مختارات من:

حاضر الغناء العربي

منصور الرحباني

هناك مَن يقول إن الفيلسوف اليوناني سقراط صار فيلسوفًا بسبب غباء زوجته, أو بسبب زواجه. ولكن الزواج ليس السبب الوحيد لبلوغ المرء رتبة الفلسفة, فقد يبلغها لأسباب أخرى.

فالمطرب الكبير محمد عبدالوهاب وصل إلى هذه الرتبة بفضل المغنية لا بفضل الزوجة. فقد لاحظ في سنواته الأخيرة أن المغنية لم تعد مغنية, وأن الراقصة لم تعد راقصة, ذلك أن المغنية بدأت ترقص, وأن الراقصة بدأت تغني, فقال عبدالوهاب نتيجة ملاحظته هذه كلمة عميقة ثاقبة تؤلف احتجاجًا على ما وصل إليه فن الغناء العربي في زمانه الأخير, خلاصتها أن هذا العصر هو عصر تغني فيه الراقصات وترقص فيه المغنيات.

كان عبدالوهاب فنانًا كبيرًا كما كان مثقفًا كبيرًا, وقد اعتاد على عصر كانت فيه المغنية مغنية والراقصة راقصة, ولاشك أن مثل هذا العصر مازال حيّا بصورة من الصور إلى الآن. فالمغنية التي تنصرف إلى الغناء وحده, دون أن تشرك به الرقص, لاتزال موجودة, وإن كان مشهد مثل هذه المغنية بات نادرًا في زماننا الراهن. فالشائع هو هذه المغنية التي إن لم تكن تملك الصوت الجميل, فإنها تملك جمالاً وافرًا في الوجه والجسم والشكل بصورة عامة. وهي إن كانت تجور على فن الغناء ـ وبخاصة على تقاليده العريقة الراسخة على مرّ الأجيال ـ فإنها لا تجور على المشاهد الذي بات يُقبل على مثل هذه المغنية أكثر مما يُقبل على المغنية الصرفة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على جمال صوتها. فالمغنية الآن, شئنا أم أبينا, هي هذه المغنية الراقصة في آن, الشديدة الحركة على المسرح, والتي تنشر في القاعة الحيوية والمرح, وهو ما يسعى المشاهد إليه.

ولكن علينا أن نعترف, دون أن ننكر ملاحظة عبدالوهاب الثاقبة, وهي وليدة معاناة كما هي صرخة احتجاج, أن الزمن, عندنا وعند سوانا, يتجه إلى دمج المغنية والراقصة في شخصية واحدة. وفيما يتعلق بالمسرح الغنائي بالذات, ومنه المسرح الرحباني, لا يكفي أن تكون المغنية مغنية فقط لا غير, ولو كانت مغنية من الدرجة الأولى, بل لابد أن يكون لها حضور على المسرح, أي لابد من أن تكون أيضًا ممثلة تتحرّك وترقص.

هناك فرق بين الغناء في الأوبرا, والغناء في المسرح الغنائي. ففي الأوبرا يمكن للمغني, ولو كان ضخم الجثة مثل الإيطالي بافاروتي, أن يؤدي الدور الأول اعتمادًا على صوته, وإن تطلّب الأمر منه أحيانًا القيام ببعض الحركات التمثيلية. أما في المسرح الغنائي فلا يكفي الصوت الجميل وحده, بل لابد للمغنية أن تكون قد درست التمثيل دراسة متقنة, كما لابد أن تجيد الرقص أيضًا.

قبل فترة استقدم ابني أسامة الخبيرة الإنجليزية ديفي ألن, وهي مصممة كاليوغرافي ورقص مشهورة, لمساعدته في إنتاج مسرحيته الجديدة, فقالت له من جملة ما قالت: (ليس هناك الآن شخص يرقص وآخر يغني, الشخص نفسه يرقص ويغني معًا).

إنما الرقص ينبغي أن يكون هنا رقصًا فنيًا رفيعًا, كما ينبغي أن يكون الغناء من طراز عال أيضاً.

طبعًا هناك ظاهرة مستوجبة الإدانة هي ظاهرة المغنية ذات الصوت الوسط أو الضعيف, ولكن المعتمدة على جمال في الشكل والتي تغني بواسطة هذا الشكل أكثر مما تغني بحنجرتها, ولكن هذه الظاهرة ليست ظاهرة حديثة مقتصرة على عصرنا, فقد عرفتها أيضًا عصور سالفة, ولو أنها ظاهرة مستفحلة الآن أكثر من أي وقت سابق.

على أن ما أشرنا إليه لا يمثل الملمح الوحيد للغناء العربي اليوم, فهناك ملامح أخرى, فإذا كانت صورة المغني أو صورة الراقصة كما عرفتها السنوات الخوالي لم تعد هي الصورة السائدة الآن, فهناك صور أخرى كثيرة قد تغيرت. فنصّ الأغنية لم يعد بالمستوى الرفيع ذاته الذي كان عليه في الأمس, وكذلك اللحن. كان المغني يغني نصوصًا شعرية ذات قيمة, سواء بالعامية أو بالفصحى, وكان هناك اهتمام أوفر باللحن, ولاشك أن لدينا في الوقت الراهن ملحنين وفنانين كبارا, ولو أن الجميل والرائع والأصيل نادر دائمًا, وفي كل زمن ومكان.

منصور الرحباني مجلة العربي مارس 2004

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016