تشبه رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائي السوداني الطيب صالح - من حيث البناء - لوحة كبيرة, يتصدرها عنصران تكوينيان أساسيان, يتوازيان رأسيًا في تعامدهما, ويكونان إيقاع اللوحة الذي يقوم على التوازي والتقابل والإكمال.
وإذا كان التوازي يصل ما بين شخصيتي مصطفى سعيد والراوي التي تتجسد الحركات الأساسية للسرد على أساس من تضادهما, فإن التوازي يتحول إلى تشابه, يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد, خصوصًا في اللحظة الحاسمة التي يكتشف فيها الراوي - ونكتشف معه نحن القراء - أن مصطفى هو بعض تكوينه, وهو نظيره أو صورته في المرآة. واللجوء إلى رمزية المرآة - في سياق لحظة الكشف التي يشهدها الفصل ما قبل الأخير - لجوء إلى تقنية تؤكد معنى التوازي, خصوصًا من المنظور الذي تنقلب معه الثنائية إلى أحادية, منظورًا إليها من زاويتين. وقد عرفنا معنى رمزية المرأة في عملية معرفة الأنا بنفسها واكتمال وعيها بذاتها من خلال دراسات جاك لاكان في علم النفس, خصوصًا عندما تحدث عن مرحلة المرأة بوصفها المرحلة التي يكتمل فيها للذات وعيها بنفسها. ويحدث ذلك مع انقسام الذات على نفسها وتحولها إلى ذات ناظرة متأمِلة (بكسر الميم) وذات منظور إليها ومتأمَّل فيها (بفتح الميم) وذلك بما يردنا إلى علاقة التوازي مرة أخرى, ما بين الناظر والمنظور إليه المتحد به.
ولكن رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) ليست الراوي ومصطفى سعيد فحسب, وإن كانا أبرز العناصر في تكوينها, فحولهما توجد شخصيات عديدة, تتجاوب وتتقابل فيما بينها, بما يكمل للوحة تنوعها القائم على الوحدة, وبما يجعل من هذه الوحدة كيانا ثريا يغتني بتنوعاته التي تقع في النهاية على محوري التوازي الذي يمكن أن يغدو تشابهًا, يدني بطرفين إلى حال من الاتحاد, والتقابل الذي يمكن أن يغدو صراعًا حديًا بين نقيضين, وجود أحدهما نفي لوجود الآخر, وذلك في فضاء الحضور الذي لا يحتمل الطرفين معًا. وبالطبع يمكن أن نضع الشخصيات الفرعية في الرواية على محور التوازي الذي تقوم العلاقة بين طرفيه على التقابل. والتقابل الجذري في الرواية واضح من عنوانها الذي يشير إلى (جنوب) مقابل (شمال), لكن في الرحلة التي يرتحل فيها الجنوب إلى الشمال, مثقلاً بميراثه الفردي والجمعي الذي لا يخلو من القمع الذي ترك الشمال بصماته الغائرة في وعي الجنوب الفردي والجمعي.
وتتوقف الرحلة في الشمال لتعرضه في تقابله الحدي مع الجنوب الذي يزداد المرتحل وعيًا بتخلفه, نتيجة المقارنة التي يضطر لإقامتها مع الشمال المتقدم, لكن بما لا ينفي الشعور العدائي الدفين لذلك الشمال الذي سبق بالقمع كما سبق بالتعليم. وهو وضع لا يخلو من توتر التضاد العاطفي الذي تزداد فيه الأنا وعيًا بنفسها من خلال علاقتها بنقيضها الذي لا تملك سوى الإعجاب به - بوصفه بشير التقدم - والنفور منه بوصفه التجسيد الأكبر للاستغلال والقمع.
