مختارات من:

القنديل.. والجندول

محمد مستجاب

بينما ظل المثقفون العرب يتألقون بأضواء الحوار والأفكار حول قنديل الرواية - يحيى حقي, احتفالاً بتاريخ مولده المئوي في القاهرة: قامت أنامل البيئة الريفية التي عشت فيها المليون عام الأولى من عمري بانتزاع (قنديل أم هاشم) من المؤتمر ليكون قنديلنا الآخر والأساسي, الذي لم نطلقه على أي مصباح: قنديل الأذرة الشامية, أو كوز الأذرة في لغة أهل المدن, غير أني - عشقًا لقنديلنا الذي أدمنت انتزاعه من حقولنا وحقول الآخرين - فوجئت بأن المعاجم ودوائر المعارف توقفت عند القنديل ذي الأنوار, دون القنديل المشوي ذي الصفوف المتوالية من الحبوب الغضّة اللينة اللدنة, حول وفوق عظام الكوز, وحاولت أن أجد أي أثر في صياغة أخرى, كأن يكون القنديل وراء الجندول, الذي كان عنوانًا معروفًا وجميلاً وشهيرًا لقصيدة شاعرنا علي محمود طه, والتي انتشرت بين كل جماهيرنا العربية حينما شدا بها محمد عبدالوهاب العبقري البارع في لحن ساحر متماوج, فإذا بالطامة الكبرى أن أجد الجندل بمعنى الصخور التي تعترض مجرى الأنهار, وتسمى خطأ بالشلال - وهو ما ورد في معجم الجيم الكبير, وسبب التقاء القنديل بالجندول, أننا نعاني مأزق نطق الجيم المعطشة لغويًا في الريف, لتتحول إلى قاف فاقدة الخصوبة القديمة, كما أن هذه القاف ذات الخصوبة في القلم أو ذوي القربى في لغتنا الفصحى والريفية, تتحول في المدن إلى (الألم وذوي الأربى) كما هو منتشر ومعروف, ولم أعثر لجندول على محمود طه ومحمد عبدالوهاب على أي أثر.

وبالتالي قررت أن أترك جانبًا هذا المأزق, ودنيا الحياة اللغوية واسعة وكريمة, ولا تجادلني وتحاورني إلاّ في حدود المتعة التي أسعى إليها, غير أن الجندول عاد إلى جداول قلبي يتهادى ويتماوج على مياه البندقية الإيطالية, تاركًا أمر الاعتراف به لغويًا جانبًا, وهو ما أدى بي إلى نزق خاص بي لا أحب أن ينتبه إليه الآخرون بصفته تصرفًا غيرمحسوب, لأخلع ملابس المخ - أقصد العقل - وأقفز من فوق الجندول أو اليخت أو القارب إلى مياه الجداول والأنهار, ودون اعتبار لعدم درايتي الجيدة بالسباحة, أو حتى العوم الصبياني القديم, لأشهد تلك الفنادق ذات الشهرة السياحية في مصر وتحمل اسم (كتراكت), وتعني مباشرة الجنادل: أي الصخور التي تعترض مجرى النهر عند الجغرافيين, وتصنع مشهدًا بالغ الروعة في منطقة أسوان بين جزيرة النباتات ثم جنوبًا نحو خزان أسوان, ثم تختفي فور بناء السد العالي, من منطقة النوبة حتى وادي حلفًا على حدود مصر مع السودان, وكلها - هذه الجنادل - ليست شلالات تندفع المياه من فوقها, متساقطة في المجرى المندفع إلى أسفل, كما في مناطق شلالات نياجرا شمال أمريكا, وكليمنجارو المتدفقة من فوق الجبل إلى غابات إفريقيا الاستوائية, والتي كانت موضوعًا جذابًا في العمل الروائي الشهير لهيمنجواي (ثلوج كليمنجارو), حيث كانت سوزان هيوارد تقيم في خيمة وسط ضجيج الطبيعة الشاعرية مع جريجوري بيك, في فيلم سينمائي بالغ المتعة, وبالغ الضراوة أيضًا.

