يسعى الباحث حمادي ذويب في كتابه, الذي نشره المركز الثقافي العربي والمؤسسة العربية للتحديث الفكري في بيروت, إلى دراسة مسلمة أساسية تمثّل إحدى ركائز المنظومة الفكرية الإسلامية التقليدية, وهي السنّة أصلاً ثانيًا من أصول الفقه. وقد توصل إلى أن مفهوم السنّة الأصولي, كما أقرّه الشافعي ورسّخه الأصوليون في القرن الخامس الهجري, تعرّض, مثل مفاهيم كثيرة في تاريخنا وتراثنا, إلى عملية يسمّيها الباحث عملية عدول نقلته من مجال كان فيه علامة متعددة الدلالات, سواء كان ذلك قبل ظهور الإسلام, أي في لغة العرب في حقل تداولها الأصلي, أو بعد ظهور الإسلام في المدارس التشريعية القديمة, إلى مجال أصبح فيه أحادي الدلالة. وهكذا فإن تطور معنى العلامة نحو التثبيت المعنوي تمّ في فترة متأخرة, وتحديدًا في القرن الثاني الهجري انطلاقًا من عمل تأسيسي نظّر لأصول الفقه وأرسى دعائمها الأولى, هو (رسالة) الشافعي.ويعتبر الباحث أن تأسيس حجيّة السنّة أصلاً ثانيًا في أصول الفقه هو عمل تاريخي إنساني قام على أساس ردّ الفعل على ظواهر شهدها القرن الثاني حدّدت الحديث النبوي والفئة التي تنتسب إليه وتؤسس أيديولوجيتها عليه, وهي أهل الحديث. ولن يترسخ انتصار أطروحة أهل الحديث التي ثبّتت معنى السنّة في الأحاديث النبوية إلا بعد قرون وبالتحديد في القرن الثالث, ثم تدعّمت في القرن الخامس الهجري إثر انتصار الأشعرية المدعومة بالسلاجقة السنيين.وهكذا فإن تأسيس حجيّة السنّة عرف لحظته الثانية الحاسمة في القرن الخامس الهجري من خلال جملة من الأصوليين في المشرق أو المغرب الإسلاميين. لكن هذا التأسيس كان أيضًا مرتبطًا بحاجات تاريخية حتّمتها ظروف القرن الخامس الهجري.
ويرى الباحث أن المنظومة الأصولية أصبحت في عصرنا الحديث منظومة جامدة قديمة المعاني والقيم, لا تتطابق أحكامها واجتهادات أصحابها مع الواقع الموضوعي جزئيًا أو كليًا, لأنها فقدت صلتها بالتاريخ وأصبحت غير قادرة على استيعاب المستجدّات. لقد كانت منظومة الشافعي وبقية الأصوليين صالحة عندما كانت الظروف التاريخية مشابهة لظروفهم, إلا أن تغيّر السياق التاريخي بصفة جذرية من جراء الثورات الصناعية والعلمية يدعو, كما يقول الباحث, إلى إعادة النظر في تلك المنظومة ومراجعة مسلّماتها ونقد بديهياتها. على أن نقد المنظومة التقليدية, التي تأسست عليها العلوم الدينية, لا يعني في نظر الباحث رفض التراث والتنكّر لكل ما فيه, بل هو أداة مواجهة لتاريخنا, بما توفره لنا العلوم الحديثة من مناهج موضوعية علمية. وهذه المواجهة ضرورية لتعميق فهمنا للفكر الإسلامي القديم وآلياته ومختلف منتجاته. لكنها مدعوّة إلى تجاوز الرؤية الافتخارية والتمجيدية, والدفاعية والانتقائية للتاريخ الإسلامي لإرساء نظرة شمولية تاريخية لا تُهمل أي موقف ولا أي فئة. وتَحقُّق ذلك مرتهن بالنقد الموضوعي على قاعدة مكتسبات الثورة المعرفية في جميع العلوم ومقتضيات الإنسان الحديث التاريخية. وبذلك يمكن أن نعدّل ساعتنا على عقارب عصر الحداثة, ولا نجعل في فهمنا القاصر للتراث وسيلة محاربة للعلم ومكتسباته.