المحور الأفقي
ويبدو هذا التقابل بين الشمال والجنوب كأنه المحور الأفقي الذي تنبسط فيه الثنائية الرأسية التي تتضاد فيها الشخصيتان الرئيسيتان - مصطفى سعيد والراوي - خصوصًا في لحظات التعارض الحدي الذي لا يخلو من دلالة العداء, ولكن من منظور آخر, يتجسد هذا التقابل بين الشمال والجنوب عبر مستويات عديدة لا يخلو كل منها من التنويعات التي تقوم بعملية الإكمال, سواء تنويعات الشخصيات الفرعية التي تكتمل بها ملامح كل شخصية رئيسية, أو تنويعات عناصر المكان والزمان التي تتقابل حديًا في ثنائية الشمال البارد والجنوب الساخن, أو تنويعات الوصف الذي يقترن بالأساليب البلاغية التي يغلب عليها التشبيه والذي يتولى تصوير تفاصيل المهاد الطبيعي الذي تتحرك فيه الأحداث التي تنعكس عليه بالقدر الذي ينعكس عليها, وذلك في رمزيات الطبيعة التي توازي واقعية الأحداث في تحولاتها وتدافعها. ولا ينفصل الوصف - في هذا السياق - عن تقديم المنظور المكاني في علاقته بالناس, البشر الذين يعيشون فيه والذين يمارسون عاداتهم فيه, عبر الزمان الذي يحفظ أغانيهم واحتفالاتهم المفرحة وشعائرهم الحزينة والعنيفة على السواء. وهناك - أخيرًا - التناص الذي يتمثل في إدماج نصوص خارجية خلال النص السردي, إضاءة لحركة السرد, وموازاة للأحداث, وكشفًا عن طبيعة التقابل أو التوازي بين الشخصيات, ولكن بما لا يفارق البنية الثنائية في وضعها الرأسي (التقابل بين الراوي ومصطفى سعيد) أو وضعها الأفقي (جنوب/ شمال).
وإذا كان مصطفى سعيد يمثل التقابل الحدي بين الشمال والجنوب في داخله ويكتوي به (جنوب يحن إلى الشمال والصقيع) والراوي يمثل وجهه الآخر في المرآة, فإن التقابل المكاني الذي يقترن به كلاهما يبدو لافتًا في المفردات الساخنة التي تصف الجنوب بشمسه الساطعة التي لا تعرف غيوم الشمال, أو ظلمات شتائه, وكذلك بنيله الذي تتجدد به الحياة وتتجسد به وفيه أسطورة الخلق والولادة الجديدة, وليس الراوي بعيدًا عن هذا التقابل الحدي نفسه, وذلك من المنظور الذي يضع الشخصيات في علاقات المكان والزمان, وقبلهما البشر, البشر الذين يتقابلون بدورهم ما بين جنوب وشمال.
شخصيات الجنوب والشمال
ويلفت الانتباه - من هذا المنظور - أن الشخصيات التي تقابلنا في الجنوب هي - بالدرجة الأولى - شخصيات ذكورية نعرفها من خلال الراوي الذي يتيح لنا أن نعرف (ود الريس) الذي نراه للمرة الأولى سائلاً عن أهل أوربا وهل حقًا لا يتزوجون ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام?! وذلك في إرهاص يبين عن مساره الحياتي الذي يبدو فيه عبدًا لغرائزه. وهو الشخصية التي ستلعب دورًا دالاً في تصاعد الأحداث, ويصل بها إلى ذروة المأساة في الجنوب التي تقابل ذروة المأساة في الشمال, مقترنة بالعنف الذي يتمثل في قتل, هو قمة الرغبة ونهايتها الدامية. وهناك - ثانيًا - محجوب صديق طفولة الراوي, ودينامو القرية, ورئيس اللجنة الزراعية والجمعية التعاونية, وهو الأقرب إلى وجدان الراوي بحكم النشأة المشتركة, وهناك - ثالثًا - الجد الأعجوبة. تسعون عامًا وقامته منتصبة, ونظره حاد, وكل سن في فمه, يقفز فوق الحمار خفيفًا, ويمشي من بيته إلى المسجد في الفجر, وهناك - رابعًا - بنت مجذوب المرأة العجوز التي دفنت ثمانية أزواج, وتمثل العنصر الفكه الذي يخفف من القتامة ويضفي على الأحداث بعض ما يبث المرح والضحك في علاقاتها.
