ماذا يفعل الأطفال في عالمنا العربي والسماء فوقهم بهذا الانخفاض? كيف يمكن أن يرفعوا رءوسهم بكامل قاماتها? وكيف يمكن أن يتأملوا الآفاق البعيدة دون فضاء رحب يتيح لهم الانطلاق? الأطفال العرب ـ وليس أطفال فلسطين وحدهم ـ محاصرون, ولأنهم مادة المستقبل فإن هذا يعني أن المستقبل العربي كله محاصر, مساحة الإبداع فيه ضيقة, والقدر المتاح للابتكار معدوم تقريبا, فمن المسئول عن كل هذا?
أنظمة التعليم العربي لا تخنق الحرية فقط ولكنها تقتلها عمداً
الواقع العربي لا يجعل الطفل يأخذ نصيبه العادل من خبرات الطفولة
إن مسئولية الحصار الذي يعيشه الاطفال العرب موزعة على جهات عدة, على رأسها نظام الأسرة, المؤسسة التعليمية, المؤسسات الثقافية والإعلامية, وتلك الهوة من التخلف التي نعيش فيها والتي ارتضيناها لأنفسنا كأنها قدر محتوم.
يولد الطفل العربي بنفس الدرجة من الذكاء التي يولد بها الطفل في العالم, ويمر مثله بمراحل النمو المختلفة حتى تبدأ سنوات التفاعل بينه وبين البيئة التي تحيط به, عند هذا المنحنى يبدأ الافتراق الخطر, فيواصل الطفل الغربي مثلاً مراحل نموه النفسي والبدني وتتهيأ له كل ظروف الإبداع ـ إن كانت ثمة بذور إبداعية في داخله ـ بينما يتوقف منحنى الطفل العربي أو ينحو إلى الانحدار, وهو إما أن يعاني موت بذور الإبداع والتجديد في داخله, أو أن عليه أن يمتلك روح المحارب حتى يستطيع فقط أن يبقى طافيا فوق السطح دون أن يكون مهددا بالغرق. ولعل هذا يفسر لنا نماذج العلماء العرب المبدعين الذين وجدوا منفذا للهرب من تحت هذه السماء الواطئة فرفعوا قامتهم وحلقوا عاليا في سماء الإبداع خارج أوطانهم.
التخلف ليس إحدى سمات الشخصية العربية بالتأكيد, ولكنه واقع يفرض نفسه علينا ونرضى به يأسا وقنوطا في أغلب الأحيان, ويتوارثه الأطفال منا ضمن ما يتوارثونه من فضائلنا السامية فما العمل وإلى متى يبقى الطفل العربي مبدعا في الخارج عاجزا في الداخل وكيف يمكن لنا أن نرفع قليلاً ذلك السقف الذي يواصل الانخفاض فوق رءوس أطفالنا?
اقتناص مستقبل
علينا أن نعي أن الطفل العربي هو ثروتنا المهدرة, وإذا كنا لا ندرك أهميتها فإن أعداءنا يدركون ذلك جيدا, فعندما يفتح جنود الاحتلال الإسرائيلي النار فإن هدفهم الأول هو الأطفال الفلسطينيون, وهم لا يحاولون إصابتهم أو تفريقهم, ولكنهم يستغلون مهارتهم الحربية ـ بوصفهم افضل جيش قي الشرق الأوسط ـ لكي تكون إصاباتهم في الرأس مباشرة, أي أنهم يحاولون استئصال المستقبل الفلسطيني في كل طلقة يطلقونها. وقد فطنت إسرائيل الى أهمية قتل الأطفال الفلسطينيين متأخرة بعض الشيء, فقد كانت قبل ذلك مشغولة بالاستيلاء على الأرض, ومحو القرى الفلسطينية وإقامة المستعمرات فوق الأرض المنهوبة, إلى أن اكتشفت أن كل هذا لا معنى له مادام هناك جيل فلسطيني ينمو كل يوم ويطالبهم بحقه في الوجود والأرض والتاريخ. وقد فزع الإسرائيليون من وجود هذا الجيل في الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الثمانينيات, عندما شب جيل كامل من الشباب والأطفال الذين ولدوا وعاشوا في ظل الاحتلال ومع ذلك لم يتقبلوه كحقيقة واقعة, أدركت إسرائيل منذ ذلك الحين أن اخطر ما يواجهها هو تلك القنبلة السكانية التي لا تني تنفجر في مواجهة أطماعها التوسعية, ورغم أن هذه القنبلة تنفجر اليوم من بين أطفال الأرض المحتلة إلا أنها في الغد سوف تنفجر من وسط عرب الخط الأخضر الذين يتمتعون بالجنسية الإسرائيلية ويقيمون كمواطنين من الدرجة الثانية ضمن دولة إسرائيل, وهي تفعل ذلك ضمن حملة دعائية ضخمة حول العرب المتوحشين الذين يدفعون أطفالهم عمدا إلى الموت.
