ماذا بقي من ابن خلدون بعد مرور ستة قرون على وفاته 808 هـ/1405م? وماذا يعني بالنسبة إلينا? على أن الأهم: ماذا تعني بالنسبة إلينا الخلدونية, كتيار فكري نشأ مع ابن خلدون, واستمر إلى يومنا هذا? وكيف تمت إعادة الاعتبار للخلدونية مع بدء ما عرف باليقظة العربية المعاصرة? وكيف تم تحرير ابن خلدون من (سجن مخطوطة كتابه (المقدمة)), على طول القرون التي تفصل بين تأليفه للمقدمة, وعصر النهضة العربية? وكيف السبيل إلى تلمّس الذاتي والموضوعي في تجربة الإخفاق, التي عاشها ابن خلدون? الإخفاق الشخصي, الذي دفعه إلى الاحتماء في أرذل العمر, إلى قلعة ابن سلامة في الجزائر لكتابة تأملاته عن التاريخ, وإخفاق الدولة العربية الآخذة في الأفول? وما مدى انعكاس ذلك على فلسفة التاريخ الخلدونية?
أسئلة كثيرة, وما أكثرها في مجال نقد الذهنيات, كما يقول عبدالله العروي. على أن الأهم هو طابعها المضاعف: ماذا بقي من ابن خلدون? وماذا يعني بالنسبة إلينا? الذي يشي بالوصل والفصل معًا, فصل ابن خلدون عنا, والنظر إلى الرجل كآخر حلقة في سلسلة المفكرين المبدعين في الحضارة العربية الإسلامية, على حد توصيف محمد عابد الجابري, وإعادة وصله بنا, وبالتالي التمهيد إلى قراءة جديدة للخلدونية كتيار فكري, قراءة تقرأ ما لم يقرأ فيها بعد, وتشرع الباب إلى تجاوز الخلدونية كفلسفة للتاريخ تحسبه في تاريخ واحد ودائري, حيث التاريخ (حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة عبر الدولة: تقوم جماعة بدوية, قبيلة أو مجموعة قبائل, بالثورة على الدولة في أطرافها, وغالبًا ما يكون ذلك عندما تكون الدولة في طور هرمها, فتنتزع منها السلطة, وتنشئ دولة جديدة قد يطول عمرها أو قد يقصر, ولكنها في النهاية, تهرم وتشيخ, فتقوم جماعة بدوية أخرى بما قامت به تلك الجماعة, فتؤسس دولة جديدة تلاقي هي الأخرى المصير نفسه, وهكذا دواليك) ص323.
في وقت يعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم, كتب المفكر المغاربي محمد عابد الجابري كتابه (نحن والتراث), الذي اعتبره محمد أركون واحدًا من أهم ثلاثة كتب في حقل التراث. في هذا الكتاب, اعتمد الجابري منهج الفصل والوصل في قراءة جديدة لتراثنا الفلسفي, فـ(جعل المقروء معاصرًا لنفسه, معناه فصله عنا, وجعله معاصرًا لنا, معناه وصله بنا). كانت القراءة الجديدة بمنزلة دعوة إلى تجاوز القراءات السلفية, التي تقوم إما على تمجيد التراث أو إعادة استنساخه, وهذا هو حال معظم الدراسات والقراءات, التي سعت إلى قراءة ابن خلدون. من هنا, كان حرص الجابري على قراءة معاصرة للخلدونية كتيار فكري تقطع مع حال الانبهار, التي عرفتها معظم الدراسات, التي طالت مؤسس علم العمران, فقد عالج الرجل - أي ابن خلدون - موضوعات شتى, ولكنه لم يكن مبدعًا كما يقول الجابري. ويذهب عبدالله العروي في إطار مقارنته الذكية بين ابن خلدون ومكيافيلي, وبالتالي البحث عن حدود العقلنة في رؤية ابن خلدون, إلى أن إيمان ابن خلدون بالسحر وبخوارق العقل, جعله ابن عصره, وليس سابقًا لعصره, كما يشاع في إطار الأدبيات التقريظية السلفية, التي حجبت الحقيقة الخلدونية من ورائها).
