مختارات من:

بيتر بروغل (ألعاب الأولاد)

عبود طلعت عطية


إنها لوحة وموسوعة في آن واحد. والحديث عنها في مجلة يتضمن بعض المجازفة, لأن تصغير مقاساتها الأصلية (118 * 161 سم) يفقدها الكثير من تفاصيلها, حيث تكمن قوتها, لا بل محتواها بأسره. فهذه اللوحة التي رسمها الفلامنكي بيتر بروغل سنة 1560م, تتضمن تصويراً لأكثر من مائتي ولد يؤدون نحو تسعين لعبة مختلفة من ألعاب الأولاد!! وكل جزء وجانب منها يغري بحديث مطول عنه.

عندما ولد بروغل (أواخر العشرينيات من القرن السادس عشر), كانت المدرسة الفلامنكية في الرسم قد بلغت ذروة نضجها واستقلال شخصيتها المميزة, القائمة على العناية بالتفاصيل, وتحميل اللوحة أقصى ما يمكنها أن تحمله من الشخصيات والأشياء المحيطة بها.

في العام 1559م, رسم بروغل لوحة تظهر عشرات الأشخاص في إحدى القرى. يستحيل على غير المطلع أن يعرف ما يقومون به لغرابة أوضاعهم وتصرفاتهم. ولكن قراءة اسم اللوحة يكفي لفهمها: (الأمثال الهولندية). فكل شخصين أو ثلاثة في هذه اللوحة يؤدون تمثيلاً لمنبع حكمة شعبية أو مقولتها. وفي العام التالي رسم بروغل (ألعاب الأولاد).

في هذه اللوحة (كما هو الحال في لوحة الأمثال الهولندية) يتطلع الرسام إلى ساحة بلدة من مكان عال يسمح له بالرؤية البانورامية الواسعة.

أولاد, أولاد يلعبون, بعضهم يلعب منفرداً فيدحرج إطاراً خشبياً بواسطة عصا أو يسير على كفيه. وبعضهم تجمّع أزواجاً ليلعب (التوازن على البرميل) مثلاً. وأحياناً يجتمع أكثر من اثنين ليلعبوا (الحصان), (العرس), (القطار).. وحتى الجدول الصغير في الزاوية اليسرى العليا أصبح مكاناً للألعاب الصيفية, فنرى ولدين يسبحان, وواحدًا يتسلق شجرة وفتيات يدرن حول أنفسهن.

تسعون لعبة مختلفة (واستطراداً, نشير إلى أن معظمها شائع أينما كان في العالم, وقد عرفناه نحن في طفولتنا). ولكن ما الذي دفع بروغل إلى رسم مثل هذه اللوحة الفريدة من نوعها? وما الذي أراد أن يقوله من خلالها?

إن جمال المنظر ليس دافعاً, بل هو نتيجة. فاللوحة هي خلاصة دراسة وتركيب وليست وليدة اصطدام بمشهد لافت للنظر. لأن هذا المشهد لا يمكنه أن يكون قد حصل فعلاً بهذا الشكل. فالأولاد اللاعبون يملأون ساحة المدينة والشارع الطويل على مد النظر وكل زوايا اللوحة من دون استثناء في غياب تام لأي شخص بالغ.

إن لوحات بروغل من أكثر الأعمال الفنية في التاريخ غموضاً وقابلية للتأويل والتحليلات المختلفة, وفي اللوحات الناجمة عن دراسة مسبقة كهذه يصبح لكل عنصر فيها خطابه الدقيق الخاص به. وعلى سبيل المثال, فإن الطفلة في الزاوية السفلى إلى اليمين تلعب دور (البائعة). أمامها ميزان, وهي تطحن قرميداً أحمر لتبيع مسحوقه. ولكن هذه السلعة ليست متخيلة, ولا هي مجرد تراب أحمر, بل هي الأساس الذي كان يستعمله بروغل نفسه لصناعة الألوان الحمراء القرميدية.

