سر تعددت أسباب إخفائه, يراه من يسعى إليه ويستحقه, متجسداً في كل مكان, في اللوحات والكتب والموسيقى, حتى في الرسوم المتحركة وأفلام السينما الشعبية, عن طريق رموز نلتفت إليها في أعمال دافنشي, وبويتشيلّي, وبوسان, وبيرنيني وموتزارت وفيكتور هوجو, التي همست سراً بقصة البحث عن الأنثى المقدسة المطرودة.
معتقدات انعكست على إبداعات المعلمين الأوائل, بشكل موارب أو مباشر, ورثها كل باحث راغب في الحقيقة, وينطبق هذا الوصف على الكاتب دان براون في روايته (شيفرة دافنشي), التي ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة, وطبع منها حوالي ثمانية ملايين نسخة, في محاولة لتوعية القارئ حول حقيقة التاريخ وأخطائه, وتحريضه على البحث, ليكون جديراً بالمعرفة التي سيحصل عليها.
وظف دان براون لعبة التشويق والإثارة ليورط القارئ في حل اللغز, وكشف القاتل, وجعلها إطاراً فقط فهو يموضع مستوى روايته عند خط يعلو خط الجريمة, ليطرح آخر موازياً, وهو عملية البحث عن الحقيقة واختلاف الدوافع الداخلية لكل شخص في بحثه, سواء للحصول على القوة, أو المال, أو تصحيح التاريخ, أو المعرفة.
بدأت الرواية بقتل جاك سونيير, المعلم الأكبر في جمعية سيون الدينية, وهي منظمة حقيقية أوربية سرية تأسست عام 1099م, وكي لا يدفن سر الجمعية معه (الغريل/الكأس المقدسة), كتبه على شكل شيفرات, استطاع بذكاء توجيهها إلى حفيدته صوفي نوفر, العالمة في فك التشفير, والتي تعمل في الشرطة القضائية, كذلك أستاذ علم الرموز الدينية روبرت لانغدون. فهما الأقدر على حل اللغز وحفظ السر.
لعبة الشيفرات هذه اعتمدت بشكل أساس على الفن التشكيلي, من خلال لوحات لرسامين مشهورين, وضعوا سرهم في فنهم, كذلك الشعر سواء حين استعار سونيير بعض القصائد, أو حين ألّف بعضها الآخر, وهي شيفرات ترشد شخصيات الحكاية, لكن الرواية تحوي شيفرات من نوع آخر, موجّهة للقارئ, ترشده إلى مسار الشخصيات, كأن يشير الكاتب منذ البداية إلى الهرم الزجاجي المقلوب على باب متحف اللوفر, الذي أمر ببنائه ونفذه فرانسوا ميتيران, وهو رمز القدح أي الأنثى المقدسة.
كما ذكر لعبة فك الشيفرات, التي كان سونيير يلعبها مع حفيدته صوفي, في عيد ميلادها, فهو يعيدها دوماً إلى حيث بدأت لتجد هديتها, مما يدفع القارئ إلى التكهن بضرورة العودة إلى متحف اللوفر, بالرغم من تعدد الأماكن. كذلك تلميحه المستمر حول الشبه بين مريم المجدلية وصوفي باعتبارها استمراراً لهذه الذرية.
كل ذلك ورَّط القارئ للمشاركة في اللعبة, والبحث في أعمال الفنانين ولوحاتهم وقراءتها من جديد, مثل لوحة العشاء الأخير لدافنشي, التي تخبرنا ماهية الكأس المقدسة (فالكأس ليست شيئاً مادياً, بل هي في الحقيقة.. شخص محدد). هي مريم المجدلية التي ائتمنها يسوع على سرّه وتعاليمه, ويؤكد الكاتب وجود رباط مقدس بين الاثنين, ووجود ذرية استمرت حتى يومنا هذا.
هذه القدسية تعيد إلى المرأة مكانتها, وتنفي ما أُلصق بها عبر التاريخ, وتوضح رموزاً وضعها الناس بأنفسهم, ثم اختلفوا عليها, منذ العبادات الوثنية إلى الآن.
رموز استمرت وتغلغلت في جميع الأديان وأماكن العبادة وغيرها. مثل النجمة الخماسية التي ترسم مسار كوكب الزهرة (الإلهة فينوس), كذلك النجمة السداسية التي ترمز إلى اتحاد المرأة (القدح/ الرحم) بالرجل (السيف).
هذه الوثائق والحقائق جمعها دان براون حول جمعيات دينية, وطقوس سرية, أكدت رحلة بحثه, ومخاطرته, لدرجة يتلاشى فيها الخط الفاصل بين الوثيقة وخيال الكاتب, مما حوّل الرواية إلى مرجع علمي وفني, يساعد القارئ على التقاط كنه الدين والتاريخ والفن.
حاول الكاتب كشف عوالم هذه الجمعية السرية وعلاقاتها, وعلى ماذا تجتمع وتختلف, طارحاً جملة من الأسئلة, وعدوى البحث إلى القارئ. وفي النهاية يتم الخلط بين الوهم والحقيقة, بين الواقع والحلم, لكننا نتأكد من واقعيته فيما بعد.
كل هذه الألعاب تعيدنا إلى الحبكة البوليسية المشوقة. وكما في الأفلام, يتم إنقاذ البطل والبطلة قبل أن يقضي القاتل عليهما, وتُحل الشيفرة, مما يبرر النهاية السعيدة, لكنه لا يبرر تراجع الكاتب عن بعض المواقف النقدية تجاه الكنيسة, أو الجمعيات الدينية, فنرى تبريرات تبرئ وتجمّل الدوافع, وينفي محاولة الكنيسة طمس الحقيقة, أو التهديد بقتل ذرية المسيح!..
موضوعات فنية
موضوعات مثيرة للجدل, مغرية للبحث, وعوالم تستحق الغوص فيها, وملاحظة تفاصيلها, في حياتنا اليومية. (إن البحث عن الكأس المقدسة هو بحث هدفه الانحناء أمام رفات مريم المجدلية. هو رحلة للصلاة عند قدمي المطرودة, الأنثى المفقودة).
واللافت هو أن جمعية سيون السرية ضمَّت ضمن أعضائها شخصيات نؤمن بها وبإبداعاتها, مثل السير اسحق نيوتن وساندرو بويتشيلي وفيكتور هوجو وليونارد دافنشي. مما يؤكد روحانية الموضوع وغناه وقدرته على تزويد هؤلاء المعلمين الكبار بمادة جديدة للفن.
سعت (شيفرة دافنشي) إلى مقولة دعا إليها دافنشي دائماً: (الجهل يعمي أبصارنا ويضللنا, أيها البشر الفانون, افتحوا أعينكم).