن يفسّر لطيفها الحاني عليه, علام أقدم على عمليته الفدائية, متعلّلاً, معتذراً أسوة بكل رفاقه الشهداء, ممن بذلوا أرواحهم فداء لفلسطين, ونفضوا لأمهاتهم أعذارهم التي سوّغت أعمالهم الجريئة, البطولية, فيما هم يجودون بأنفاسهم في رمقها الأخير:

- يُمّه, دخيلك يا يمّه, اعذريني, قمت بهذا العمل من أجل فلسطين, دخيلك يا يمّه اعذريني.

وتصورها تهز, من ثم, رأسها راضية, موافقة, ولكن قلبها سيظل قلقا خائفا على ابنها خشية أن ينكّل به الصهاينة, ويمثّلوا بجسمه الغضّ, ولعله يقدّر أنهم ربما قطّعوا لحمه, إرباً, إرباً, مدّعين أنه انتحر, حتى يفضوا إلى قلبه الحبيس بين ضلوعه, ومن يدري? ربما يحور قلبه إلى قنبلة موقوتة, تكمن خبيئة, مترعة بالدم والحياة, في صدره, إلى قنبلة يسمّونها القلب, لعلها أن تنفجر, كما يأمل, ممزّقة, محطّمة, لتودي بالطغاة العتاة, كلّهم, كلّهم.

بديع حقي مجلة العربي سبتمبر 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016