مختارات من:

كمال يوسف الحاجّ (1916-1976) مفاهيم مغايرة للقوميَّة والأُمَّة

فكتور الكِك

إنه شخصية لبنانية وعربية ثرية الجوانب. اختلط فيها الحس الوطني بالمعنى الفلسفي، وشهد صعود الحلم العربي وهبوطه أثناء الحرب الأهلية في لبنان.

ولد في المغرب، يوم 17 فبراير 1917، في مدينة مرّاكش.

تنقّل في صباه بين المغرب ومصر لصداقة والده الشخصيّة للملك فؤاد، وللأسرة المالكة السعوديّة، ولخزعل خان أمير المحمرَّة.

كان الوالد، يوسف بطرس الحاج، كاتبًا أَصدر صحيفته الأولى في باريس وأتبعَ بها أخرى في دمشق، وثلاثًا في لبنان. قرض الشعر، كذلك، بالفصحى واللبنانيّة، وبرز خطيبًا مفوَّهًا في عدد من الأقطار العربية. ولما كان يعود بنسبه إلى آل الهاشم من العاقورة، فقد أسّس مع نسيبيه الأبعدين الشاعرين الكاتبين أمين نخلة ويوسف غصوب الرابطة الهاشميّة.
مساره الفلسفيّ: المرحلة الأولى

بدأ الكتابة الفلسفية عام 1940. وما إِن تخرّج مجازًا في الأدب العربيّ عام 1946 حتى كان أنجَزَ ترجمة كتاب برجسون الشهير: رسالة في معطيات الوجدان البديهيّة. وقد حفزته الصعوبات التي صادفها في نقله إلى العربية للتعمّق في معضلة اللغة، فأصدر عام 1956 كتابه المحوريّ الأول: فلسفة اللغة. وكان سبق ذلك حيازته الدكتوراة في الفلسفة من جامعة السوربون في أواخر العام 1949 بعنوان قيمة اللغة عند هنري برجسون.

في مطلع 1950، درّس الفلسفة في معهد الآداب العليا الفرنسي، وفي الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة.

وفي العام 1956 شرع يدرّس في جامعة الروح القدس بالكسليك. وكان قد زاول التدريس بالعربية في الجامعة اللبنانية التي أسست عام 1951 المعهد العالي للمعلمين. وفيها تولّى رئاسة قسم الفلسفة من 1957 إلى 1974 وعمادة كلّية الآداب بالوكالة من 1969 إلى 1971.

كما شهد العام 1956 صدور كتابه المحوريّ «فلسفة اللغة» الذي تعتع الأوساط الفكريّة يومذاك. ففي طبعته الثانية عام 1967 كتبت جريدة «النهار» تقدّمه:

«منذ - دلائل الإِعجاز- و-أَسرار البلاغة- للإمام عبد القاهر الجرجاني (المتوفى 471 هـ) لم يظهر في اللغة العربية كتاب تناول معضلة اللغة في مَدَواتها الفلسفيّة كالذي وصفه الدكتور كمال يوسف الحاج... الشيء الأكيد هو أنّ كتاب -في فلسفة اللغة- يعتبر أقوى دفاع فلسفي يلقيه مفكر لبناني عن اللغة العربيّة... وقد جاء بمثابة قاعدة لإحياء حركة فلسفيّة تكون اللغة العربية قالبها الأوحد».

ولا غرو، إذ إنّ «فلسفة اللغة» هو الركن الذي بنى عليه كمال الحاج فلسفته وأُسس «فلسفاته» الأخرى. وكان صدر له قبل ذلك:

فلسفة الأُمّة والقوميّة (1957)،
تعادليّة الجوهر والوجود (1958)،
الأُمّة العربيّة (1959)،
القوميّة اللبنانيّة (1961)،
فلسفة الميثاق الوطني (1961).
المرحلة الثانية:

بين 1961 و1966 موعد صدور رسالته التوضيحية الموجّهة إلى ميشال أسمر مؤسّس «الندوة اللبنانية» ومديرها بعنوان «في غرّة الحقيقة» أنتج كمال الحاج ستّ محاضرات وترجمة كتاب «تأملات» لديكارت. مع «في غرّة الحقيقة» شرَّع الحاج الرتاج الثاني لهيكله الفلسفي، وكان ذلك مخاضًا لتكامل فلسفته بمحوريّة أخرى هي «الفلسفة اللبنانيّة» التي أُسيءَ فهمها فغشي فؤاده منها ما غشي فؤاد المتنبّي من النّبال وأَدَّت، في غباء من الذين أساءوا فهمها، إلى اغتياله.