ماذا بقى من العلامة?
(ماذا تبقى من الخلدونية)? هو عنوان الفصل الأخير من كتاب الجابري: (نحن والتراث), والسؤال, كما هو مبين, يصل مع التساؤل: ماذا بقي من ابن خلدون? وماذا يعني بالنسبة لنا أنه يمت إلينا بوشائج قربى حقيقية, ولكنه يظل مضمرًا بالدعوة إلى تجاوز الخلدونية, بفصل الرجل عنا, وجعله معاصرًا لزمانه, وبالدعوة إلى الانفتاح على الإشكالية الخلدونية في (العصبية والدولة), ثم تجاوزها باتجاه آفاق جديدة. وهذا ما ختم به الجابري بحثه. يقول الجابري: يجب علينا أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري مازال يكبل مجتمعنا, لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا. وهذا ما لن يتم لنا إلا إذا تحررنا من عوائقها الابيستمولوجية, وجعلها ترى في حاضرنا نحن مالم تكن تراه في حاضرها هي. إنه البعد الاقتصادي في الصراعات الاجتماعية في الوطن العربي, الذي يجب رصده وراء النزاعات الطائفية, والتحرّكات العشائرية, في الماضي والحاضر. إن إبراز هذا البعد, معناه كسر عوائق التطور في مجتمعنا, وتحرير عقولنا من سيطرة اللامعقول. إن دعوة المستقبل, بل رسالته تطلب منا تحرير واقعنا من السلاسل والقيود الفكرية والمجتمعية, التي جعلت الخلدونية تبقى دون مستقبل, وتهدّدنا نحن كذلك بالمصير نفسه), وهنا يختم الجابري بقوله: (إن ما تبقى من الخلدونية, هو ما يجب أن ننجزه, وليس ما أنجزه?).
ما يقلق الجابري هو ما سكتت عنه الخلدونية, فلقد أعرض ابن خلدون عن الحديث عن المستقبل, وكأنه لا يهمه, وتحدث عن كل شيء منحازًا حتى إلى الضعيف من الآراء, إلا أنه لم يتحدث عن المستقبل, وما يهمنا كمعاصرين هو المستقبل, وليس الماضي, الذي يدور في فلكه ابن خلدون عبر رؤيته التأملية, والنقدية للعصبية والدولة والمحكومة بنظام من المفاهيم تم تجاوزه في عصره الحاضر.
على الرغم من الدعوة إلى تجاوز الخلدونية, والحفر عما تبقى من (العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية, والتي مازالت تحتفظ بإمكان الحياة معنا نحن أبناء الوطن العربي في القرن العشرين) ص310 فإن الجابري لم يخف إعجابه الكبير بابن خلدون, يكتب الجابري: الواقع أنه مهما حرصنا على مراعاة المسافة الزمنية, التي تفصلنا عن الظرف التاريخي العمراني, الذي عاشه ابن خلدون, ومهما عملنا على إبراز الثغرات في منطقه ومنهاجه, فإننا لا نستطيع أن نحصن أنفسنا من ذلك الانبهار, الذي تثيره فينا مقدمته كلما تصفحناها أو طالعنا بعض فصولها). ويضيف الجابري بإعجاب وزهو ما يلي: لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن (المقدمة) تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد, الذي نحس عند مطالعته بأنه يتحدث فعلاً إلينا, وبأنه فعلاً منا وإلينا, وبالتالي بأنه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا. وبعبارة أخرى أننا عندما نقرأ (المقدمة) نشعر بأننا نقرأ فعلاً مالم نكتبه بعد, ونسمع فعلاً مالم نقله بعد ص321.