أما شخصيات الشمال التي تواجه شخصيات الجنوب, فنحن نعرفها, ونراها بعيني مصطفى سعيد, ومقترنة به, وذلك في موازاة شخصيات الجنوب التي نعرفها ونراها بعيني الراوي - النقيض والشبيه. هناك - أولاً مسز روبنسون المرأة التي احتضنت - في القاهرة - مصطفى سعيد اليافع وعاملته بوصفه ابنها, والتي جعلته - دون أن تدري - في حميمية لقائها الأمومي به يشعر - وهو الصبي ابن الاثني عشر عامًا - بشهوة جنسية مبهمة, لم يعرفها من قبل في حياته. وهناك - ثانيًا - آن همند, أبوها ضابط في سلاح المهندسين وأمها من العوائل الثرية في ليفربول. وكانت تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد, وتحن إلى مناخات استوائية وشموس قاسية وآفاق أرجوانية. وهناك - ثالثًا - شيلا جرينود خادمة في مطعم في سوهو, بسيطة حلوة المبسم, حلوة الحديث, وأهلها قرويون من ضواحي هل. هناك - رابعًا - إيزابيلا سيمور, زوجة لرجل ناجح, وأم لطفلين, تذهب للكنيسة كل صباح, قابلها مصطفى سعيد في الهايد بارك, وأوقعها في شباكه, وقال لها - عندما عرف أن أمها إسبانية: (هذا إذن يفسر لقاءنا صدفة, وتفاهمنا تلقائية, كأننا تعارفنا منذ قرون. لابد أن جدي كان جنديًا في جيش طارق بن زياد, ولابد أنه قابل جدتك, وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية. ولابد أنه أحبها من أول نظرة. وهي أيضا أحبته وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى إفريقيا, وأنت جئت من سلالته في إسبانيا). وهناك - أخيرًا - المرأة الذروة التي أوصلت مصطفى سعيد إلى الجنون, وقادته معها إلى الدمار الذي انتهى بموتها, وانتهى به إلى السجن, وهي جين مورس يصفها السرد - أو الراوي - بأنها العنقاء التي افترست. وقد ظل يطاردها ثلاث سنوات, وهي تتأبى عليه, إلى أن تعبت من المطاردة, فقبلت أن يتزوجها, وظلت على تأبيها بعد الزواج ودفعه إلى الجنون الذي انتهى بالدمار, فظلت أشبه بساحل الهلاك الذي يقود الملاح القرصان - مصطفى سعيد - إلى ساحل الهلاك. والمشهد الأخير في علاقتهما التي تختلط فيها رغبة الجنس برغبة الموت, صانعة مزيجًا غريبًا, قاتلاً ومدمرًا, هو مشهد من أجمل المشاهد التي تنطوي عليها الرواية العربية. ولايزال - إلى اليوم - فريدًا في حدته وكثافته وتعدد دلالاته التي تتجدد وتتغير مع كل منظور نقدي, خصوصًا من الزاوية التي يعكس بها المشهد قمة الرغبة التي يتحول فيها الحب إلى امتلاك, وفناء للآخر وإفناء فيه وبه, حيث الامتلاك المطلق يعني الغياب المطلق عن الوعي والمنطق والحياة نفسها, وحيث الارتحال في جسد الآخر, وداخله, يعني الارتحال إلى قلب ظلمات الرغبة والشهوة التي هي قلب الموت والعدم المناقض للوجود, أو حتى الحضور في الوجود.