قامت الحرب على فكره قبل ذلك قبيل نكبة الخامس من يونيو 1967، حيث اختلطت عصبيّات القوميّات في العالم العربي لا سيّما في لبنان، فإذا بكمال الحاج يحدّد معالم تلك المرحلة بمؤلفات من مثل: الإنسان في أبعاده الثلاثة (1966)، خطر الصهيونية (1967)، المسيح سيّدًا للتاريخ (1968). ففي أواخر 1966 افتتح كمال الحاج سلسلة دروس جامعية في الفلسفة اللبنانية في رحاب جامعة الروح القدس، وكان ذلك مقدّمة لمعركة إدخال مادة الفلسفة اللبنانية في برامج قسم الفلسفة بكلية الآداب في الجامعة اللبنانيّة الذي كان يرأسه. كانت الجامعة اللبنانية تضجّ بصراع القوميّات والتوجّهين اللبناني الاستقلالي والعروبيّ الاشتراكي الشموليّ، وبينهما التوجّه السوري القومي الاجتماعي، في حين كانت إسرائيل تتحفّز للانقضاض على لبنان برمَّته. وما أشبه هذا السيناريو في مسرح اللامعقول بمشهد البيزنطيين يتعاركون حول جنس الملائكة، فيما كانت جيوش العثمانيين تتقدّم نحو القسطنطينية.

في غرّة تلك المعمعة، قام كمال الحاج بمغامرة إنقاذيّة لإخراج لبنان من تلك الدوّامة بطرح فلسفته اللبنانيّة التي ينتهي مصبّ نهرها في بحر الأمّة العربيّة، وكذلك قوميّته اللبنانيّة، وعماد كلتيهما اللغة العربيّة التي آمن بها لغة تنزيل حيّة لا نظير لها في العالم. ومع ذلك، قُتل كمال الحاج! إلاّ أنّ مرحلة ما بعد ميثاق الطائف أثبتت نصاعة توجهاته وإخلاصه للبنان ولأمته العربية اللذين بذل دمه في سبيلهما.

نعود إلى مرحلة كمال الحاج الثانية لنقول إنه أَنتجَ خلالها كتابين وأربع محاضرات: حول فلسفة الصهيونية (1967) وبين الجوهر والوجود أو نحو فلسفة ملتزمة (1971)، مبيّناً أنّ الفلسفة لا تقبع في برج عاجي بل هي تعايش الناس وتلتزم السياسة والمجتمع. أمّا المحاضرات فدارت حول عنوان واحد: «لبنان في اللهب، هل يحترق؟». في هذا الصدد، أوضح نجله الدكتور يوسف مسار الحاجّ بما يلي:

«منذ تلك السلسلة، ازداد تشديد والدي على لبنان الواجب أن يكون، على لبنان الغد، على لبنان التاريخ، وهي عناوين مختلفة للبنان واحد: لبنان الرسالة. الحاجّ تكلّم على رسولية لبنان، وعلى لبنان الأكثر من وطن، عشرات السنين قبل البابا يوحنا بولس الثاني. هل هي المصادفة أن يموت هذان الخالدان في اليوم نفسه، في الثاني من أبريل؟ ربما في ذلك إيماءة من فوق إلى وجوب رعاية الأُعجوبة اللبنانية دون هتك سرّها» (راجع الصفحة 129 من الكتاب التذكاري: كمال يوسف الحاج، بعد ثلاثين؛ 2 أبريل 2006).