الانبهار بابن خلدون دفع بعض دارسي فكر الجابري, وبالأخص منهجه في الفصل والوصل, الذي طبقه على ابن خلدون وغيره, إلى اتهام الجابري بالوقوع في غرام الخلدونية, فقد كان الجابري - كما يكتب محمد المصباحي - واقعًا تحت تأثير لا تخطئه العين, وأن البنية المجهرية لفكر الجابري, ولاسيما في جانبها التركيبي والنقدي, هي في جوهرها خلدونية, أو بالأحرى خلدونية جديدة, بعدما تفاعلت مع برهانية ابن رشد, التي روّج لها الجابري, وبعدما ألبست ألبسة حديثة, وهذا ما يدفع المصباحي إلى تصنيف الجابري بأنه خلدوني محدث, والمقصود بالمحدث هنا - كما يقول المصباحي - (قراءة أفق فكري بأفق فكري آخر مختلف عنه أو حتى مضاد له, من أجل توليد أفق ثالث مغاير لهما ص 209 (التراث والنهضة).
لم يكن الجابري وحده المبهور بابن خلدون, ولم يكن الوحيد المضمر منهجه بخلدونية جديدة في بحثه عن أفق ثالث, فالخلدونية كتيار فكري ظلت تحايث الكثير من الأعمال الفكرية الكبرى لمفكرين عرب كبار في نزعتهم التأملية للمستقبل, وفي نزعتهم النقدية للتاريخ, والتي تستعير معظم دوافع التعبير من الخلدونية, بحيث تكون أعمالهم, لنقل أفقهم, التعبير الحي عن خلدونية جديدة. وحسبي أن أقف هنا عند رؤيتين عصريتين, أرى أنهما التعبير الحي عن رؤية خلدونية. وأشير إلى أعمال كل من المفكرين حسن حنفي, ومحمد جابر الأنصاري مع فارق لمصلحة الأنصاري سوف نوضحه لاحقًا.
السباعية الثالثة
في كتابه (في الثقافة السياسية) عاد حنفي إلى تحقيبه الميثولوجي للتاريخ, فقد نشأ الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا, وأقام حضارته في عصرها الذهبي في القرون السبعة الأولى, التي بلغت ذروتها في القرن الرابع, ثم جاءت الفترة الثانية من القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر إبان العصر المملوكي الثاني, حيث توقف العقل عن الإبداع وبدأت الذاكرة في الحفظ, واجترار الماضي بالشروح والتلخيصات مثل جمل الصحراء - والتعبير له - ومن وجهة نظره, أننا الآن على أعتاب فترة ثالثة, ينعتها حنفي: بـ(السباعية الثالثة), التي تبشر بالعودة إلى عصر ذهبي ثان. يقول حنفي, في المرحلة الثالثة تبدأ الحضارة الإسلامية في النهوض من جديد, وكأنها تسير إلى دورة إبداعية ثانية, ابتداء من القرن الخامس عشر بعد دورتها الإبداعية الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع, ولعلها سائرة إلى ذروة ثانية تشابه الذروة الأولى للقرنين الرابع والخامس الهجريين. وهي الفترة التي سميناها فجر النهضة العربية الإسلامية, والتي مازلنا نعاصر بداياتها, بعد أن عاصرنا نهاية المرحلة الثانية, فنحن المخضرمين, نهاية الثانية وبداية الثالثة, نهاية الاستعمار, وبداية التحرر. عاصرنا حركات التحرر, وشاهدنا الثورات العربية, ورأينا ضياع فلسطين, وحدثت أمامنا الردة, وربما نكون في نهاية القاع, لذلك نحن في حاجة إلى ابن خلدون جديد. يؤرخ للمرحلة الثانية, عصر الشروح والملخصات, ويضع شروط النهضة للمرحلة الثالثة) ص 497 من (علم الاستغراب).