الأخطر من هيمنجواي وعلي محمود طه والآخرين السابق ذكرهم: هي أمي, تلك المرأة ذات السليقة الفطرية الريفية, والتي عرفت مصطلح القندلة أو الجندلة قبل أي من هؤلاء, صفة أو تهديدًا أو دعاء بالعقاب, والفرد المجندل أو المقندل هو سيئ الحظ, الذي يقع تحت سطوة لحظات عدم الحب, أو ضيق الآخرين به, وكثيرًا ما يلجأ المنافسون إلى وصف بعضهم البعض بهذه الصفة خلال أوقات الغضب أو الحقد والنميمة, ومع ملاحظة أن المعاجم لم تذكر أيًا من هذين اللفظين: القندلة أو الجندلة, إلا أنها أوردت أن قندل - فعل ماض - فلان: أي عظم رأسه, ومشى في استرسال واسترخاء, وهو نوع من الكبْر أو الكبرياء المفتعلة - الجملة الأخيرة وضعتها أنا تفسيرًا لمشاهد بعض من أعرف, مع أني أميل إلى سماع صوت المغني الراحل محمد قنديل دون الربط بينه وبين أي قنديل آخر, مضيئًا أو ملعونًا, ووجهه الضاحك المرح باكتنازه الواضح: يثير في الوجدان بهجة أخرى مضافة إلى تلك الصادرة من عناصر الغناء من كلمات وطرب وموسيقى وتدفق في الحنجرة, ولذا, فإن كل كلمات الأغاني المفعمة بالحزن والأسى تتحول عندنا - دون قصد - إلى حزن جميل, وأسى مقبول بسبب هجر الحبيب, حيث قام بترسيب اليأس في قلوبنا المبكرة غناء الآخرين - أقصد معظم الآخرين, وربما كان ذلك وراء عدد واضح من رفاق الصبا حملوا اسم قنديل, ومن المؤكد أن قنديل أم هاشم ليحيى حقي لا علاقة له بهم, في حين أن الجندل كان اسمًا لجندل بن عبيد الشاعر الأموي, الذي لم يكن مشهورًا, وهو ابن الراعي النميري الأكثر شهرة والذي كانت بينه وبين جندل المثنّى الطهوي (90 هجرية - 709 ميلادية) مهاجاة شعرية لم تصل في شهرتها إلى المهاجاة التي قامت بين جرير والفرزدق وازدحمت بها كتب المدارس.

وفي المثل الموروث (جندلتان اصطكتا) - أي وصفًا للصراع بين اثنين شديدي التصلب بصفتهما قرنين يتصاولان أو يتصادمان أو يتجادلان في خشونة.

ولعل دومة الجندل تصلح إنهاء لهذا الموج الصاخب في اللغة, الذي ألقى بالجندول بعيدًا عن كل مسطحات المياه نهرية أو بحرية, لكن دومة الجندل تظل مدينة شامية قديمة, وتاريخية أيضًا, تبعد عن دمشق ما يقرب من 250 كيلومترًا, مشهورة بحصونها, وأرسل رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - القائد العسكري الشهير خالد بن الوليد لفتحها, حيث نجح في ذلك, وعقد معاهدة سلام مع حاكمها (أكُيدرْ) الذي قدم - بعد المعاهدة مباشرة - إلى رسول الله في المدينة المنورة, لتأتي دومة الجندل بعد ذلك في هذا البيت الشعري:


حمامة جَرْعًا دومة الجندل اسجعي
فأنت بمرأى من سعاد ومسمع


كلمات لها معنى


* كنا نقول - في زمن مبكر - مدحًا لشاعر أو كاتب: إنه مطبوع, صفة للفطرة الطبيعية في إبداعه, الآن يمكن لك أن تلجأ لذات الصفة - بعد أن فقدت وظيفتها السالفة - لتصبح كاتبا أو شاعرًا مطبوعًا في كتب أو دواوين حتى تعترف بك فصائل اتحاد الكتاب في البلاد العربية, دون أن نعترف بك نحن.
* أحرّ من الجمر, اندثر الجمر تحت اجتياح الأدوات الكهربائية, ولم يبق سوى جمر الفحم في بقايا إعداد الكباب فقط, هل يصلح تعبير عصري أحر من أسلاك الكهرباء أو فرن الغاز؟
* كل الأوامر قصيرة وجازمة, لكن التواصل والابتهال والإمعان والتهويم في الآفاق الممتدة تظل ممتدة دون حزم أو جزم.
* كل الأعاصير والزوابع والطوفان بسبب الزلزال في جنوب شرق آسيا: مجرد احتجاج من ملل عصري يمتصه الكون من برامج التلفزيون.

محمد مستجاب مجلة العربي مايو 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016