وكان عهد الحاج الفلسفي الثالث الذي لم ينته باستشهاده. غابت أمور كثيرة لتبقى «الفلسفة اللبنانيّة» التي كان عليه أن ينزلها منزلتها في تاريخ الفكر الإِنسانيّ، في اثني عشر مجلّدًا ضخمًا بعنوان معالم الفكر الإِنساني. وكان هدفه من تلك الموسوعة

«أن نلبنن الفلسفة باللغة العربيّة لنفلسف لبنان في عالم عربيّ ينتفض» (ذاته، ص 113).

إلاّ أنّ الحرب على لبنان - الحرب الأهلية - التي هدفت إلى تدمير الدولة - سياسةً واقتصادًا ومجتمعًا - كان هدفها الأعظم خبثًا تدمير الفكر اللبنانيّ الحرّ لأنّه إدانة لمن وقفوا وراءها وأكبر خطر عليهم. وقد حسب هؤلاء وأدواتهم أنهم، باغتيال فيلسوف لبنان كمال يوسف الحاج، يقضون على لبنان الفكر ولبنان الرسالة، وما دروا أنّ حبّة الحنطة التي يزرعها المؤمن المتعبّد المتهجّد مثل الحاج يكون حصادها ملايين السنابل تلوّحها شمس لبنان بذهب الخلود.

استشهد كمال الحاج في 2 أبريل 1976، ولكنه قهر الموت مرّتين، مرّة بفلسفته اللّغويّة اللبنانيّة العربيّة الخالدة، ومرّةً بإيمانه الفذّ العرفانيّ الذي رفع الأرض إلى السماء. وإنّي لعلى يقين - من منطلق رفقتي له - من أنه، وهو يسلم الروح، تمتم كلمات «سيّده» ابن «مريم»:

اغفر لهم، يا أبتاه!
فإنهم لا يدرون ما يفعلون...

انطلق الحاجّ من الأصول، فطوى الزمان إلى سحيقه ألوفًا من السنين يستنبشه كنوز الرِّواقيين اللبنانيين ممّن اختاروا اليونانية لغة تعبير فلسفي عالمي، فاذا به يعود بجواهر فكريّة يزفّها إلى لآلئ حاضرنا الواعد.

العهود الفينيقيّة - اليونانيّة والرومانيّة و«المارونيّة».

وكما استنبش الحاجّ كنوز الرواقيّين الفينيقيّين، استنطق الأبجدية الفينيقية. فإذا الحرف، عنده، «أسمى أفاعيل التجريد التي يقوم بها العقل. هو «أَلجِبْرا» الفكر الإنساني». ولما كان «التحليل الذهنيّ للأفكار يصل، في نهاية المطاف، إلى أنه لا يوجد شيء وراء الفكر فإن الكلمة، التي تكون قد رسمته على القرطاس»-والمقصود بواسطة الحرف- فقد استنتج مكتشف الفلسفة اللبنانيّة «أن الشعب التاجر (مكتشف الأبجدية) هو شعب فيلسوف أيضاً»، والمقصود «الذهن المتاجِر لا السلع المتاجَر بها».

فإذا أمسكنا، بعد ذلك، بسبحة الفلسفة المتضمّنة أسماء الفلسفة الحسنى منذ فجر الفلسفة، ألفينا أول اسم فيها طاليس الفينيقيّ. وإن نحن قفزنا إلى أرسطوطاليس الذي به انتهى دور من أهم أدوار الفلسفة القديمة، رأينا الرواقيّين اللبنانيين ينحون بالفلسفة منحى جديداً، فيحوّلون «البحث عن المسائل الطبيعيّة والجدليّة إلى ما يهم الإنسان في معيشته». وإذ حمل زينون الفينيقيّ، كما كان اليونانيون يدعونه، لواءها، فإنه تحمّل بذلك مهمة سعادة الإنسان في الحياة الدنيا. وتتوالى حبات السّبحة الفلسفية حاملةً أسماء فلاسفة لبنانيين كانوا حاضرين في بدايات الفلسفة اليونانية المزعومة وصولاً إلى نهاياتها: أنتيباطر الصّوريّ، بيوثس الصيداوي - وهما اثنان باسم واحد، أنتيباطر الصيداوي- ديودوروس الصوري، أدريانوس الصوري، سَنْخونياتن، موكوس أو موسكوس، فيلون الجبيلي، مارينوس الصوري، وسواهم.

