عندما يتطلع الخبراء إلى لوحات الطبيعة الهولندية العائدة إلى القرن السابع عشر, فمن النادر أن يضعها أحدهم بحد ذاتها في مرتبة عليا على سلم المدارس والتيارات الفنية. ولكن التطلع إليها من زاوية الدور الذي لعبته في تاريخ الفن, يؤكد أن أثرها كان بالغا في تطور مدارس فنية عدة لنحو قرنين من الزمن. ولفهم الأمر يمكننا مقارنة واحدة من لوحات الهولندي جاكوب فان رويسديل بأخرى رسمت في العصر نفسه بريشة الفرنسي كلود لورين. ونبدأ بهذه الأخيرة.
تجدر الإشارة أولا إلى أن لوحة الفرنسي كلود لورين هذه, المسماة (محاكمة باريس) اكتشفت في العام 1966م, عندما حملت سيدة لوحة (قذرة) إلى دار المزاد العلني (سوثبيز), وهي تظن أنها تبيع لوحة لرسام الطبيعة البريطاني ريتشارد ويلسون. ولكن بعض الخبراء لاحظوا تحت طبقة من الطلاء الواقي الأصفر (الفرنيش) خرافا تشبه الخراف التي رسمها كلود لورين, وبعد الاستعانة بالخبير مارسيل روثليسبرجر, أشهر اختصاصي في أعمال لورين, وبتنظيف اللوحة, تأكد الجميع من أنهم أمام واحدة من أفضل لوحات الرسام الفرنسي, الذي عاش بين العامين 1600 و1682م. وبالعودة إلى الوثائق التي تركها الفنان عرف هؤلاء أنه رسمها في العام 1646م.
على الرغم من الموضوع الأسطوري الذي أعطى اسمه للوحة, وعلى الرغم من أن الأشخاص الخمسة الظاهرين في أسفل نصفها الأيسر هم الأكبر حجما, الذين رسمهم الفنان في كل لوحاته, فإن هذه اللوحة تبقى بالدرجة الأولى (لوحة طبيعة) كما اعتادت المدرسة الفرنسية على أن تنظر إلى الطبيعة في منتصف القرن السابع عشر.
المكان ككل متخيّل من دون شك, حتى ولو كانت بعض تفاصيله منقولة عن زوايا واقعية في الطبيعة. فدور الفنان هنا هو التجميل, وبناء مسرح من الطبيعة تسكنه شخصيات أسطورية, وكلود لورين أستاذ في هذا المجال.
فإلى جانب الأشياء التي تقف عموديا مثل الصخور والأشجار والشخصيات في النصف الأيسر من اللوحة, تبدأ الخطوط الأفقية الذهبية اللون بالتدرج من أسفل اللوحة يسارا, صعودا باتجاه يمينها, وكأنها تقود النظر إلى الأفق البعيد والشاسع. وبالألوان نفسها المستخدمة في رسم الطبيعة رسم الفنان أقمشة ملابس الشخصيات الصغيرة. أما الأشجار, وإن بدت في بعض تفاصيلها واقعية, فإن معالجتها الفنية, توزيعا وحجما وتلوينا, حملت الخبير روثليسبرجر على القول: (إنها أجمل أشجار رسمها لورين في كل أعماله), والشجرة الكبيرة في وسط اللوحة قد تكون أجمل شجرة رسمت على الإطلاق. وهذا ما جعل أناسا مختلفين جدا عن بعضهم, مثل دوستويفسكي ونيتشه, يتحدثون عن الإحساس بالارتياح الذي توفره لوحات كلود لورين لمشاهدها.
ولكن في العصر نفسه, كان الهولنديون يرسمون الطبيعة بعين مختلفة تماما عن العين (الأدبية) الفرنسية, ومن أشهر هؤلاء جاكوب فان رويسديل (1628 - 1682م).
تتميّز هذه اللوحة التي تعود إلى العام 1660م تقريبا, بالواقعية الشديدة, والأمانة في تصوير الطبيعة التي ميّزت كل أعمال رويسديل.
فمقابل الشجرة الجميلة في لوحة لورين, يستوقفنا هنا حطام شجرة يابسة, وقد هوت في النهر, وخلفها جذع شجرة قطعت واختفت آثارها.
ومقابل الأرض المنبسطة في اللوحة الأولى, تبدو الأرض هنا ذات تضاريس يصعب السير عليها. ومقابل الصخور البرتقالية والذهبية في الأولى تبدو الصخور هنا داكنة مغطاة بالطحالب. وبدل الأفق المفتوح في الأولى على سماء وردية وزرقاء, يبدو الأفق هنا مسدودًا بكثافة الأشجار في غابة موحشة ومظلمة. وبدل الشخصيات الأسطورية التي ترتدي الأقمشة الملونة, يجد المشاهد هنا صعوبة في ملاحظة وجود شخصيتين رسمتا كنقطتين صغيرتين وسط هذا الدغل الأخضر الداكن.
لم يكتب لهذا التيار الهولندي أن يتحوّل إلى مدرسة واسعة الانتشار في القرن السابع عشر, بل بقي يحظى ببعض الاتباع المتفرقين, لأكثر من قرن, وفي البلدان الشمالية فقط. ولكن مع بداية التنظير للواقعية في الفن في القرن التاسع عشر, وبداية التطلع إلى الطبيعة كموضوع يحظى بالاحترام لما هو عليه في الواقع, وليس لما نتمناه أن يكون, عادت الأنظار تتجه إلى إنجازات السلف الهولندي, الذي كان ملهما قويا لنشوء مدارس فنية عديدة أشهرها مدرسة بربيزون الفرنسية, ومن ثم الانطباعية.