ونحن لا نقتل أطفالنا كما تزعم إسرائيل ولكننا على الأقل نقتل جانبا من طفولتهم, فالغالبية العظمى من الأطفال العرب يعيشون بلا طفولة حقيقية ويشيخون قبل الأوان, فهم وقود كل الحروب العربية ـ العربية, وهم ضحايا الفقر الذي يحرمهم حقهم في التعليم ويلقيهم مبكرا إلى أسواق العمل, وحتى الذين تتاح لهم فرص التعلم والترقي يقعون ضحايا النظم التعليمية المتخلفة التي تقتل ما في داخلهم من إبداع, وتزرع فيهم الخوف والريبة من الحياة الدنيا.
الموهبة والتعليم الرسمي
يرى العالم الكبير أينشتاين أن التعليم بشكله النظامي يعيق ظهور العبقرية ولا يدعمها, فهذه النبتة الصغيرة في روح كل طفل في حاجة إلى الحرية, وإلى إشباع حب الاستطلاع المقدس, ولكن أساليب التعليم الرسمية لا تتعزز إلا من خلال وسائل القهر والشعور بالواجب. هذا النقد المرير للتعليم الرسمي من عالم كبير يكشف عن أحد جوانب العبقرية التي تنفر من كل أنواع القيود, فرغم الإنجازات العظيمة التي قدمها أينشتاين في مجال علم الفيزباء ونظرية النسبية التي كانت فتحا جديدا في النظر إلى الظواهر الكونية فإن تعليمه النظامي لم يتجاوز مرحلة البكالوريوس, ولم تكن له كمية كبيرة من الشهادات التي يمكن أن يتفاخر بتعليقها فوق الحائط, وحتى درجة الدكتوراه التي حصل عليها فيما بعد, لم يحصل عليها مقابل واحدة من الرسائل الضخمة والمحشوة إلى درجة الغثيان كما يحدث في جامعاتنا, ولكن حصل عليها في مقابل مقالة لا يعدها العلماء واحدة من أفضل مقالاته.
ترى ماذا يقول أينشتاين عن أنظمتنا التعليمية العربية, التي لا تخنق الحرية فقط,ولكنها تقتلها عمدا? فهي أنظمة تعتمد على الحشو والتلقين لمناهج متخلفة يكتب معظمها موظفون رسميون, وهي أيضا تفتقد أي بعد يربطها بالواقع الاجتماعي والثقافي, وفوق ذلك كله فهي لا تترك مجالا يعبر فيه الطفل عن نزعاته الفردية أو عن مواهبه الخاصة, إنه نظام تعليمي يصلح لتربية أي شيء إلا الذوات المتفردة, فهو يركز على تلقينهم فضيلة الخضوع وينزع من داخلهم ملكات النقد والتحليل وبالتالي يفقدهم التربية الديمقراطية ويخلق منهم مجموعة من الموظفين الخاضعين لكل ما يتلقونه أو يلقى عليهم من أوامر.
وحتى التعليم الرسمي في الدول المتقدمة أصبح يخضع هو أيضا لنوع من النقد الشديد وإن كان الهدف منه مختلفا. ويؤكد بعض المتخصصين في دراسة الإبداع أن بعض أنواع التعليم الرسمي يمكن أن يعزز التطور الإبداعي ولكن التعليم الأكاديمي الزائد على المطلوب قد يغرس في ذهن الطالب الكثير من الأفكار التقليدية والمحافظة التي تجعله عاجزا عن متابعة عمليات التجديد والرغبة في الابتكار. ويلح هؤلاء المتخصصون على أن أساليب التعليم الذاتي هي الحل الأمثل لأصحاب المواهب الخاصة ولكن أين يمكن أن توجد هذه المؤسسات في عالمنا العربي, أين هو النشاط العلمي أو الفني أو الثقافي الذي يمكن ان يستقطب المواهب المبدعة ويصقلها ويزودها بالمهارات اللازمة, بعيداً عن قيود المدرسة والجامعة?