ويلفت الانتباه في الشخصيات السابقة أنها كلها نسائية, وكلها توصف بصفات الفريسة التي يسعى الصياد - مصطفى سعيد - إلى الإيقاع بها فيما عدا جين التي تحولت من فريسة إلى صائد, في فعل عراك جنسي متصل, يوازي تعقيدات العلاقة بين التابع والمتبوع وانقلابها على نفسها بالمعنى الذي يحيل القامع إلى مقموع, والمقموع إلى قامع, في فعل الصراع الأبدي الذي ينتهي بدمار الاثنين, خصوصا بعد أن تحولت العلاقة بينهما إلى صراع أضداد متعادية, لا يمكن وجودها إلا في لحظات الدمار التي هي لحظات اللذة السادية, أو لحظات الموت العنيف للفاعل والمفعول على السواء.
العودة والخلاص
ويبدو أن العودة إلى الوطن كانت خلاصًا له من عذاب الغربة, وفرحة بالعودة إلى الأهل والقرية الصغيرة التي ظل يحن إليها ويحلم بها وأهله, وعندما عاد إليهم انزاح عنه برد الشمال وجليده. (ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجًا يذوب في دخيلتي, فكأني مقرور طلعت عليه الشمس. ذلك دفء الحياة في العشيرة, فقدته زمانًا في بلاد تموت من البرد حيتانها) واقتران الدفء بالشمس في هذا السياق اقتران الحضور الفردي بالعقل الذي جسّدته الأساطير اليونانية في صورة الإله أبوللو الذي اتخذ شكل الشمس, ورمزت هي إلى حضوره الذي كان يعني حضور النظام والتعقّل والانسجام, مقابل الفوضى والجنون والتطرّف والغموض, الذي يقترن به الإله المناقض لأبوللو, وهو دينسيوس في الأساطير اليونانية. والراوي أبوللوني من هذا المنظور, ثابت, متعقل, يحس - بعد عودته إلى أصله - أنه ليس ريشة في مهب الرياح, وأنه كالنخلة, مخلوق له أصل, له جذور, له هدف, وإذا جاز لنا أن نضع الراوي في صنف النماذج الأبولونية ومصطفى سعيد في النماذج الديونيسية, فإن علينا أن نراجع الصفات التي قرنها السرد بمصطفى سعيد, من حيث هو (إنسان خال من المرح) (آلة صماء), (عقل بارد قاطع كالمدية), فالواقع أن كل هذه الصفات الأبولونية تتضاءل - في مكونات نموذج مصطفى سعيد - بالقياس إلى مكونات الديونيسية, التي تقترن بالعنف والحرارة والتوهج والاندفاع والبدائية والشبق, فتبدو كأنها صفات جنوب, يقتحم الشمال ليحتويه, ويحن إليه كما يحن الغريم إلى الغريم, الذي يريد أن يوقعه في حبائله, صريع رمحه الإفريقي ونشابه ودمائه الحارة, التي زادتها حرارة شمس القارة الحادة. ويبدو أن صفات التعقل الأبولوني في شخصية الراوي هي التي جعلته ينقض أفكار غريمه مصطفى سعيد في غير مرة, ويمضي في الاتجاه المناقض لها, كما لو كان يؤكد حضور العقل الثابت - أو مبدأ الواقع - مقابل حضور المشاعر المتفجّرة أو مبدأ الرغبة الذي يزيح كل ما يقف في طريقه.
وكون أغلب الشخصيات النسائية, التي نراها بعيني مصطفى سعيد, تؤكد غلبة الحضور الأنثوي على شخصيات الشمال, مقابل الجنوب الذي يغلب على شخصياته الحضور الذكوري, أقول إن غلبة الحضور الأنثوي للشمال لا تمنع من ذكر شخصيات رجالية في السرد, خصوصًا في سياق المحاكمة, ابتداء من الادعاء وشهود النفي والإثبات, وانتهاء بالقاضي الذي قال له قبل أن يصدر عليه الحكم: (إنك يا مستر مصطفى سعيد, رغم تفوقك العلمي, رجل غبي, إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة, لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس: طاقة الحب). وكلمات القاضي هي حضور التعقّل الأبولوني, الذي ينقص جنون النشوة الديونيسي في اندفاعاته داخل البقع المظلمة, وهو - من ناحية أخرى - حضور رجالي لإكمال تفاصيل اللوحة المنتسبة إلى الشمال, حيث الغلبة للشخصيات النسائية, مقابل غلبة الشخصية الذكورية للجنوب, ولا يعني ذلك أن النموذج الديونيسي يخلو من العقل, إنه ينطوي على العقل, ولكن العقل الذي يعض ويقطع كأسنان المحراث, والذي يندفع في برود, مخترقًا كل شيء كأنه مدية حادة, لا يستعصي عليه قطع شيء.