الجديد في الأمر, أن حنفي يموضع بداية المرحلة الثالثة للحضارة الإسلامية من نهاية الوعي الأوربي في العصور الحديثة على حد تعبيره, فنهضة الأنا لا تقوم إلا على سقوط الآخر والعكس صحيح.
إن (السباعية الثالثة) عند حنفي, تندرج في إطار تحقيب ميثولوجي, كما أسلفت, يبشر بانحطاط الغرب وبنهضة العالم الإسلامي, حيث السقوط والنهضة يتناوبان كل سبعمائة عام, ومن هنا, فإن جدل الأنا والآخر عند حنفي لا يعني تواصلاً مع الآخر, ولا بحثًا عنه, ولا استحضارًا له إلا بمقدار التحرر منه, إن جدل الأنا والآخر, يقوم عنده على تمثل مسارين للأنا والآخر (الغرب) في شكل خطين بيانيين يتقاطعان كل سبعمائة عام, بحيث (إذا كانت دورة الأنا في القمة تكون دورة الآخر في القاعدة, وإذا كانت الأنا في القاعدة تكون دورة الآخر في القمة), وبحسب أطروحة حنفي, التي تكشف عن نزعة رغبوية وتبشيرية, يكون القرن الخامس عشر الهجري نقطة تقاطع تنبئ بصعود الأنا, وسقوط الآخر لمدة سبعة قرون أخرى.
هذا التصوّر للعلاقة بين الأنا والآخر عند حنفي, ينكشف في النهاية عن رغبة عارمة في التخلص من الآخر, كما يقول الطاهر لبيب, لا بل إنه يحيلنا من جديد إلى ما أسماه محمد عابد الجابري بـ(المعادلة المستحيلة الحل), التي لا تتصور نهضة للأنا العربية الإسلامية إلا بغياب الآخر الذي لا ترسم له عند حنفي أي صورة قابلة للتثمين. إنه لا يرى في الغرب سوى انحطاطه, من هنا فإن بيانه عن الاستغراب, هو ومن أوجه عدة, بيان من أجل انحطاط الغرب. إنها المعزوفة المستهلكة عند تيار عريض يقول بانحطاط الغرب وإفلاسه حضاريًا, وهذا ما يفسر الرواج الكبير لكتاب الفيلسوف الألماني اشبنجار عن (انحطاط الحضارة الغربية).
هكذا يفصح جدل الأنا والآخر عن نزعة رغبوية لها طابع ميثولوجي يدعو للرثاء والشفقة أكثر من الإعجاب والانبهار, كما يريد حنفي, ويفصح أيضًا عن نزعة خلدونية جديدة في قراءة تاريخ الحضارة, لنقل نزعة خلدونية مغلقة, وبلا أي أفق مستقبلي في قراءتها لتاريخ الحضارة?
من الخلدونية إلى إرادة النهضة?
ما أشبه الليلة بالبارحة? كأن الرجل - أي ابن خلدون - يشخص الأوضاع العربية الإسلامية المعاصرة, هذا ما يقوله الأنصاري في إطار إعجابه بقدرة ابن خلدون على النفاذ إلى الموضوعات, والإتيان بحلول لها, حلول نعجز نحن عنها, وهذا ما كان يقوله الجابري أيضًا, في إطار تقريظه لابن خلدون, وهذا ما يفعله الأنصاري عندما يشيد بقدرة ابن خلدون على التوسط بين العروبيين والإسلاميين, الذين تاهوا, وشطّوا في رسم حدود فاصلة بين القومية العربية والإسلام, وفشلوا في ذلك, في حين نجح ابن خلدون من خلال اعتماده على مفهوم العصبية, الذي لم يكن بحال ما يعني ذلك الإطار الضيق لعصبية القبيلة, بل عصبية القوم (القومية الحيوية), التي هي ضرورة لنهضة الدين والدولة معًا, يتساءل الأنصاري: هل وصلتنا (الرسالة) الخلدونية بوجهيها, أم لانزال في ريب من أمرنا?