الأسرة المحاصرة
إن الأسرة العربية أفضل حالا من العديد من الأسر الغربية من حيث تماسكها الاجتماعي, ولكنها قليلة الإمكانات محدودة الحركة, فلا توجد مؤسسات تساعدها, ولا قوانين تحميها اقتصاديا أو سياسيا, وبالتالي تكون عديمة الفاعلية في أحيان كثيرة, ولا تستطيع أن توفر لأفرادها أي نوع من الحماية, كل ما في الأمر أنها تعطيهم قدرا ما من المودة والمحبة ثم تدفعهم عراة لمواجهة أقدارهم في عالم بالغ المشقة. ومعظم المشاهير العرب الذين نعرفهم قد عانوا كثيرا من أجل صراع البقاء فقط على قيد الحياة, واستغرق ذلك معظم سنوات شبابهم قبل ان يذوقوا طعم النجاح وهم على أبواب الشيخوخة. والأرقام التي تنشرها المنظمات الإنسانية عن الأطفال العرب الذين يدفعون إلى سوق العمل في وقت مبكر من أعمارهم الغضة تثير الرعب, وهناك أطفال صغار يعولون أسرا بأكملها في ريف العديد من الأقطار العربية, وقد منعت الولايات المتحدة منذ أشهر قليلة عدة صفقات من الملابس الجاهزة من إحدى البلاد العربية لأنها اكتشفت أن الذين كانوا يعملون في هذه المصانع هم أطفال تحت سن العمل, أي أننا أمام حالة قتل متعمد لطفولة الأطفال وإهدار حق من حقوقهم الأساسية وهو التعليم.
وحتى لا نتجنى على الأسرة العربية فالحال ليس جيدا أيضا في الأسر الغربية, فقد ولدت ضغوط الحياة نوعا من فقدان التواصل بين الأجيال المختلفة. ففي دراسة حول الوقت الذي يستغرقه الآباء في الحديث الجدي مع أولادهم, أشارت الإحصائيات القادمة من هولندا إلى أنها لا تستغرق أكثر من 11 ثانية يوميا فقط, بينما كان أبناء الأمريكيين أسعد حظا لأنهم يتحدثون مع آبائهم لمدة دقيقة واحدة يوميا. ويقول البروفيسور بول فاولر وهو أحد المتخصصين في دراسة الطفولة إن الأمر ليس وقفا على الوقت فقط, ولكن يشمل أيضا نوعية الحديث الذي يقيمه الآباء مع أبنائهم, فبعض الآباء يلجأ إلى الإجابات السريعة أحيانا والسخيفة في أحيان أخرى ليرد على أبنائه, ناهيك عن نوبات الغضب وتسفيه كلام الأبناء, وكل هذا يولد نوعا من المشاعر السلبية لدي الطفل وتجعله فاقد الثقة في نفسه, شاعرا بالوحدة الدائمة.
إن الطفل في حاجة إلى النقاش وتداول الأفكار مع من هم أكبر منه سنا, لأنه بهذا ينمي أسلوب التفكير الحر والثقة فيما يعرضه من أفكار, فقد أثبت العديد من الأبحاث أن الأطفال الذين يتلقون الدعم والتشجيع من آبائهم يكونون اكثر سعادة وأكثر تركيزا أثناء الدراسة. وينقسم الآباء الذين يقدمون الدعم إلى نوعين, النوع الأول يسعى إلى خلق الحوافز الذاتية لدى الأبناء, والنوع الثاني يكتفي بمساعدة الأبناء فيما يهتمون به ولا يكف عن إطرائهم مهما كان مستوى الإنجاز الذي يقومون به. وهذا النوع الأخير من الأبناء كان أكثر سعادة ولكنه كان قليل الإنجاز بعكس المجموعة الأولى.