لم يتوقّف الفكر اللبناني عن التوقّد والإبداع بعد الحقبة اليونانية. وكيف يكون ذلك و«الأعجوبة اللبنانية هي في أساس الأعجوبة اليونانية» كما يقول كمال الحاجّ؟ ففي العهد الروماني أعطت بيروت أحسن تراثات العالم: الشرائع الرومانية التي تميّزت بالجمع بين العرف والمنطق. وفي مجال التشريع المبتكر هذا الذي أسّس لتشريعنا الحديث، برز لبنانيون صنعوا مجد روما والعالم المتمدّن: إِميليوس بابنيانوس ودوميثيوس أُولبيانوس. أمّا في مضمار الخطابة التي شكّلت الركن الآخر لثقافة الرومان، فقد لمع اسم ليبانوس (314-293 م)، واسم أوريانوس الصوري، شاغل كرسي البلاغة في أثينا. أمّا في مجال الفلسفة الأفلاطونية الجديدة التي سادت المملكة الرومانية، فثمة اسمان لبنانيان بارزان: فورفوريوس الصّوري أو -ورفيروس (المولود في صور عام 232 م) الذي غدا، بعد وفاة معلّمه أفلوطين، زعيم الأفلاطونية الحديثة، ويمبليخوس العيطوري تلميذ فرفوريوس.

وقد تتّبع كمال الحاجّ مسار الفلسفة اللبنانية الطويل عند ظهور المسيحية، وخلال عصور الخلافة العربيّة الإِسلامية، وصولاً إلى العصر الحديث. وبيَّن ها هنا أنّ انفتاح لبنان على العلوم الفلسفية سابق لحملة بونابارت إلى مصر عام 1798، وذلك عن طريق الكلّية المارونية في روما التي قامت بفضلها أول نهضة فلسفية في لبنان بل في الشرق العربي كلّه. وتناول الحاجّ بأسلوب منهجيّ إسهام اللبنانيين في الفكر الفلسفي، عبر آثار البطريرك الدويهي (1630-1704)، والخوري بطرس التّولاوي (1655-1745)، والقسّ إسطفان ورد (1700-1745)، والخوري عَمّانوئيل فضل (1878-1908). هؤلاء قال فيهم صاحب الفلسفة اللبنانية ما يلي: «هؤلاء تفلسفوا على قدر ما كانت الظروف تسمح لهم يومذاك».

تناول كمال يوسف الحاجّ في سفره الجامع مسار الفكر اللبناني، غبّ ذلك، في آثار أدباء النهضة العربية الحديثة في لبنان، ومفكّريها، وشعرائها في الوطن الأم وفي المهاجر الأمريكية، ورسم معارجه حتى العام 1974، تاريخ نشر كتابه المؤسس، مرورًا بجبران والريحاني والشميّل والحوراني ورشيد رضا والجسر، وقبل ذلك بالأوزاعي. وتوجّه، بعد ذلك، إلى تقديم فلسفته الخاصة في المنهجية، وفي اللغة الأم التي هي العربيّة، وفي القوميّة اللبنانيّة والأمّة العربية، ثم في الفلسفة والإنسان إطلاقًا. وسنتناول بإِيجاز كلاً من هذه العناوين في فلسفته.