المرأة والمدينة
ولا ينفصل عن الدلالة الرمزية لغلبة الشخصيات النسائية على الشمال, اقتران المرأة بالمدينة, أو اقتران المدينة بالمرأة, في عيني الريفي القادم من قرى الجنوب إلى مدن الشمال. ولذلك بدت القاهرة في عيني مصطفى سعيد, الفتى اليافع امرأة أوربية, مثل مسز روبنسون تمامًا, تطوقه ذراعاها, ويملأ عطرها ورائحة جسدها أنفه, ويتكرر الأمر نفسه في لندن, المدينة التي تحوّلت إلى امرأة أخرى, تجلت في هيئة نساء عديدات, قدن إلى قلب ظلمات اللذة, هذا الاقتران بين المرأة والمدينة, لا يمكن فهمه إلا في سياق الجنس, الذي يجعل من اختراق المدينة وامتلاكها بالحواس فعلاً موازيًا لاختراق المرأة وامتلاكها بالحواس نفسها. وهو فعل يقتضي معنى الطراد والمطاردة والغزو والارتحال, الذي لا يهدأ إلى الذروة, التي سرعان ما تنقلب إلى ذروة أخرى تغري بامتلاكها. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يتحول مقتحم المدينة الآتي من الجنوب إلى غاز, مرتحل, أصابه داء فتّاك لا يدري من أين أتى, داء يجعله لا يهدأ, ويندفع محملاً بصحراء الرغبات الجامحة, والانفجار الديونيسي العنيف.
ولكن رمزية الغزو والصيد بالمعنى الجنسي الذي يقترن بالمرأة - المدينة لا تخلو من إيحاءات تتجلى إذا نظرنا من مستوى مواز, هو مستوى العلاقة بين المستعمَر (بفتح الميم) والمستعمِر (بكسر الميم), وهي علاقة عدم تكافؤ, لا تخلو من القمع, وتزرع القمع في داخل المقموع بما يجعله يعيد إنتاجه على نفسه, وعلى مَن حوله, هكذا, يمكن أن نفهم الأثر التدميري لمصطفى سعيد في دائرته الذاتية, وفي الدوائر التي اتصل بها, والتي ينقل إليها بذرة الدمار المنطوي عليه, وحين يتحول المقموع إلى قامع, يعيد إنتاج القمع الذي نال منه على غيره. ولا يعرف هذا القمع المعاد إنتاجه معنى الحب, أو العرفان, في حال مصطفى سعيد, إنما معنى الكره والحياد والرغبة, التي لا ترتوي إلا وتزداد عطشًا, كأن صاحبها ينهل من آبار ملح لا تشبع أبدًا, بل تزيد الظمأ لهيبًا, وتذكّرنا ببيت خليل مطران, الذي يقول فيه: وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء. ولذلك لم تترك أمومة مسز روبنسون أثرًا في نفس مصطفى سعيد, تمامًا كأساتذته الإنجليز الذين ساعدوه في السودان, فتقبل مساعداتهم له بلا عرفان, كأنها واجب يقومون به نحوه, والجذر الأول لذلك العلاقة الغريبة بالأم الغريبة بدورها, فكانت (كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق). هذا الإحساس بالغربة, انقطاع الجذور, هو الذي جعل مصطفى سعيد متوحّدًا, لاشيء يرجعه كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين, فظل بلا انتماء إلا إلى شهوة جسده, ورغبته اللاشعورية في إيقاع القمع على كل من دخل إلى دائرته من النساء, وظل كذلك إلى أن جاءت جين مورس, فبادلته قمعًا بقمع إلى أن حدثت ذروة العنف المدمّرة.