طفل التلفزيون
ولم تعد تربية الطفل تقتصر على الأسرة, أو المؤسسة التعليمية فقط, ولكن التكنولوجيا الحديثة وما أنتجته من أجهزة باهرة أصبح نصيبها في تربية الطفل هو النصيب الأوفر. وتقول (ليليان لورسا ) وهي عالمة نفس في المعهد الوطني الأمريكي, إننا إذا أردنا أن نفهم طفل اليوم فعلينا أن نعرف أن الطفل قد أصبح مشاهد تلفزيون قبل أن يكون تلميذا, وخطورة التلفزيون أنه لا يؤثر فقط في التحصيل الدراسي حيث ثبت أن الذين يقضون أكثر من ساعة ونصف الساعة يوميا أمام الشاشة الصغيرة يقل مستواهم في القراءة والكتابة والتعامل مع الرياضيات ويصابون بنوع من التشتت وعدم التركيز في الفصل. ولكن التلفزيون يؤثر أيضا في شخصية الطفل, ففي الوقت الذي تتكون فيه شخصية هذا الطفل يصبح مشبعا بالأشكال التي يراها على الشاشة, وهذا التشبع هو بداية التقليد الذي يحدث لا شعوريا, وبذلك يفقد الطفل إدراكه الواعي لكل ما يقوم به. ولعلنا نذكر ذلك الطفل الذي ألقى بنفسه من فوق أحد البنايات العالية في مدينة القاهرة ليؤكد أنه قادر على تقليد (فرافيرو العجيب) وهو فأر كارتوني كان يجيد الطيران. إن التلفزيون يسرق أيضا طفولة الأطفال ويدخلهم مبكرا عالم الكبار بكل ما فيه من مشكلات وتناقضات, بل ويدخلهم عالما من العنف لا يفهمون مبررا له, ويظهر هذا واضحا في رسومات الأطفال التي كانت بريئة مليئة بالأحلام ثم تحولت بعد رؤيتهم للتلفزيون إلى أشكال قاسية مليئة بالوحوش وبالأشخاص الآليين, وتقول الإحصائيات إن الطفل الذي يشاهد التلفزيون لمدة ثلاث ساعات يوميا يكون قد شاهد قبل سن الثانية عشرة حوالي 800 جريمة قتل وأكثر من 100 ألف مشهد من مشاهد العنف.
من أجل إنقاذ المستقبل
خلاصة القول, اننا أمام واقع لا يضيق الخناق على الطفل المبدع فقط, ولكنه لا يتيح للأطفال العاديين أن يأخذوا نصيبهم العادل من خبرات الطفولة, فالبيئة العربية الضاغطة تحرمهم من العديد من المثيرات العصبية والحسية التي تنمي من درجة إدراكهم للوجود من حولهم. والمؤسسة التعليمية تتحمل عبئا كبيرا في هذه المسئولية, ولأنها واحد من أكثر العوامل أهمية في التطور, فعليها أن تتخلى عن دورها التلقيني, وأن تنصرف لتربية القدرات المبدعة. لقد انتهت نظرية الطفل المبدع بالفطرة, ذلك الطفل الذي يولد مزوداً بالموهبة, فقد تبين أن الإبداع يمكن تكوينه وتطويره. وتطوير أي قدرات خاصة مرهون بالجهد الذي يبذل في هذا الاتجاه. ولا أعني بالإبداع هنا إبداع الناضجين, فإبداع الطفل يختلف بالتأكيد, فالطفل في هذه المرحلة لا يمكن أن يأتي بجديد, ولكن ما سيأتي به سوف يكون جديدا بالنسبة له. وهذا الأمر في حد ذاته هو مؤشر لإبداع لاحق, بل إن ظهور الاستقلالية هو بحد ذاته عمل إبداعي, وعلى المدرسة أن تغذي في أطفالها حب الاطلاع والحيوية والتصور الفني والاتجاه نحو النشاط والبحث, فمثل هذه الخصائص هي المحركات الأولى لنمو الإبداع. ولعل أكبر ما يواجه الطالب العربي في المدرسة, بل وفي الجامعة كذلك هو غياب أسلوب البحث والتقصي, أي غياب البحث عن الحقيقة, وهو يمثل هنا افتقاراً شبه كامل في مؤسساتنا التعليمية لأشكال العمل وطرق التفكير وحل المشكلات في مناهج كل المراحل التعليمية, والمشكلة هنا تكمن في نوع ومساحة الحرية المكفولة للطفل والشاب.