فلسفة اللغة

كتاب «بين الجوهر والوجود أو نحو فلسفة ملتزمة» هو ركن المنهجيّة التي اعتمدها كمال الحاجّ في مذهبه الفلسفيّ. وهو يعترف فيه بأن أولى المعضلات الفلسفيّة التي جابهها في حياته كانت معضلة اللغة. عالج الحاجّ هذه المعضلة في مجموعة من الكتب والرسائل والمحاضرات، فكانت شغله الشاغل. وانتهى، انطلاقًا من نشأته الخاصة على ازدواجية اللغة زمن الانتداب الفرنسي، واشتغاله بترجمة الفلسفة من الفرنسيّة بالعربيّة، إلى أنّ الإنسان ذو عفوية لسانيّة واحدة. وشعر، بعد تجاذب صراعي طويل، بتوقيفيّة اللغة الأم. عندئذ أدرك أن لا فلسفة لبنانيّة خارج اللغة العربيّة، ولا إبداع حقيقيًّا خارج اللغة الأم. ومصطلح اللغة الأم نحت من إِبداع كمال الحاجّ، وقد قوبل بغرابة كبيرة ما لبثت أن زالت بعد عشرين سنة. في هذا السياق، فجّر كمال الحاجّ أطر الاستعمال اللغوي تلبية لحاجات التعبير الفلسفيّ، مراعيًا أوزان الأَفعال العربيّة في صلب عبقريّة العربيّة، فابتكر وزن فَعْلَنَ، وولّد منه أفعالاً فلسفية شتّى، مثل: شخصنَ، أنسنَ، نفسنَ، جسمنَ، قَوْمنَ، زمكن، إلى آخر سبحة الاشتقاق. كما أنه لم يتنكّب عن استخدام بعض الألفاظ العاميّة ذات الدلالة التعبيريّة الدامغة تدليلاً على أن الفلسفة غير غريبة عن واقع الإنسان. كما استعمل الحاجّ مصطلحات معجميّة لمعان مغايرة لمعانيها الأصلية، «وذلك بدافع من الذهن المتفلسف ذي المقتضيات التعبيرية المختلفة عن مقتضيات الذهن المتأدب».

فلسفة القوميّة

معضلة اللغة وضعت كمال الحاجّ وجهاً لوجه حيال معضلة القومية. وانتهى بحثه فيها إلى أنّ «الإِنسان كائن قوميّ كما هو كائن إِنساني»، وأنّ القوميّة هي وجود سياسيّ كما أنّ الوجود السياسيّ هو قومية. والحاجّ يقصد القومية الإنسانية لا القومية العنصريّة، فالأولى جزء من كلٍّ مطلق. وزبدة كلام الحاجّ أن الانسان كائن قوميّ لا يدرك إِنسانيته إلا بالانضواء في قوميّة واحدة هي التي يكون القدر قد فرضها عليه. وقد قعّد كمال الحاجّ جدليّة القوميّة والكيان السياسيّ على مبدأ فلسفي خلاصته أنّ «جوهر الحقيقة تحقيق في وجود. كذلك جوهر القومية أن تتحقّق في وجود الدولة فكل قومية لا تتحقق في دولة ليست بقوميّة. إنها من باب الأمنية». وبعد أن ميّز، في تحليل فلسفيّ دقيق، بين الشعور القومي والقوميّة، انتهى إلى أنّ «المجتمع القومي والدولة صنوان، وإِلاّ عجز المجتمع القومي عن الاستمرار حرًّا». وهنا، يصل، بعد مناقشات متماسكة، إلى النتيجة الكبرى حيث يقرّر:

«وعليه، فالقومية دعوة سياسية، أولاً وآخرًا، قوامها شعور جماعة من الناس أنهم ذوو شركة طبيعيّة إنسانيّة، فيما بينهم، وذوو حق لأجل التكتل، في وحدة سياسية هي الدولة... انطلاقًا من تلك الأيديولوجية، عرفت أنني قوميّ لبنانيّ، أنتسب إلى دولة لبنانية. عرفت أنه لا انسانيّة لي الاّ في القوميّة، إذن قوميتي هي القوميّة اللبنانيّة».

لكن هذه القوميّة اللبنانيّة، في نظر كمال الحاجّ، تقع في إطار الأمّة العربية. وبعد تحليل متدرّج ينتهي إلى القول:

«ثمة قومية لبنانية لا أمّة لبنانية. وأقول ثمّة أمّة عربيّة لا قوميّة عربيّة. بذلك أحافظ باعتبار المنطق على لبنانية لبنان كما أحافظ على عروبته في الوقت نفسه». وقال في العام 1959: «لبنان جزء من الأمّة العربية. خائن، بل مجرم، كلّ من يرمي القطيعة بينه وبينها. لبنان مركوز، عينًا، في قلبها. واذا بان للتاريخ أنّه ذو قيمة إنسانيّة، فلكونه يستمدّ معناه الأكمل من سقفه المتعالي، الذي هو العروبة». وقد أثبتت التجارب خلال فترات الحرب والسلم، على مدى ديار العرب، أنّ ما يقال في وضع لبنان من منطلق فلسفيّ تاريخيّ هو ما يقال في وضع بلدان عربية أخرى. فالواقع وتطوّر التجارب، في إِطار الجدلية التاريخيّة الديناميّة، جعلت الرئيس جمال عبد الناصر ينظر إلى هذا الأمر بعقلانيّة أوردها كمال الحاجّ في سياق تحليل طويل، فكتب:

«ولم يتنكّب عبد الناصر في أواخر عمره عن أن يستعمل كلمة «القومية المصرية» إلى جانب استعماله لكلمة «القوميّة العربيّة». قال، رداً على سؤال حول ازدياد الشعور بالوطنية المصرية، ما يلي: «قبل عام 1967 كان الشعور الأكثر ظهوراً هو الشعور بالقوميّة العربية. وبعد 1967 ظهر أيضاً الشعور بالوطنية المصرية إلى جانب الشعور بالقوميّة العربيّة. وأظن أنه معروفًا أنهم عرضوا علينا صيغًا تنصّ على الانسحاب من سيناء وحدها ولم يوافق أحد على ذلك، وهذا هو الشعور بالقوميّة العربيّة. والحقيقة أنّه ليس هناك تناقض بين الشعور بالقومية المصريّة والقوميّة العربيّة».

بعد كلام عبد الناصر هذا، يستشهد كمال الحاجّ بأحاديث وخطب لعبد الناصر، ثم بكلام لأنور السادات ومحمد حسنين هيكل ومعمّر القذّافي، وكلّها تفيد أن ثمّة مشكلة مطروحة بين مفهومي القوميّة والأمّة. عندئذ يقول متسائلاً: هل هذا يعني أنّ لبنان ليس عربيًا؟

ويعتبر كمال الحاجّ هذا القسم من بحثه الأهم والأخطر، لأن معضلة لبنان كامنة في مثل هذا السؤال، أي في المعنى الذي له، في معنى مبناه، أهو عربي أم غير عربي؟

يجيب الحاجّ: أسارع إلى القول بإن المعنى الذي للبنان هو معنى عربيّ، أنّ القوميّة اللبنانيّة هي جزء من الأمّة العربيّة. إذًا، يجوز لنا أن نتحدّث عن عروبة القوميّة اللبنانيّة، كما نتحدث عن عروبة القوميّة المصريّة، وعروبة القوميّة السوريّة، وعروبة القوميّة التونسيّة. وهذا يعني أنّ العروبة صفة أو جوهر لسانيّ، وأنّ القوميّة موصوف أو وجود سياسيّ.

مفهوم الأمّة

يتبسط كمال الحاجّ في شرح مفهوم الأُمّة، الذي تناوله بصورة غير مباشرة في كلامه على القوميّة، فيقول ما خلاصته: المجتمع يتركب من جسد وروح تمامًا كالإِنسان ذاته. إِنّه ثنائيّ البنية. جسده يتمظهر بالأرض، وروحه تظهر باللغة. القوميّة تأتي من باب الجسد، لأنها في حاجة إلى الأرض، التي تؤمن الحدود الجغرافيّة والموارد الاقتصادية، بينما الأمّة تأتي في باب الروح، لأنها في حاجة إلى اللغة، التي تؤمّن الإدارة المشتركة عبر التاريخ. إذًا، الأمّة هي روح القوميّة. هي عقلها الثابت مدى الزمان. هي نظرتها الفلسفيّة إلى الكون هي تعبيرها الحضاريّ ضمن الجوهر الإنسانيّ.

هذا المفهوم لدى كمال يوسف الحاجّ يوضح ماهيّة النتاج الحضاريّ-الفكريّ المشترك داخل الأمّة. إذ يؤكد، مرارًا وتكرارًا، أنّ اللغة هي العنصر المشترك الموحِّد، وأنّها هي التي تحدّد بلدان الأمّة العربية، تلك التي تتكلّم العربية لغةً أمّ، إذ بفضلها يستمرّ تراثهم ويتفاهمون على صعيد الذهن ويعبّرون عن أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم، يقول معلّلاً: «لذلك أتى الأدب القوميّ، في كل قطر، أدبًا عربيًا، الأدب السوريّ قوميّةً هو أدب عربيّ أمّةً. والأدب المصريّ قومية هو أدب عربيّ أمّة. والأدب اللبنانيّ قوميّةً هو أدب عربيّ أمّةً».

