في شهر مارس تبدأ الطبيعة دورة من البعث والتجدد, فالجليد لا يبدأ ذوبانه فقط في البلاد الباردة, ولا تخرج الحيوانات من بياتها الشتوي الطويل, ولكن حتى البذور الكامنة في جوف أرضنا العربية الصامتة تبدأ هي الأخرى في التفتق, لتخرج لنا عشرات من النباتات والزهور. وإذا كنا لا نشعر بتوالي الفصول, مثلما لا نشعر بتوالي العديد من الأحداث الجسام, فإن الطبيعة سوف ترغمنا على الانتباه, فالركود الذي يعيشه العالم العربي لا يمكن أن يدوم طويلا وسط واقع حافل بالمتغيرات, ولا يمكن أن نبقى شهودا خرسا على تلك النار التي تشب في قلب أرضنا وتلتهم براعم الغد قبل أن تتفتح, لقد جربنا طرقا كثيرة للتخلص من هذا الجمود العربي, حتى ليبدو أحيانا ان كل الطرق امامنا قد اصبحت مسدودة وان الخيارات قليلة, ولكن الذين يستقرئون المستقبل لا يقعون في هوة هذا الوهم فهم يدركون انه مادامت الطبيعة تملك هذه القدرة على التجدد فسوف نتغير رغما عن أنوفنا.
ومن المؤكد أن هناك طرقا متعددة, , هناك على سبيل المثال الطريق الثالث للثقافة الذي يشير إليه رئيس التحرير في حديثه الافتتاحي, وهو يعني به تلك الثقافة التي تبتعد عن ثقافة النخبة وسمر الصالونات, وتنأى في الوقت نفسه عن الثقافة الشعبية الدارجة, لتركز على ثقافة العلم والتكنولوجيا , الوحيدة التي تملك مفاتيح التقدم في هذا المستقبل المضطرم. وفي مقال آخر تحتويه صفحات هذا العدد تثار قضية الطريق الثالث مرة أخرى كحل وسط بين الرأسمالية والشيوعية, وهل يمكن أن يكون طريقا عربيا صالحا للخلاص, أم أننا كالعادة نتفنن في تضييع كل الطرق?.
ولكن (العربي) تسافر بطرقها الخاصة إلى مدن عربية يشدها الحنين إلى القلب, فمن عاصمة العرب القديمة صنعاء يكتب الشاعر عبد العزيز المقالح قصيدة مليئة بالتوق إلى عاصمة الروح, وهو يستجيب هنا للدعوة التي طالما طرحتها العربي على الأدباء والكتاب العرب للكتابة عن المدن التي أثرت في وجدانهم وشكلت عوالمهم وأمدتهم بالتجارب الأساسية للتبصر والإبداع, وهي تكرر دعوتها مرة أخرى للكتاب العرب حتى يواصلوا الكتابة عن مدن الحنين هذه, الأمر الذي سوف يساعدنا في فك الكثير من رموزهم الإبداعية. كما تقدم (العربي) تجربة جديدة تحاول من خلالها أن تؤصل الثقافة البصرية في استطلاعاتها, فمن خلال رحلتها إلى مدينة (ورزازات) المغربية تنتقل بنا الكاميرا إلى تفاصيل المكان, وتضعنا في نوع من المعايشة المباشرة مع روحه الخفية, لذلك فإن الاستطلاع المنشور يأخذ ضعف حجم عدد الصفحات المعتادة, لعل التقاء الكلمة باللون يحقق الهدف المنشود.
وتحفل (العربي) كعادتها بالعديد من القضايا الجديدة والمثيرة, فهي ترحل إلى مهرجان لوكارنو السينمائي, وتستعيد زمن توفيق الحكيم عندما كان عصفورا طليقا في شوارع باريس, وتتحدث عن الجانب السياسي للإيدز, وتلقي الضوء على الفن التشكيلي السوري, وتقدم وجبة حافلة بمختلف الموضوعات العلمية التي تدرك أنه لاغني للعقل العربي عن الإلمام بها.