ثأر التابع
ولا تخلو كل هذه التوازيات والتقابلات بين الجنوب والشمال - في رمزيتها الجنسية - من معنى ثأر التابع من المتبوع, المستعمَر (بفتح الميم), المقموع من المستعمِر (بكسر الميم), القامع, حتى لو خرج الثأر عن السيطرة, وتحول إلى قوة غريزية حيوانية بلا عقل, قوة دفعت مصطفى سعيد إلى أن يقول (سأحرر إفريقيا بـ...), وطبيعي أن يحدث ذلك من مصطفى سعيد, الذي استوعب عقله حضارة الغرب. لكنها حطمت قلبه, لأنها حطمت قلب أهله وأصابته بمرض عضال منذ ألف عام, وقد ظل ذلك تعبيرًا عنيفًا عن التمييز الذي أحدثه الاستعمار, منذ أن جعل لغته الإنجليزية مفتاح المستقبل, لا تقوم لأحد قائمة دونها, ولذلك تخصص مصطفى سعيد - الإنجليزي الأسود - في اقتصاد الاستعمار, وكتب ضده كاشفًا عدم إنسانيته وقيامه على التمييز اللاإنساني. وكان متأثرًا في ذلك بمدرسة الاقتصاديين الفابيانيين الذين سعوا إلى تحقيق مبادئ العدالة والمساواة والاشتراكية في الاقتصاد. وهي المبادئ التي سعت إلى مقاومة مرض الاقتصاد الرأسمالي للاستعمار, الذي اقترن بنهب ثروات الشعوب المستعمَرة, ونزف دمائها. ولذلك كانت الكتب التي تركها مصطفى سعيد تحمل عناوين من مثل: (الصليب والبارود), و(اغتصاب إفريقيا), والعنوان الأخير دال في آلية رد الفعل الذي ينقل القمع الواقع على المقموع إلى القامع.
وبقدر ما كان مصطفى سعيد يكتب ضد الاستعمار, من هذا المنظور, الذي لا يخلو من معنى القتال, كان الجنس عنده وسيلة أخرى من وسائل هذا القتال, حتى لو وقع على غير المعنيين به, فالقمع معد كما قلت: وينتقل من فاعله إلى مفعوله, فيعيد المقموع إنتاجه على نفسه وغيره. وكانت مطاردة المرأة, في اقترانها بالكتابة في اقتصاد الاستعمار, رد فعل عكسيًا لقمع الرجل الأبيض (الذي حكمنا في حقبة من تاريخنا), (سيظل أمدًا طويلاً يحسّ نحونا بإحساس الاحتقار, الذي يحسّه القوي تجاه الضعيف). وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تعرف النساء الواقعات في شباك مصطفى سعيد أنهن يرتكبن إثمًا في حق بياضهن بإقامة علاقة مع أسود, زنجي, وإذا جاءت ابنة واحد من البيض, تقول له: إنني سأتزوج من هذا الرجل الإفريقي, فسوف يحس بأن العالم ينهار تحت قدميه, أو يفعل ما توقعته شيلا جرينود عندما قالت لمصطفى: إن أمها ستجن, وأباها سيقتلها, إذا علما أنها تحب رجلاً أسود. والإشارة إلى انهيار العالم, كالقتل في الفعل الثأري, الذي كان يريده مصطفى سعيد, طالب الثأر المطارد لتجليات عدوّه القديم, الذي كان يطارده, والمنتقم منه بوصفه, أي هذا العدو, بدوره, مفردًا بصيغة الجمع أو جمعًا بصيغة مفرد, تجسّده امرأة هي, بدورها, مجلى للمدينة - المرأة - العدو.