بين الأرض والسماء

في المرحلة الأخيرة من سفره الضخم، المسمّى بتواضع موجز الفلسفة اللبنانيّة، والذي شاءه مقدمة لسفر حياته الفلسفيّة الذي حرمته الشهادة في سبيل لبنان من تبيانه للبنانييّن والإِنسانيّة، يتناول كمال الحاجّ مسائل فلسفيّة إِنسانيّة. ويستدل من هذا التسلسل أنّه، بعد أن أشبع مفهومي القوميّة اللبنانيّة والأمّة العربيّة بحثًا وتنقيبًا، في سياق تطوّر الفلسفة اللبنانيّة بلغات عالميّة غير العربية ثم بالعربيّة، رقي إلى السدّة الإنسانيّة مرّة أخرى ليعرض في هذا الدور الحاضر فلسفته الخاصة الإِنسانيّة العامّة تمهيدًا لها.

الخاتمة: كانت خلاصة رائعة تفتح الباب لـِ«ظهور» فلسفة أرض ميعاده الصاعدة الهابطة، في اثني عشر مجلدًا، حملت عنوان «معالم الفكر الإنساني». وهذه الموسوعة كانت ستكون ملحمة فلسفيّة، لا تكتفي برحلة إلى الجنّة، أو الجحيم، أو العودة إلى الفردوس الضائع، على غرار العروج الفكريّ لأبي العلاء المعرّي ودانتي وميلتن، بل تصبو إلى الجمع بين الأرض والسماء! وستكون موضوع بحث آخر في فكر أستاذي في الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة، وزميلي فيها، حيث تعاصرنا في رئاسة قسم الفلسفة ورئاسة قسم اللغة العربيّة وآدابها، ورفيقَيْ نضال في سبيل لبنان والعروبة والإِنسانيّة.

حسبي، في هذا المقام، أن أشير إلى دقائق تمييزه، الشفّافة كروحه، بين المعرفة والحكمة، بين تكامل العالم الخارجيّ والكون الباطنيّ، سعيًا إلى الحقيقة التي تبقى مثالاً، واعتصامًا بالحكمة التي ندب إليها الإنجيل والقرآن اللذان تآلفا في شخصية كمال الحاجّ، كما تجلّيا في اعتباره، عبر بحثه ما قبل الأخير في «موجزه»، أنّ العربيّة لغة تنزيل علويّ، وأنّها، بذلك، «أمّ اللغّات». وقد التقى، في مفهومه للحكمة، تراثَيْ المسيحيّة والإِسلام، وأقطاب العرفان في الإِسلام، ولا سيّما جلال الدين الروميّ البلخيّ وحافظ الشيرازي الذي جعل من قلب الإِنسان الحكيم وديعة أسرار الغيب.

إلا أنّ ريادة كمال يوسف الحاجّ الفلسفيّة اللبنانيّة -العربيّة-الإنسانيّة لا تقتصر على إبداعه الفكريّ الذي ذكرنا بعض منازله في رحلة طلبه الحكمة إلى وكر العنقاء في جبل القاف، بل هي تتجلّى في مواقف وإعلانات تصحيحيّة لسياسيّين كانت قد هيمنت عليهم مفاهيم أيديولوجية لا ترتكز إلى قاعدة فكريّة واقعيّة، فإذا بهم، وقد حاربوا كمال الحاجّ واعتبروه متقوقعًا، خارجًا في لبنانيته عن القوميّة العربية، يعودون إلى ما كان يقول به قبل استشهاده من الكيان السياسي اللبناني النهائي المتجسّد في دولة، إذ «عندما نجد كيانًا سياسيًا نكون إزاء قومية».

فكتور الكِك مجلة العربي نوفمبر 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016