في العام 1530م, نشرت في انتويرب قصيدة مجهولة الشاعر, ولكنها حظيت بشهرة كبيرة لمقارنتها الإنسانية بأطفال يركضون ويقفزون ويعبثون كالمجانين في كل الاتجاهات. ومن المحتمل أن يكون الفنان قد استوحى هذه القصيدة لرسم لوحة رمزية تمثل جنون العالم. وهذا الرأي يجد ما يدعمه في تلاقي قُطْرَي المستطيل عند ولدين (يتشقلبان) رأساً على عقب أمام المبنى الكبير في النصف الأعلى من اللوحة.

المبنى نفسه مدعاة للاختلاف والتأويل. فهو يبدو وكأنه مبنى البلدية أو المجلس الحاكم, أي رمز الوقار والتعقل المطلوبين في قيادة مدينة وسكانها. فهل هو هنا لإظهار التناقض ما بين شكله الهندسي الجامد والحياة المتراقصة والصاخبة من حوله? وهل يمكن الذهاب في التحليل, إلى حد قراءة بعض الألعاب على أنها موقف من الحياة ككل مثل لعبة النرد (إلى اليمين فوق البائعة) التي قد تصبح خطاباً حول دور الحظ في الحياة?

ربما. ولكن هناك رأيًا آخر يقول إن التربية الحديثة آنذاك بدأت ترى في اللعب جزءاً من التعليم والتنشئة السليمة, وبالتالي فإن الفنان يصور هنا اللعب كطريق إلى النضج والوصول إلى المبنى الوقور الموجود في الأعلى.

من حق القارئ أن يتحفظ على كل هذه التحليلات, ولكن لا بد له من أن يجد غيرها, فكل أعمال بروغل قائمة على رمزية غامضة وعميقة. وإذا كان من الصعب علينا أن نقرأها بسهولة اليوم, فلا شك أن الأمر كان أسهل وقت ظهورها, والدليل على ذلك لوحاته الدينية.

ففي العام 1567م, عُيّن دوق ألفا الإسباني الكاثوليكي حاكماً على هولندا للبطش بالتمرد البروتستانتي, وعلى الرغم من أن بروغل نفسه كاثوليكي (ولكنه شديد الانفتاح على الاتجاهات الفلسفية الجديدة), فقد طلب إلى زوجته عند وفاته عام 1569م تدمير عدد كبير من رسومه الدينية, لأنها كانت (حادة) وقابلة للتأويل وقد تسبب لها المتاعب.

أخيراً, لا نعرف إذا كان الفنان قد أنجز هذه اللوحة بناءً على طلب من جهة معينة لتشكل سلسلة مع (الأمثال الهولندية). ولكن مقاييس اللوحتين متقاربة, ومزاجهما اللوني واحد. خاصة أن بروغل كان ميّالاً إلى سلاسل اللوحات. ومن أشهر ما وصلنا منه خمس لوحات من أصل اثنتي عشرة لوحة تمثل أشهر السنة أنجزها بناءً على طلب من مصرفي ثري في انتويرب يُدعى نيكولاس جوفلينك (ولوحته الشهيرة (صيادون على الثلج) واحدة منها).

وإذا كان من المرجح أن (ألعاب الأولاد) و(الأمثال الهولندية) تبدوان وكأنهما تهدفان إلى إرضاء علماء الإنسانيات الذين بدأوا آنذاك يهتمون بفهرسة وتصنيف كل ما هو على علاقة بسلوك البشر وتصرفاتهم, وكان بروغل على علاقة وطيدة بهؤلاء خلال إقامته في انتويرب (بلجيكا), فمن المؤكد أن (ألعاب الأولاد) لم تقع في أيدي أي من هؤلاء, بل وصلت بسرعة في أواخر القرن نفسه إلى مجموعة الأمير إرنست أرشيدوق النمسا, كما يؤكد كاريل فان ماندر في كتاب الرسامين المنشور في العام 1604م.

وفي حين يصف فان ماندر الفنان بروغل بقوله: (إنه مضحك ويشبه في مظهره الفلاحين), نجد أحد الكتّاب الإيطاليين في مؤلفه (وصف البلاد الواطئة) (1567م) يصف بروغل بالقول إنه الوريث الحقيقي لهيرونيميوس بوش. وكان بوش قد توفي قبل ذلك بنصف قرن تماماً, ولكن التشبيه به كان لا يزال يتضمن مديحاً عظيماً.

عبود طلعت عطية مجلة العربي سبتمبر 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016