مأزق الطبقة المتوسطة
وقد لاحظ العلماء الذين اهتموا بدراسة المبدعين والعباقرة أن النسبة الغالبة منهم (حوالي 80%) جاءوا من أسر متوسطة. والطبقة الوسطى كانت دوما هي صمام الأمان لأي مجتمع, ويقاس تقدم المجتمع بقدر ما تقدمه هذه الطبقة من كوادر متعلمة, ومن مواهب إبداعية, ومن قادة, ومن أفكار جديدة. وقد دأب المفكرون الماركسيون على القول دوما إنها طبقة قلقة, تتطلع دوما إلى الطبقة الأرستقراطية التي تعلوها, وتخشى السقوط في هوة الطبقة الكادحة التي توجد في أسفلها, هذا التوق والقلق المتلازمان هما اللذان أوجدا في هذه الطبقة كل هذا النشاط الفكري والإبداعي. الطبقة الوسطى العربية يحيق بها الخطر منذ سنوات عديدة, وهي تنزلق ببطء ولكن باستمرار إلى هوة الفقر والإملاق, وبدلا من أن تكون صمام أمن في المجتمع تتحول لتصبح ضحية تهدد المجتمع بالخطر على أمنه وتقدمه, فهي لا تفقد فقط خصائصها المميزة, ولكنها تفقد أيضا القيم التي كانت تلقنها لأولادها حول قيمة العمل وأهمية التعلم والطموح إلى مكانة أفضل, وكلها أمور تخلق الدافعية لدى أفرادها, كما أن القيود التي تكبل الحريات الفردية مازالت قائمة على رأس العديد من أنظمتنا العربية تكبل حركة هذه الطبقة ولا تحافظ على حقوق أفرادها وهو أمر يهددها بالشلل والتآكل, وبالتالي فإن نتاج هذه الطبقة من كوادر متعلمة وقادة ومفكرين وعلماء مهدد هو أيضا بالتآكل.
وتزداد مشكلة التلفزيون خطورة في العالم العربي, فبعد انفتاح الفضاء الخارجي لم يعد من الممكن حجب كل ما تبثه المحطات الفضائية, وقد أصبحت الدولة عاجزة عن فرض رقابتها التقليدية تاركة هذه المهمة للأسرة. وهي مهمة غاية في الصعوبة, فالفضائيات تحمل لنا حلما ملونا لعالم متقدم شديد الإبهار, غاية في الحرية والانفتاح. وهو لا يصدم فقط مشاعرنا التقليدية المحافظة ولكنه يصيبنا بالعجز عن مقاومة كل هذا السيل من القيم والعادات المختلفة. وقد أصبحت الأسرة العربية تتحمل المسئولية وحدها, فعليها أن تضع سياسة حازمة في مواجهة هذا الجهاز, وأن تحسن من استخدامه, فالتلفزيون شئنا أم أبينا هو جزء من حياة الأطفال, ومهمة الأسرة أن تجعل من الساعات التي يقضيها أمامه مفيدة على نحو ما. وتدل بعض الدراسات على أن الطفل يمكن أن يكتسب العديد من المهارات اللغوية, وفي بعض الأسر العربية التي لا تقدر على شراء الكتاب أو حتى الصحيفة يكون التلفزيون هو المصدر الوحيد للثقافة. ويؤكد علماء النفس أن علينا إغلاق التلفزيون عن أي مشاهد عنيفة لأنها تصاحب الطفل أثناء نومه وهو يخشى أن يقول ذلك حتى لا يحرم من مشاهدته, كما أن المدرسة أيضا مسئولة عن إفهام الطفل كيفية التفريق بين الصورة التي يراها والواقع الذي يعيشه.
كانت هذه إطلالة سريعة على واقع الطفل العربي ومناشدة حارة لكل الأجهزة المسئولة من أجل إنقاذ المستقبل العربي, لا من أيدي الجنود الإسرائيليين فقط, ولكن ومن وطأة الأجهزة المتخلفة, ومن المهرجانات الزائفة التي تتصدرها السيدات الأول دون أن تقدم شيئا حقيقيا. إننا في حاجة إلى عمل إصلاحي شامل يتضافر فيه الخبراء والتربويون ورجال الإعلام لعلنا ننقذ شيئا من إبداع العقل العربي وهو مازال في المهد.
إننا كعرب نقف اليوم أمام مأزق لا وقت للانتظار فيه أكثر مما انتظرنا, وعلينا أن نحزم أمرنا, ونؤمن بثقة بأن مستقبلنا كأمة وكأوطان مرتبط عضوياً بمدى ما ننجح فيه من وضع أطفالنا على الطريق القويم, فنحشد كل إمكاناتنا, ونطوع كل برامجنا التنموية للأطفال, تعليما حديثا, وصيانة حقوق, وتوفير العناية الصحية العالية, وحمايتهم بالقوانين وحسن تطبيقها من كل اعتداء على حقهم في كل ذلك. وأن نؤمن بأن حقوق أطفالنا قبل حقوقنا كآباء ومسئولين, وأننا نزرع في أبنائنا النهضة المنشودة لأمتنا